رثاء غوطة دمشق
رثاء غوطة دمشق
شعر :فيصل الحجي
ماذا تعْنِي غوطة ُ دمشق ؟ إنه اسْمٌ اختزنتْ فيه المعاني العظيمة:
جَلالُ التاريخ .. وجَمالُ الطبيعة .. والظلّ والأمْنُ .. والمُتعَة ُ ُوالسُُّرور .. والصِّحّة والعافية .. والغِذاءُ والدّواءُ .. والغِنى والثراءُ ....!
غوطة دمشق : غابة ٌ من الأشجار المُثمِرة لِعَشرات من أنواع الثمار ... ومساحاتٌ واسعة لشتى أنواع الحُبوب والخضْراوات ... وكلها تحِيط بمدينة دمشق إحاطة َ الجَنة بأهْلِها .. ولذا كان القدماءُ يَعُدُّونها من عَجائِبِ الدُّنيا السّبع .. وهي تقسَم إلى قِسْمَين : الغوطة الغربيّة والغوطة الشرقيّة .
ولكنّ الفناءَ يَسْري في غوطة دمشق كما تسري النارُ في الهَشِيم .. تزحفُ عليها مناشيرُ وفؤوسُ الجاحدين لخيرها لِتقطعَ جُذوعَها وتقتلعَ جذورَها .. كما تزحفُ عليها مطامعُ تجّار البناءِ لِيَطؤوها بأقدام الجُدران .. وحَوافِر ِ العُمْران .. وهكذا تنقلبُ الطبيعة ُ الغناءُ إلى كُتل ٍ صَمّاءَ مِن الإسمنت المسَلح .. بينما الأراضي الوَعِرة مُهْمَلة ٌ لا يَكادُ يَبْنِي عَليها أحَدٌ ...!
فهلْ حلَّ – أو اقتربَ – ذلك اليومُ الذي تصبحُ فِيهِ غوطة ُ دِمَشْقَ مِنْ المعلومات التاريخِيّة المَنسِيّة كَحَدائق بابلَ وبساتين سَدِّ مأرب ؟
دَفـنـوكِ تـحْـتَ شواهِقِ ِ الجدران ِ نـسَـبُـوا إلـى الحَيَوان ِ كُلَّ جَريمَةٍ أهْـلـوكِ قـدْ بـاعـوكِ دُونَ رَويّـةٍ هـامـوا عَلى سُوق ِ العقار ِ .. كأنهم وَأَدُوا جَـمـالـكِ فِـي خِضمِّ جُمُوحِهمْ وَ اسْـتـنـزَفوا ( بَرَدَى) فجَفَّ مَعِينهُ قـدْ مـاتَ (مَـشـنوقاً) كَمِيتة ِ مُجْرم ٍ بَـلْ مـاتَ مُـنـتـحِراً.. لأنَّ ضِفافهُ فـكَـأنـهُـمْ يَـسْـتـمْطِرونَ عُقوبَة ًً بَـلْ مَـاتَ مَـسْـموماً .. تلوَّثَ مَاؤهُ وَ سَـرى إلـى كُـلِّ الـحَـدائِق ِسمُّهُ هِيَ – إنْ جَرَتْ بَيْنَ الضِّفافِ– مُصِيبة ٌ فـاصْـنـعْ لأنـفِكَ وَاقِياً صَلداً.. فقدْ (بَـرَدَى يُـصَفقُ بالرَّحِيق ِ)(2)..أواقِعٌ تـجْـري الـمَـدامِعُ حسْرَة ًلمَّا جَرى بَـلْ إنـهُ الـطوفانُ.. حَتى خِفتُ مِنْ وَ الـفـجْـرُ وَضـاءٌ..