حمص القديسة العمياء

طالب همّاش

طالب همّاش

[email protected]

حمصُ  العصيّة ُليستِ امرأة ً فحسب ُ

كما يظنّ البعضُ

بل قديسةٌ عمياء

مهنتها هي الإصغاء ُللساعاتِ كالرهبانِ

والتحديقُ من شبّاكها المفتوح

في المنأى البعيد

لغربةِ  المتنسّكينْ  .

منذورة ٌأبداً لحزن ٍغامض ٍفي الليل

تغمض ُفوق طيف ِالحبِّ  جفنيها

وتغرقُ في توحّدها الحزين ْ!

في ذلك الصمت الذي يفتضّ ُ

حزن َالروح  ِكالسيف ِالجريح

تجيلُ في دنيا الغروب ِعيونها الثكلى

وتجهش ُبالحنين ْ!

*       *       *

حمص ُالتي شاخت مآذنها العتيقةُ

لم تزل ْقدّيسة َالشعراء ِوالباكينَ ،

تطلق ُفي الغروب حمائم َالعشاق

كي تتذكّر َالماضي ،

وتدفع ُبالنواعير العتيقة ِأمسها المهزومَ

ما زالت مسيّجة ًبصفصاف ٍشجيّ الريح

يحرسُ قلبها المطعون َبالفقدان ِ

فزّاعاتها العمياء ُشاردةٌ

تحدّق ُفي فضاء ٍغامض ٍفي التيهِ

( والذؤبان ُ) تعوي في سراة ِالليل

بحثاً عن ممالكها المضاعةِ ..

لم تزل محكومة ًبنواحها الممتدّ

عبر الناي ِ

من شجر المساء ِإلى أسايَ ..

وليلها المعبود ُمأوى للنفوس ِالباكيه ْ.

*       *       *

ما زالَ يمشي في أماسيها الحزينة ِ

شاعرٌ سكران ُ

يبحث ُعن فتاة ٍضائعه ْ!

ويشقّ ُ مزمار ٌعتيق ٌفي جهات ِالحزن

 أكباد َالليالي الخاليهْ !

ما زال َصوتُ الريح ِينعب ُفي زمان ِالوصلِ

باسم ِحبيبها المفقود ِ ،

والكهّانُ – كهّان ُالكآبة -  جالسين َببابها

كيما يشيخوا

والمراثي جاريه ْ.

فاجلسْ وحيداً في ضفاف ِالعمر

وابكِ على زمان ٍلن يعودَ

مشيّعاً أحزانَ من رحلوا

وصاروا غابرينْ !

وارفع ْوداعكَ للمدينة

قبل أن تبكي عليها الشمس ُ ،

خاطبها بحزنك َنادباً

أن الذين تحبهم  ماتوا

وضاعوا في السنيْن !

فهناك َعند تنهّد ِالأمواج

يجلسُ عاشق ٌ ولهانُ

كي يبكي على زمنِ الحمامصة ِالأوائل

مثل بحّار ٍحزين ْ!

لكأنما الأمواج ُتكرار ٌجريحٌ

للذين تراجعوا عن هذه الدنيا

وناموا متعبينْ .

وكأنها مرثيّة ٌمجهولةُ الأبيات ِ

أنشدها غريب ٌهائم ٌفي آخر الدنيا

ولم تسمع ْ صداها غير أبراج ِالحمام العاليه ْ .

*       *       *

أتكونُ حمصُ شقيقة ُالأمواج ؟

تجلسُ بانتظار ِالريح

كالسفن ِالبعيدة

بينما الأجراس ُتُقرعُ في كنائسِ قلبها

المطعون ِبالندم ِالعميق ْ؟

أبداً يحلّق ُطائر ٌعند الغروب

لكي يذكّرها بماضيها العتيق ْ.

*       *       *

حمصُ العصيّة ،

مريم ُالقمحِ الحصيدة ُبالدموع

مزارةُ العشاق ..

إمرأة ٌرآها الليل ُ سارحة ًمع الغيضات

تصرخ ُ: وا حبيبي

فاشتهى تفّاحها المقطوفَ في النهدين ِ

كالطفل ِاشتهاها

وهي تغسل ُجسمها تحت الكسوف ِالعذب

بالماء ِالقراحِ

وراح َيحرسها كسكّير ٍقديم ٍ

فوق مئذنة ِالمساء النائيه ْ.

حمص ُالوحيدة ُفي لياليها الحزينةِ

والغريبُ بحزنه الطلليّ

صوتُ الريح ِوهي تنوح ُمن شبق ٍعلى الأشجار  ،

والخمر ُالتي تغري فؤاداً يائسا بالإنتحار ْ .

كانت وحيدة َحزنها في النهر

تنفضُ كالإوزّة ِعن جناحيها  الأرزَّ

وتستحمُّ مع الغروبِ

فلا يراها الموتُ إلا شهوة ً مرفوعة

مثل الشموع إلى سماء ِالإخضرار ْ.

وهي المكابدة ُالعميقة ُضدَّ موت ِالروح

ما زالت تجاهدُ بالطواحين ِالكسيرة

وقتها المنهوبَ

خشية َأن يراها الموت ُساكنةً فيهدمها

ويتركها غباراً في غبار ْ .

*       *       *

مستفرداً بالحزن ِقرب جدارها المهدومِ

أبكي في العراء على زمانٍ موحش الأيامِ

والدنيا فضاء ٌضائع ٌفي صوت ِناي ٍ ،

والخليقة ُفي حداد ْ !

فهل المدينة ُكالعشيقةِ

حين يقصدها غريبُ الليل

تحرقُ شعرها في الريحِ عند هبوبها

لتصير َأرملة َالرماد ْ ؟

أم أنها أحبولة ُالأوهام

نوهم ُ نفسنا بغنائها المعتلّ في الأعراسِ

ثم تردّنا غرباء َ

نبحثُ في المنافي عن بلاد ْ ؟

أم أننا أمراء ُهذي البيد

نحمل ُيأسنا

ونظلّ ما بين المدائن رحّلاً

لنصير َمجهولينَ  كالرهبانِ

في شجر السواد ْ!؟

*       *       *

حمصُ التي غرقت بكاملِ حزنها

في البئرِ

ما كانت سوى امرأة ٍ مطعّمة ٍبزهر الموت

قال البعضُ

بل أضغاث ُديك الجنّ في أحلامه ِالشهّاء

قال الآخرون ْ .

هي رحلةُ العمر ِالتي نمضي على عكّازها

قبل الأوانِ ،

ومتعة ُالدوران ِ كالرزنامة ِالحمقاء

حول متاهة ِالأيام والزمن الحرون ْ.

ومدينة ٌمصلوبة ٌفي حزننا العالي

بناها شاعر ٌفي الليل – مجهول ُالهوية ِ–

كي تكون َمحجّة العشاقِ

تنتحب ُالحمائم ُفي مغاربها

ويحرسُ بابها رجل ٌغريب ْ.

... ليست سوى ضربٍ من الهذيانِ

يقصدها المغنّونَ الذين توارثوا

شرب َالخمورِ

ليحفروا في أرضها الأجداثَ

بحثاً عن الموت ِالذي فقدوهُ

لكن الحقيقة َلا تجيب ْ.

دارتْ على أحزانها زمناً نواعيُر الطفولة

ثم صارت وحدها في العمر

تجلس ُكالعجوز ِأمامَ مرآة المغيبْ .