الامتحان
حكايات من الحديث الشريف
يحيى بشير حاج يحيى
عضو رابطة أدباء الشام
في الغابة البعيدةِ
عاش ثلاثة إخوةِ
بالفقر والمذلة
وبالأسى والعلَّة
أوّلهم ذا الأقرعُ
ورأسُهُ يلتمعُ
وأبرصٌ كان معه
وجلدهُ ما أبشعه
والثالثُ الأعمى قضى
حياته مُغمضا
عاشوا وطال الابتلا
داعين يا ربَّ العُلا
هَبْنا شفاء عاجلاً
ونجّنا من البلا
* * *
أتى إليهم المَلَكْ
يُشبهُ شيخاً قد هَلَكْ
وجاء نحو الأقرع
في شكله المُستبشعِ
وقال: يا هذا الفتى
أرفقْ بشيخ قد أتى
واسمحْ له أن يجلسا
وكنْ له مُؤانسا
ردَّ الفتى في قوة
دعني أعالجُ علَّتي
فالناسُ مني نفروا
لأنني مُستقذَرُ
لكنما الشيخُ هَمَسْ
مُبشراً لمن عَبَسْ
تريدُ شَعراً يُفرحُ
وغُرَّةً تُسرَّحُ؟
فلم يَرُدَّ الأقرعُ
كأنه لا يسمعُ
قال العجوزُ: ربّنا
ارزقهُ شَعْراً حَسناً
وقال: يا هذا الفتى
ادعُ الإلهَ مُخبِتا
أعطاهُ ربي ما سألْ
سُبحانه عزَّ وجلْ
وصار عنده بَقَرْ
وشَعرهُ يَسبي النَّظرْ
* * *
ثم مضى للأبرصِ
وفيه عزمُ المخلصِ
لكنما الفتى غَضِبْ
والشيخُ منه يقتربْ
وقال: دعني يا هَرِمْ
وعندَ مثلي لا تُقِمْ
فالناسُ مني نفروا
لأنَّ جلدي قَذرُ
لو كان لي جلدٌ حَسَنْ
لما حَييِتُ في الحَزَنْ
الشيخُ قد مدَّ اليدا
وقال: يا ربَّ الهدى
ارزقهُ ما قد سألا
وهَبْهُ رَبِّ إبلا
تَغَيَّرَ اللونُ القَذِرْ
فصار منه يعتذرْ
فقال: يا فتى اشكُرنْ
رباً كريماً ذا مِنَنْ
* * *
ثم إلى الأعمى وَصَلْ
وهو يعيشُ في الأمل
قال له مُبشراً
قل لي: تحُبُّ أن ترى؟
قال الفتى في فرحة
والدمعُ ملءُ المُقلةِ
أجلْ أحبُّ أن أرى
وأن أعودَ مُبصرا
قال: ستُشفى من عمى
وسوف تُعطى غنما
فعش بها مُنعَّما
واشكرْ لمنْ قد أنعما
* * *
مضى الزمانُ وانقضى
والكلُّ في عيشِ الرضى
وجاء وقتُ الابتلا
والشيخُ جاء سائلاً
مضى لبابِ الأولِ
يدقُّ في تذللِ
وقال: إني مغتربْ
ما ذاقَ أكلاً أو شربْ
وقد أتيتُ راغبا
ومنك عِجلاً طالبا
فأسرتي مُفتقره
فأعطني لو بقره
فأنتَ عندكَ الكثيرْ
لا تبخلنَّ باليسير
هَبَّ وصاح الأقرعُ
وصوتهُ يُجَعجعُ
مالي لقد ورثتهُ
بهمتي نمَّيتُهُ
والشعرُ مُذْ ولادتي
تُكرِمهُ عنايتي
فقال: يا هذا احترسْ
ألستَ أنتَ المبتئسْ
فأنتَ أنتَ الأقرعُ
للخير ظلماً تمنعُ
فأسألُ الله العلي
أن ترجِعَنْ كالأزلِ
ودقَّ بابَ الأبرصِ
في شكلهِ لم يَنقصِ
وقال: إني ذو سَفَر
مُفتقرٌ، وفي خَطرْ
وليس لي من ناقةِ
تحملني لبلدتي
فأنتَ عندكَ الكثيرْ
لا تبخلنَّ باليسيرْ
فصاح وهو ينفجرْ
لا تقربنَّي يا قَذرْ
المال لي، فلتغرُبِ
أعطاه جدي لأبي
كما ورثتُ بَشرَتي
في حُسنها عن أسرتي
فقال: يا هذا احتشمْ
لا تكذبنْ على الهَرِمْ
فأنتَ أنتَ الأبرصُ
لا صادقٌ، لا مخلصُ
فأسألُ اللهَ العلي
أن ترجِعَنْ كالأولِ
* * *
ثم إلى الأعمى حَضَرْ
عليه آثارُ السفرْ
لعل هذا المبصرا
لأمسهِ أن يذكُرا
وقال: جئتُ أسألُ
فهل بشاة تبخلُ؟
أتيتُ كي أُذكِّرا
بمنْ أعاد البصرا
ومَنْ حَباكَ الغنما
وعنك قد ردَّ العمى
فقال: قفْ لا ترحلِ
فما تراه ليس لي
خذْ ما تشاءُ أو دعِ
فما أنا بالمانعِ
قد كنتُ أعمى البصر
مُفتقراً من صغري
فمنَّ ربي ووهَبْ
ولم يُخيِّبْ لي طَلَبْ
فقال: إني المَلَكُ
فاهنأ بما تمتلكُ
أرسلني اللهُ لكم
مختبراً لشكركم
أمسك عليك مالكا
فصاحباك هَلَكا
وفُزتَ أنتَ بالرضى
بذا إلهي قد قضى
معاني الكلمات:
علة: مرض. هبنا: ارزقنا. هلك: تعب. نفروا: ابتعدوا. مخبتاً: خاشعاً. يسبي: يعجب ويُلفت. هَرِم: كبير في السن. الحَزَن: الحُزن. هبه: أعطه. منن: عطايا. المقلة: العين. أجل: نعم. يجعجع: يعلو صوته. نَمّيتُهُ: جعلته كثيراً. احترس: تمهل. العلي: من أسماء الله الحسنى. فلتغرب: فلتبتعد. بشرتي: جلدي. احتشم: تأدب. حباك: أعطاك. دع: اترك. منَّ: أعطى وتفضّل. أمسك عليك: احتفظ به.