مرثيّة إلى بغداد التّمّوزيّة

صدقي شعباني

صدقي شعباني

"لأنّي بكل بساطة لا أريد أن أنسى...

                                 يا حبيبي."

1

أضيّع من لغة الأحياء مجازات الصّمت

شبها  لمشبّه – أصنع من سير حذائي حبالا للقادم من حدقي...

وتصوّر – يا صاح – من فرط العشق

أفكّر في القتل...

من فرط الخوف، وهلوسة السّكر؛ من فرط العبث اليومّيّ،

وفقداني لأزمنتي العضويّة أرتكب الأخطاء تباعا،

من قتل الحلم، لقتلي حتّى أهرب من قلقي، لقتل

النّجمة والتّينة... وقتل اللّغة المسبيّة في حدقي...

ـ يا لغة الأجداد،

يا نكبة روحي توغل في نفسي

كي تحرق أعمدة البيت... ما نفع الرّمز؟!

ما مغزى جمال الأبيات،

وكنايات لأصول لا تحفل بالموت،

وفقد الرّوح لشوق الرّوح ـ

كيف يكون؟!

ـ يا...

فلتسقط يا حرفي الآخر،

فلتصمت يا لفظ التّنزيل من

المقلة /

         للشّهقة /

                   للموجة تهرب من دمعي!!

خجول، يا دمعي اليوم!

خجول، يا حرفي، المكتوب من الزّمن المدبر،

من زمني القاتل...

ـ هل كنت قرأت حسابات الأقدار؟

ـ أو جزت مغاليق الغيب؟

ـ هل كنت عرفت الأوطان جميعا؟

ـ وعرفت النّاس، وموت النّاس؟

ـ وعرفت الأشياء لماذا تغيّر جلدتها؟

ـ ولماذا الأسماء تبدّل أسماء؟

ـ ولماذا تموت الوردة... بيضاء؟

ـ ولماذا التّاريخ يؤرّخ للموت... وللموت فقط؟

لماذا التّاريخ يغامر أحيانا،

               ويغالط أحيانا،

               ويضحك أحيانا... منّا،

وبأظافره البنّية يفتكّ دولاب الحظّ

وقد ضحك أخيرا؟... يا ابن القاتلة،

يا سيف التّاريخ!!

يا ابن السّاحبة منّا البسط،

بساطا وبساطا:

ـ ألا تضحك...؟

ـ ألا تأس قليلا كي ننهي أغنية أخرى /

                                              حزينه...؟

 آه، خجول، يا حرفي،

وقد ماتت ورداتي جميعا... ماتت في كفّي المجدول من التّين

وورق الزّيتون...

الورد يموت، ويبقى الصّفصاف طويلا، يجرح أعضائي

ويعطيني آخر ما يبقى

من بعض حروف أسمعها،

فأموت من التّاريخ إلى التّاريخ؛

والصّمت دولاب لا يرحم...