وَ لكِنْ ليسَ فِي وَ تـخَـالُ مـا فـوْقَ الـمَـدِينةِ ظلة بَـلْ وَصْـمَـة تـجري لِتفسِدَ ما بَنى إنْ كُـنـتَ تـسْـمَـعُ لِـلصَّلاةِ أذانها مـا لِـلـمَـصـانِع ِ وَالمعامِل ِ ما لها حَـيْـثُ الـزِّراعَـة ُ لاتجُودُ.. لِتنقِذوا لـكِـنـهـمْ جـحدوا المحاسِنَ فانمحى حـسـنٌ تـضمخَ بالجلال ِ .. وقدْ كَسا حـسـنٌ مـشـى (حـسانُ) في أفيائِهِ حـسـنٌ تـضـاءَلـتِ الشموسُ أمامهُ لـوْ خـيـرَ الـتاريخ ُ تاجاً لاصْطفى كـانَ الـجـمـالُ قرينها .. ثمَّ اختفى مـدُّوا بـسـاط َ الـقحطِ فوْقَ مُرُوجها فـكـأنَّ آثـارَ الـمـعـاول ِ فِي الرُّبا طـرَدوا الـفـراشاتِ التي دَأبتْ عَلى طـرَدُوا الـهَزارَ.. فما سمِعتُ بقفرها وَ صَـريـرَ مِـنـشـار ٍ يَحزُّ شجيْرة طـرَدوا الـبـراءَة ََوَالصفاءَ.. فخيَّمَتْ شـتـانَ بـيـن َ زحام ِ جُُدْران ٍ علتْ غـرَفٌ كـاقـنـان ِ الدَّجاج ِ لِضيقِها * * * آهٍ دِمَـشـقُ ! أسِـيرَة َ الصمتِ الذي مـازِلت ِ في أوْج ِ الصبا.. وَ تجَعدَتْ يـا دُرَّة َ الـدُّنـيـا الـتِـي ما آنستْ وَجدي ب ( رَبوَتها) رَبا.. وَ قدْ اكتوى مـا بـالُ أهـلـكِ لـمْ تعدْ أبصارُهمْ أيـنَ الـوَفـا ؟ مـا بـالهمْ قدْ أدْمنوا زَعـمـوا الـتمَدُّنَ .. وَالتمدُّنُ عِندَهمْ يُـفـنِـي الحياة َ وَ حسْنها وَ عطاءَها خـدّاكِ .. مـا خـدّاكِ ؟ أيـنَ سَناهما (الـغوطتان ِ) .. وَ مَنْ رَأى فيما رَأى مـا هـذِهِ ؟ أعـيـونُ قطعان ِ المها ؟ أمْ ذي قـنـادِيـلُ الثمار ِ تضِيءُ بال بـالـجـوْز ِ وَالتفاح ِ وَاللوْز ِ ازْدَهى بـالـتـوتِ وَالدُّرَّاق ِ والخوْخ ِ انثنتْ بـضَـفائِر ِ الكَرَز ِ الشهِيِِّ عَلتْ عَلى تـلـقـى الغِذاءَ هوَ الدَّواءَ وَمُتعَة َ ال فـي الـظلِّ وَالطعم ِ اللذيذِ وَرَوْعةِ ُال وَ (الـرَّبـوَة ُ) الـغـنـاءُ ثـغرٌ باسِمٌ بـحـرُ الجمال ِ يَطِيبُ في أمْواجهِ ال وَ عَـلـى بـسـاطٍ سُـندُسِيِّ أخضر ٍ لـوْلا هَـوَاؤكِ مـا تـعـلمْتُ الهَوَى هَـلْ زُرْتـهـا وَ جَـلستَ متكِئاً على وَنـظرْتَ حوْلكَ – مااسْتطعتَ – مُتابعاً وَسـمـعـتَ تـغـريدَ الطيور ِ طلِيقة وَ خـريـرَ شـلال ٍ وَ هَمْْسة َ جَدْوَل ٍ عـبَـقُ الـزُّهور ِ يَفوحُ دَفاقَ الشذى وَ تـخـالُ أنـكَ (قـيـصَرٌ) فِي ملكِهِ * * * لـوْ شِئتِ صِحتِ فكنتِ أصدَقَ صادِع ٍ وَ كـشـفـتِ غدْرَ الطامِعينَ شراهَة ً تـرَكـوا القِفارَ بلا بناءَ.. وَ أتخمُوا ال وَلـقـلتِ : ما هذي الصحارى أطبَقتْ مـا قـصَّ أحـشـائِـي قصيٌّ .. إنما أنـا جَـنـة ٌ لـلصَّالِحِينَ .. فما الذي قـالـوا : سَنحْمي ( بيئة ً) وَ نصونها نـامَـتْ نـوَاطِيرُ الكرُوم ِ .. فعرْبَدَتْ سـأظـلُّ صـامِـدَة ً وَ أحْتمِلُ الأذى وَ أظـلُّ أنـتـظِـرُ الـذينَ تعلموا : وَ ضـمَـانُ لـقـمَتِهِ .. وَمَصدَرُ أُنسِهِ فـتـراهُ يُـصْـلِـحُ لِـلجُذور ِ مِهادَها قـالَ الـرَّسُـولُ مُـوَجِّهاً : لا تقطعوا سَـأظـلُّ أنـتـظِرُ السّلامَة َ فِي حِمَى لِـيَـتـوبَ عَنْ جرْم ِ العقوق ِ خلائِفٌ حَـقـي بـأسبابِ الحياة ِ تراهُ في الت غـابَ الأمـانُ لِـغـيبة ِ الإيمان ِ فان |
|
وَ مَـشـتْ عَـلـيْكِ زواحِفُ البُنيان أرأيْـتَ مِـثـلَ جـرائِم ِ الإنسان ِ ؟ وَ تـعَـلـقـوا بـالأصْـفـر ِ الرّنان قـطـعـانُ مـاشِـيـةٍ بـلا رُعيان نـحْـوَ الـدَّراهِـم ِ وَ الـمَتاع ِ الفاني أيَـعِـيـشُ قـلـبٌ دُونـما شِرْيان ِ ؟ فـي (المَرْجَةِ)العَطشى على الشُّطآنِ(1) مِـنْ كُـلِّ أنـواع ِ الـفـسُوق ِ تعاني تـدَعُ الـرُّبـا قـفـراً .. بلا غدْران بـنـجَـاسَـةِ الإنـسـان ِ وَ الحَيَوان لِـتـمُـوتَ شـاكِـيَـة أذى الـخلان وَالـخـطـبُ إنْ كَـفتْ عَن الجَرَيَان هَـبَّـتْ ريـاحُ عـفـونـةٍ وَ صُنان مـاقِـيـلَ؟..أمْ ضـرْبٌ مِنَ الهَذَيان؟ سَـيْـلُ الـمَـفـاسِـدِ فـيهِ كَالطوفان زَبَـدِ الأذى يَـطغى على(الزَّبَدانِي)(3) آفـاقِـهـا..بَـلْ مُـظـلِـمُ الأرْكـان كَـعَـذابِ مَـنْ مَـرَدُوا عَلىالعِصْيان أجْـدادُنـا .. بـحَـمـاقـةِ الـولدان فـالـمَـوْتُ يُـطلِقُ – ثمَّ – ألفَ أذان فِـي عُـمْـق ِ (بادِية ِ الشآم ِ) مَبان ٍ ؟ رئـة َ الـمـدِيـنةِ مِنْ أذى السَّرَطان ِ حـسـنٌ تـمـيزَ مِنْ لدى (الرُّومان ِ ) بـالـعِـزِّ تـاجَ (الـحارثِ الغسَّانِي) فـسـرى الـخلودُ بشعرهِ الحساني(4) لـمـا سـمـا بـلوَائِهِ (المَرْواني)(5) أزْهـارَهـا الـجـزْلـى عَلى الأفنان قـدْ صـارَ (مـجـنوناً) مِنَ الحِرْمان وَ الـقـبْـحَ فـوْقَ جـمـالِـها الفتان (جـرَبٌ) سرى فيها مَعَ (القطِران ِ)(6) تـوْزيـع ِ بـهـجَـتِـهـا بكلِّ مَكان إلا نـعِـيـقَ الـبـوم ِ وَالـغِـرْبان ِ كـانـتْ مَـلاذ َ الـوُرْق ِ وَ الكرَوان سُـحـبُ الـجـفـاءِ وَ ظلمةِ الأدْران بـسـدُودِهـا وَ رَحـابـةِ الـبـستان وَ كَـأنـهـا سِـجـنٌ بـلا سـجـان * * * يَـحْـكـي وَ يفصِحُ عَنْ مَدى الأحْزان قـسـمـاتُ وَجـهـكِ بالدَّمار ِ الجاني حـسـنـاً كـحـسـن ِ رَبيعها الفتان قـلـبي بنار ِ الشوْق ِ في (كِيوان ِ)(7) تـهـوى الـجـمـالَ كسائِر ِ العميان ِ مَـضـغ َ الـعقوق ِ لها بغير ِ توان ِ ؟ (غـولٌ) يـبـيـدُ مـحاسِنَ الأوْطان وَ يُـزيـلُ عِـطـرَ زُهـورها بدُخان مـتـلألِـئـاً بـجـمـالِـهِ الرَّباني ؟ كِـالـغـوطتين ِ عَلى مَدى الأزمان ِ ؟ أمْ أنـجُـمٌ لِـمَـجـرَّةِ ( الـتبان ِ) ؟ عـنـبِ اللذيذِ الفاخِر ِ (الدَّاراني) ؟(8) وَ الـتـيـن ِ وَ الـزَّيـتون ِ وَ الرُّمان أغـصانهُ .. بالمِشمِش ِ (الكِسْواني)(9) أثـداءِ كـمـثـرى بـصَـدْر ٍ حَـان أرْواح ِ وَ الأفــكــار ِ وَ الأبـدان أشــكـال ِ وَ الأحْـوال ِ وَ الألـوان دَوْمـاً .. كبسمةِ وَرْدِكِ (الدَُوماني)(10) إبــحــارُ لـلأبـصـار ِ وَ الآذان ِ رَسَـمَـتْ يَـدُ الأزهار ِ رَوْضَ جنان ريـحُ الـصَّـبـا بـهـبوبهِ أصْبانِي خَـدِّ الـمـرُوج ِ بـرَوْضها الفيْنان ِ ؟ شـتـى مـحـاسِـنـها بكلِّ مَكان ِ ؟ وَ يَـدُ الـنـسـائِم ِ لامستْ بحَنان ِ ؟ سَـبـحَـتْ عـلى أمْواجِهِ العْيْنان ِ ؟ فـتـمِـيـسُ فِـيـهَا مِيسَة َ النشوان ِ عِزّاً .. و (كِسْرى) الفرْس ِ في الإيوان * * * بـالـحَـقِّ .. يـوقِظ ُ غفلة َ الوَسْنان مـنْ يـسـتـغـلُّ تِجارَة َ (الإسْكان ِ) مَـزْروعَ وَ الـمَـغـروسَ بالعُمْران ِ حَـوْلـي مِنَ الإسْمنتِ وَ (الصَّوَّان ِ) ؟ أخـشـى الأذى وَ الـجَوْرَ مِنْ جيرانِي أغـراهُـمُ بـنـوَازع ِ الـشيطان ِ ؟ مـا الـنـفعُ مِنْ قوْل ٍ بغير ِ مَعان ِ ؟ فِـيـهـا الثعالِبُ مِنْ ( بَني رَشوان ِ) وَ أسُـدُّ مَـجـرى الـدَّمْع ِ فِي أجفاني أنّ الـطـبـيـعـة َ مَـلجَأُ ُ الإنسان وَ مَـجَـالُ فـسـحََـتِـهِ مَعَ الإخوان وَ يَـمُـدُّ صَـدْرَ الـجَـوِّ لـلأغصان شـجـراً .. وَلا تـئِـدُوهُ بـالـنيران قـوْل ِ الـرَّسـول ِ وَ شِـرْعةِ الدَّيان رَضََـعـتْ صَفاءَ العيْش ِ في أحْضانِي وْراة ِ وَ الإنــجـيـل ِ وَ الـقـرْآن ِ تـظِـروا رُجـوعَ الأمْـن ِ وَ الإيمان |
ِ
الهوامش:
(1) المرجة :اسم الساحة المركزيّة في دمشق وفيها تنَفذ أحكام الإعدام بالمجرمين شنقاً (2) مابين القوسين تضمين.
(2) مابين القوسين تضمين من قول الشاعرحسّان بن ثابت في الجاهليّة
(3)الزبداني::مصيف إلى الغرب من مدينة دمشق.
(4) الحارث الغسّاني من ملوك الغساسنة
(5) نسبة إلى مروان بن الحكم ، والمقصود بنوأمية
(6) الجرب : مرض جلدي معروف ، والقطران : سائل أسود يصلح دواءً للجرب
(7) الربوة وكيوان موقعان في الغوطة .
(8) الداراني نسبة إلى "دارَيّا" من قرى الغوطة
(9) الكسواني : نسبة إلى "الكِسْوة " من قرى الغوطة .
(10) الدوماني : نسبة إلى "دوما " بلدة كبيرة في الغوطة