2

غبار "بغداد"... ورق يتعرّق في صهد الماء، والنّهر – بعيدا – يرحل أحيانا، ويغنّي لسفينة أجداد ماتوا... غبار "بغداد"... والنّهر يسبّح باسم المرميّة يمناه، هناك... بين الحاجز والحاجز؛ يخطئ مرمى التّرتيل، فيهجس بالغيب، ونبوءات الرّيح و"نيسان" القاتل والمقتول... غبار "بغداد"... الألوان... وأحجام الأشياء... صباحات أخرى تمنح للشّمس بدايات الشّوق... عصافير بمناقير قزحيّة... وحمائم بغداد تتأنّى وهي تتغازل في نزق العشّاق... غبار "بغداد"... والنهر يؤرّخ للزّمن الضّالع في البعد، ولليوم الآتي... ما نفع الشّعر؟ وهل يغني الرّمز عن الموت ومن ماتوا جميعا بين حنيني وأنيني؟... غبار "بغداد"... أرقب ما فيها... وحشتها... وظلام اللّيل الحالك... أشباح "سامرّاء"... هل كانــــــوا أحياء... يوما... أم هم نفس الأحياء... هل هم أرواح الموتى وقد عادوا... يقولون بأن الأموات يعودون... في اللّيل يعودون... وعند الحزن يعودون... وفي كلّ الأوقات يعودون... ليشاهدوا من ثقب القلب – مساء – أزهار القلب... ونافذة تزرع خلف مصاريع القلب أفاريز الأزهار... غبار "بغداد"...أشباح "سامرّاء"... هل كانوا أحياء... يوما... أم هم نفس الأحياء وقد عادوا ليشاهدوا أشلاء الموتى... ملايين الأشلاء... "والنّهر المسجور... والماء المجروح حياء... والقاتل والمقتول... والهارب من خوف الموت لموت الموت... غبار "بغداد"... كانت "بغداد" لغة ساميّة... وحروفا أعتقها التّاريخ، فأعطت لكلّ الأشياء معانيها... كان الإنسان... وكان البيت... وكان النّهر... وكانت أشجار الحور... وبئر الصّبر بعيدا... وكانت عين الماء... فصارت عين الدّمع... وصار الدّمع دماء!!... غبار "بغداد"... الملمح والمعنى... والمبنى... قافية الشّعر... وسحر النثّر العربيّ... وما كانت من زمن "الكلدان"... "بابل"... ما بين النّهرين... "سومر"... "أكّاد"... آشور"... كلّها أشياء وإشارات... أثافي... "خماسين"... "إمشير"!!... غبار "بغداد"... من جرح في نبض القلب... من بؤبؤ عينين... من مطر "السّيّاب"... ومن أنشودة "نيسان"... من ألف كتاب أحرقه التّتار... ومن ألف زمان شكّل "بغداد" عروسا لملاحم "جلجامش"... من بعض دموع الغرباء، وقد كانوا لبغداد كما كانت بغداد لبغداد...: الأحزان الجمّة... والفرحة تفتح أبواب القلب، كالنّجمة تكبر في رحم السّحب المنذورة للخوف القادم، فتحاول أن تهرب في حدقي، كي ننأى بعيدا... في بعض شوارع "بغداد"... بلا حرب... من سفن "المغول" وقد عادت... من شطّ "البصرة"... من كلّ دروب "الكوفة"... من خاصرة أعجلها الخنجر، ومن فجر لا يأتي، فتأتي الأحزان بدلا عنه... وتسمع ندبا... وبكاء... تسمع أنّ الماء تبكّته اللّعنات... وتسمع صوت الشّاعر:"يا دجلة، فلتتمهّل، كي أنهي أغنيتي! يا دجلة، يا أجمل من حدقي، فلتتمهّل، كي أنهي آخر أحزاني، وأرحل خلف الأمواج...!!"؛ غبار "بغداد"... تسقط يمناي أخيرا... هل كانت يمناي هي الجاني؟! هل الجاني سواي؟! ولأنّي محوت الوصمة بالبصمة يحرم اسمي من التّعميد، وتعطيني العذراء ودائع حرماني، وتنغلق الأبواب تباعا... وتحاصرني الرّايات... أنا المذبوح – أيا بغداد... أنا القادم رغما عنه... أنا الزّمن السّاحر في حدق الصّبيان... وبدء التّاريخ الضّاحك... وولادات الأشياء... زغاريد أعطتني الشّوق ولهفة أحبابي... أعطتني لكلّ جدار وطوار... ولكلّ دروب "المحروسة"... لكلّ صباح يزرع أمنية، فتفرّع نخلات البيت... وأسمع زقزقة الأطيار، فأعلم أنّ الموت يواسيني... غبار "بغداد"... من أعرف... من كنت عرفت... أحاول أن أهجس باسمه... أخطو... أحجم... أفتح قلبي... وأرمي السّنوات إلى الخلف... أمارس لعبة صلب النّسيان... وأقول لمن يسكنني: لا... لا تهرب "بغداد" من النّبض... وإن هربت تهرب للنّبض الآخر في قلبي... أعرف كلّ الأشياء... وكلّ الأسماء... وسأعرف كلّ الأشياء المخطوفة كالأجفان "المرويّة"... وكلّ الأسماء الممسوخة، من آخر حدّ في "مشهد" إلى الأعتاب المصلوبة في "قم"... غبار "بغداد"... في الحاجز، خلف الحاجز، أبحث عن حرف عربيّ، عن سيف عليّ... أبحث عن شكل الألف المسبيّ... ولام التّعريف... و"عين" – "الفرهيديّ"... وبحور الشّعر... و"باهلة" المجدولة من حدّ السّيف... عن صومعة البصريّ... غبار "بغداد"... يفتح عينيّ الفصل الأوّل... يفتحها المتن، وشريط الإسناد المتعثّر... فأرمّم ذاتي في ذاتي!!... هل يخطئ هذا الإسناد، فيأتي المتن بلا لون... بلا قلب كالوقت المسكوك بأقلام الحبر الأصفر... وعمائم "برويز" القرن الواحد والعشرين... يفتح عينيّ "أبو جعفر"... القرن الأوّل للهجرة... القرن الثّاني... وقرون تتالى... وفي البدء يكون الله... في البدء يكون دم يتعقّب أبناء ذبيح الله... هل يخطئ هذا الإسناد، فيأتي المتن بلا معنى جميل؟!... سيكون عليك الوزر... وسيكتب تاريخ الأنبار سفّاح آخر... فلتضحك كي أغفر للقاتل والمقتول... فلتضحك كي أغفر للشّمس خطاياها جميعا... وأغفر للسّجان لأنّه أعدمني كثيرا، ورثاني ببعض مراسيم الأمسية الأولى... قال السّجّان: - نتساوى الآن... (أوغر صدري قليلا؛ لكنّي أفقت... رسمت على الشّفتين صليبا أخرس... وتقدّمت!!)... قال السّجّان: - ستدخل في القبو الخامس... (جالت يمناه على كتفي، فرأيت دهاليز الخوف، ونار الأزمنة "المرويّة"... "بغداد" حريق... خيط يفصل بين الرّعشة والرّعشة... أحسست بها "بغداد"... ألم الصّفعة يأتيني من جوف الزّاوية الأولى... فأقلّب عينيّ... أرى أحبابي جميعا يقفون... أرى أحبابي جميعا في كفّ السّجّان الآخر... "بغداد" أراها ثانية... جارية تعبر دربا في "الكرخ"... خائفة "بغداد"... وصوت يغرق في الصّمت عيون اللّيل... أرى "بغداد" تجاهد كي تنهض... ما أجمل عينيها!!... وتسقط "بغداد" أخيرا... أرى عينيها تغوران... أرى نهديها ينزّان دما... أرى ليللكها السّاجي في كلّ يد تمتدّ إليها... أرى آلاف الأعين تنهشها... وأرى زهرة "بغداد"... وجها يتقلّص مثل الإسفنج المرميّ على الشّاطئ... أبكي... "يا دجلة، فلتتمهّل كي أنهي أغنيني! يا دجلة، يا أجمل من حدقي، فلتتمهّل، كي أنهي آخر أحزاني، وأرحل خلف الأمواج!!"

3

تفقد جلّ الأشياء معانيها –

لست أريد السّاعة أن أهذي،

لست أريد لآلاف الكلمات...

ولا الأحرف... لا الأصوات...

بأن ترثيني –

لكنّ الأشياء بما فيها،

تبعثرها فوضى الأزمنة "المرويّة" –

تفقد ما فيها...

عبث – يا "بغداد"

أحاورها...

عبث أومن بالخيط الواصل،

والشّعرة لا تقطع:

ـ هل تركوا السّيف،

وجاءوا أيديهم تمنح حكمة "نوشروان"؟

ـ هل أحكموا متن التّاريخ بإسناد التّاريخ،

وساووا بين جميع مدائن "نجران" و"بيسان"،

وبين القصبات...؟

ـ وهل كان "زرادشت" حكيما حقّا؟

ـ وهل كان "زرادشت" يناور بين الظّلمة

               والنّور؟

أم هذا "زرادشت" – وإن كان حكيما:

سيسلّم أنّ الأديان سجال –

وأنّ الغالب مغلوب بالفطرة،

صعلوك يسقطه شيئان:

ـ بيتان من الشّعر

وكرمة "بصرى"؟!

أنا الخاسر في الحرب...

مهزوم في الحبّ؛

أنا المغلوب... على أمري؛

فأومن بالدّم والصّحراء...

وأومن بالجبل الممتدّ من الماء إلى الماء...

وأومن بالموات وبالأحياء...

وأومن بالسّمرة...

وأومن بالجمرة تحرق أوتادي...

وأومن بالثّأر العربيّ /

                يقطع أولادي...

وأومن بالمعنى وبالمبنى...

وبحور الشّعر...

وأنّ لنا مغزى...

[...] أومن / لا أومن [...]

أومن بالأطفال... بالحجر الأسود...

"بمحمّد" / طفلا عربيّا تحرقه النّيران...

و"بفارس"... بالأرض تحاول أن تبقى...

بالوردة... والتّينة...

أومن يا "أحمد" أنّي أخطأت،

وأنّ القرن الرّابع للهجرة درب يتكرّر،

لا فرق إذن بين الفاعل والمفعول،

وكنايات النّابغة الذّبيانيّ

وخطابات الحبّ يدبّجها الشّعراء

في منتزهات "البوسفور"؛

لا فرق إذن – يا "أحمد"

بين النّاقة... بين الأقتاب...

وشدو الحادي؛ لا فرق إذن بين الدّرب

وبين الدّرب؛ وبين الحرب وبين الحرب؛

بين "بسوس" تحرق حيّين ونفط يحرق بحرين

ويشعل عشرين حريقا...

أومن – يا "أحمد" مثلك...

لكنّي رسمت ضريحا لرفاتي –

في "بغداد"،

وفي "البصرة"،

في "الأنبار"... وفي القائم /

وسأرسم تمثال الرّعب

على تلك الأسماء "المرويّة"؛

أنزع عن تلك الأقنعة المكسورة

نار "المجوس"...

أطلق "كسرى" من قبر التّاريخ،

فيضحك في وجهي أخيرا...

أومن:

ـ "حيفا" وأريحا"... والقلب يقاتل،

والدّمعة تسقط من عيني رصاصا؛

أومن:

ـ "النّاصرة" تسقط في أيدي الأعداء،

فترقص كالطّير المذبوح،

لكنّي أضمّد في القلب جراحا

لأنيم اللّيلة كلّ الأطيار المذبوحة...

لأومن – يا "أحمد"...

يا "جعفيّ" أحاول أن أنسى،

فأرى مهن زاوية الخوف القابع في القبو الخامس

طفلا يعبر في درب بـ"الكرخ" وحيدا...

طفلا تسكنه النّيران وحيدا...

طفلا يعدمه الجلاّد وحيدا...

فأخجل – يا "جعفيّ"،

وأرسم خارطة للوطن العربيّ

على قلبي!!

4

اللّيل تمائم من دمع البحر، واللّيل نشيد أغلق دونه أبواب القلب، فأضحك في وجه السّجّان القادم من كلّ جروح "المحروسة"... اللّيل مجال... مجاز هذا اللّيل أكنّي به صور الرّهبة والفرحة... أكنّي به عن روح أفهمها – أعطيها رمادي ووسادي، أعطيها بقاياي الموقوفة خلف الحبل، وخلف الكرسيّ المتخلّع، خلف النّظرات المخطوفة، والأحرف تسقطها الشّفة المغموسة في الإثم "المرويّ"... هذي الرّوح يحاول سجّاني اللّيلة أن يعلو هامتها، فيمحو في الغرفة خطواتي العشر... ومنافذ صمتي... وسريري الملقى بعيدا كالطّيف الهارب في الظّلمة... أعشق هذي الأشياء؛ ولولا يقال أخفناه أفضّل أن أحكم في الغرفة نفسي... أن أبني كلّ الأشياء من الصّفر: العلّة والمعلول... ورفات العقل البشريّ... واللّغة العربيّة من فرحة صمتي... أن أبني أوطانا تبكي الفقد وموت الغرباء... وأن أرسم شطآنا تمنعها الغيرة أن تمنح راحتها لغريب يصلب في الميل الواحد آلاف الشّهداء... أن أنزع أوسمتي... ونياشيني... واللّقب المسكوك من السّنوات المسكونة بالموت، وألبس اسمي تحت الجلد، وخلف النّبض تماما... أن أبعد "بغداد" قليلا... "بغداد" الأخرى: ملايين الأصوات تسبّح باسم الفاتح... والثّورة... والحزب... والقلب المعطوف على عطف اللّهجات الممتدّة من "يثرب" حتّى "ثقيف"... ومن باب "الكعبة" حتّى "الطّائف"... من "إفريقيّة"... "مرّاكش"... "فاس"... "تاهرت"... و"وهران"... ومن منفذ بحر العدوة... "فزّان"... و"تونس"... حتّى "الأزهر"... "نجران" و"حمير"... "البحرين"... "عمان"... من خفق الجبل المنسيّ يولّد من صمت البحر مجاز الرّوح يرمّم خارطة الأجداد... ومن غمد السّيف المسلول يحدّد سمرة بغداد على البحر المتوسّط... والبحر المالح... والبحر الأسود... والبحر هناك... "بغداد" الثّامن والخمسين: نبض القلب وخارج أوزان الشّعر، يحدّد أميال الحلم على الرّايات المرفوعة، والصّوت الهاتف، والوجه المسكوب بلا خجل، في كلّ زقاق، يرفع أسوارا... يسرق نجمات كي يعطي "دجلة" شيئا من عبق الماضي... وجه تقرأ ما فيه، فتسقط أقنعة الإنشاء... وأشكال القول المتقلّب... كانت تأتي الأصنام... مرازبة "الكشمير"... وعطر الأروقة المخفيّة في درّ التّاج الملكيّ... من "لندن"... "باريس"... وغرب "الإطلنطيّ"... فتعلّم أبناء الشّعب نشيد الملكيّة... والنسب الضّارب في فرع التّقديس النّبويّ... هذي الأصنام يؤممها العرق الشّعبيّ، وتعب السّنوات، وماء النّهر الشّاهد، يحمل من بدء التّاريخ شرائع "حمّورابي"... و"بختنصر"... "آشور"... ومن كانوا يجيئون – ملايين على سفح الرّيح، بأقنعة الموت، وسيف الرّهبة... ثمّ يروحون!!... وتسمع صوت الشّاعر:"يا دجلة، فلتتمهّل، كي أنهي أغنيتي! يا دجلة، يا أجمل من حدقي، فلتتمهّل، كي أنهي آخر أحزاني، وأرحل خلف الأمواج!!"... هذا الصّوت – الدّمعة / أحرف "إليوت"... ونهر "التّامس"... "دجلة" يطفو... وما كان يهندس وطن الشّعراهراء؛ فما بعد الأحرف والأسماء سوى النّجمة، سوى الرّحلة، والقلق الدّوريّ... ما خلف الأشياء سكون الشّاعر... هدنته البحريّة... ألفاظ القلب مزامير لا تعرف لغو اللّعنات المصحوبة بالرّمز اللّغويّ، وبالصّمت العاديّ تقول... بصمت التّفّاحة في "الموصل"... وصوت السّنبلة في "واسط"... وصمت العبث اليوميّ يؤطّر نبض الأشياء؛ من بسمة أمّ في الفجر المغلول بنير الشّمس المعبودة تعطي "النّوتة" بهجتها... لوشيش الشّاي على النّار... لطعم الخبز... وشيطنة الأطفال... لأوراد الشّيخ "أبي النّور"... وتمتمة الوالد قبل بداية أهبته لحنين تمتدّ مراقيه على "الكرخ"... وكلّ حدائق "بغداد"... لا جرم اللّغة تؤنس أحيانا... تنقل معنى بالأحرف كي يبقى صريع القبر... وتبقى الأشياء شواهد... واللّغة اليوميّة جنديّ يحرس باب الأعراف... وأشكال القول... يقيم للحرف ممالك حول حدود اللّهجة... هذا جميل!! وجميل أيضا أن نبحث في الحرف عن نسبتنا... عن أثر الأجداد... وقب يتعلّق في القبر كثيرا... وعن "بغداد" التّاسع والسّتّين... و"بغداد" التّاسع والسّبعين... وعن كلّ الأشياء تهندس وحدتنا العربيّة... اللّغة... الأرض... التّاريخ... الشّعب... ومصير الأمّة... والنّفط الحيويّ... ولتسقط أزمنة الحقد "المرويّة"!... هذا جميل... أحبابي!! لكنّ الأمس توقّف... وأرقب أطراف السّاعة... لا شيء... ساعات تتحلّل كالجثث الأشلاء... دقائق هذا الطّابور توارب سوءتها... تتمرّد كي تلحق قاتلها... اليوم تدكّ حصون الإنشاء العربيّ... وترحل ثانية التّاريخ الأولى... تعبر أرقام الفتح جميعا... لتعطي تاريخ الأمّة للثّوب "المرويّ"... ها جميل أحبابي!! اليوم خلاف الأمس... اليوم يلملم مفهوم الوحدة في كأسين... ويشرع في محو الإخوة... لا فرق إذن... كانت "ذبيان" و"عبس"... وكانت "بكر" و"وائل"... واليوم متاريس ترفع في وجه الإخوة، بدل القتلة... وتموت – حبيبي... لأنّك خارج لغو التّاريخ... وإيديولوجيا الحاكم والمحكوم... ونفعيّة الحرب، تراقب عن بعد... وتعرف مغزى الأعداء... "بغداد" التّاسع والسّتّين... "بغداد" التّاسع والسّبعين... دماء... دماء... دماء... دماء!! وأسمع صوت الشّاعر:"يا دجلة، فلتتمهّل... يا دجلة، فلتتمهّا، طي أنهي أغنيتي؛ فمثلي ليس له الوقت ليبني أزمنة الطّلقاء!!"

5

ـ هل تضحك منّي؟؟!

ـ هل تغرق في شبرين من الماء

فلا تسمع "عنعنة" الرّاوي –

لا تسمع زائرتي اللّيلة

تؤلمني...

ليس الوجع الممتدّ من القلب

لعظم في السّاق –

ليست حمّى السّنوات الممرورة،

والقلق الدّامي بين الأشواك المجدولة

في كلّ طريق...!!

ـ هل تسمع صوت الرّاوي؟

تراه يراود أزمن الحزن...

تراه يقلّب أولى الصّفحات...

تراه يرمّم جثث أحياء العرب العاربة...

تراه يقارن بين الأنساب –

من "عدنان" إلى "قحطان"...

تراه يؤلّف بن "نزار" و"ربيعة"

كالجملة تحتجن الأصوات

لتبني صرح الحرف...

لتطلق آلاف الكلمات...

تراه يسافر...

أعرف ذلك من عينيه...

من لون يديه...

وتمتمة تعلو شفتيه...

كان اللّيل يحاصرنا –

كان السّجّان يبعثر آخر أشيائي –

كان الجلاّد يهيّئ مأدبة الأمر "المرويّ" –

و"دجلة" في البعد أراه...

لا يضحك.

"بغداد" أراها تهرب من صوت الجاويش

لا تضحك.

أحبابي أراهم يقفون على التّلة...

أسمع أصواتا في البعد،

وأسمع شيئا كالخوف الهامس:

ـ هل جاء؟!... هل جاء؟!

أسمع أمرا...

ألمح أقداما تتقدّم في اللّيل...

أسمع مفتاح السّجّان يعالج أوتار الأكرة...

وأرى أحبابي...

أسمع في البعد:

ـ صلاح الدّين...

هل تكذب عيناي؟

يكذب سمعي؟

أسمع أحبابي في صوت واحد... في لغة الضّاد المدموغة  بالحزن.. في لغة الضّاد المرصودة للشّعر... لغة الضّاد تسافر خلف "السّيّاب"... و"بلند"... و"نازك"... و"درويش"... و"سعدي"... و"معين"... و"دنقل"...و"خليل"... و"بياتيّ" الأبواب السّبعة... وأسمع "إليوت" اللّغة العربيّة يهتف باسم "صلاح الدّين"... يهتف باسم الحرّية... باسم الخبز... وباسم الموت يترجم عمرا في غرفة توقيف تحسن أن تختم أنفاسي... إنّي أعرفهم... مثل التّين أعرفهم... مثل الزّيتونة أعرفهم... ومثل الخوف العالق في "بغداد" سأعرفهم... القاتل... والمقتول... وسيف الأزمنة "المرويّة"... أعرفهم مثل الكرسيّ المتخلّع... والوجه المخطوف... وحبل المشنقة الصّامت... أعرفهم –

يا "بغداد"...

يا "دجلة" – أعرفهم...

يا "دجلة" –

فلتتمهّل، كي أنهي أغنيتي...

يا "دجلة" –

فلتتمهّل، كي أبكي في صمتي قليلا...

يا "دجلة" –

"بغداد" تموت كثيرا...

يا "دجلة" –

فلتقبل "بغداد" بأن يمحو دمعي دمها...

فلتقبل "بغداد" آخر ما عندي...

"        "بغداد" سأعشقها   /

"بغداد"... فلتأت إلى قلبي ليسكنها!!"