هل أنا إرهابيّ

أحمد بسام ساعي

أحمد بسام ساعي

[email protected]

وَرِثَ البيتَ وكَرْمَ البرتقالْ.. عن أبيهْ

وَرِثَ الخيرَ وحُبَّ الضَّيفِ والإيثارَ نَقْلاً عن أبيهْ

وَرِثَ الخوفَ منَ اللهِ وحُبَّ الأهلِ والجيرانِ والإنسانِ والأكوانِ طُرّاً عن أبيهْ

وأبوهُ عن أبيهْ

وإلى خمسين جيلاً عن أبيهْ

*        *        *

في صباحٍ زارَهُ " جارٌ قديمٌ " قائلاً:

أيّها الجارُ الكريمْ..

بعضَ فضلِكْ.. بعضَ أرضِكْ..

بعضَ ما تَملِكُ ممّا لستُ أملِكْ..

.................................

ولأنّ الجارَ لا يملِكُ في قاموسِه كِلْمَةَ " غَدْرِ "

ولأنّ الشمسَ قد طَهَّرَتِ الأرضَ التي يسكنُها مِن كلِّ شرِّ

ولأنَّ الكَونَ لا يَعدُو – بِعَيْنَيْ طُهْرِهِ – طُهْراً بطُهرِ

فَتَحَ الجارُ الكريمُ البابَ والقلبَ لجارِهْ

ثمّ آواهُ بدارِهْ

قائلاً:

" يا ضَيفَنا لو زُرتَنا لوَجدْتَنا          نحنُ الضيوفُ وأنتَ ربُّ المنزلِ "

هذه أرضي أمامَكْ..

فاقتطعْ ما شِئتَ منها فهْيَ أرضُكْ..

هذه بَيّارتي..

فاقتطِفْ ما شِئتَ منها، برتقالي برتقالُكْ..

ذاكَ بيتي، ذاك مالي، ذاكَ حالي، إنّ داريْ هيَ دارُكْ

خُذْ متى شئتَ وما شِئتَ.. فإنّي أنا جارُك..

*        *        *

في صباحٍ.. أحضرُ الجارُ القديمُ ضيوفاً غرباءْ

قال للجارِ الكريمْ:

أيُّها الجارُ الكريم..

ضاقَ بيتي بضيوفي البؤساءْ

لم أجِدْ غيرَكَ يُؤويهمْ ويَشفي كُربتي تحتَ السماءْ

قد جَفَتْهمْ أممُ الأرضِ وكلُّ الأصدقاءْ

......................................

ضحكَ الجارُ لجارِه..

فَتَحَ الأبوابَ والقلبَ على رُغمِ المَكارِهْ

وأقامَ المُستضامون بدارِه..

*        *        *

مَرَّ يومٌ.. مرَّ شهرٌ.. مرَّ عامْ..

والمُضِيفون الكرامْ

ما يزالون كِرامْ

والمُضافون أطالوا المُكْثَ عاماً بعدَ عامٍ بعدَ عامْ..

والكرامْ.. ما يزالون كرامُ..

*        *        *

مرّةً.. بعدَ انتصافِ الليلِ.. والناسُ نيامْ..

رُوِّعَ الجارُ بسكّينٍ وصوتْ..

صارخاً فيه: أنِ انهضْ..

غادِرِ الدّارَ.. أوِ الموتْ..

.................................

نفضَ الجارُ الكريمُ النومَ عن عينيه كي يُنهيْ منامَهْ..

شاخصاً فيمَن أمامَه..

لم يُصَدِّقْ..

لم يُصدَّقْ أنّه الضيفُ الذي قاسَمَهُ حتّى طعامَهْ..

*        *        *

هَتفَ الجارُ الكريم:

أيّها الجارُ القديمْ.. ودعاهُ وَجِلا..

أوَتنسَى ذلك الجارَ الذي أعطاكَ يوماً أملا ؟!..

أوَتنسَى أنّني ما قلتُ يوماً لكَ: لا ؟!..

حينَ عَزَّ الأصدقاءْ..

حين ضاقوا بكَ ذَرعاً لم تَجِدْ غيريْ يُناديكَ ويُؤويكَ.. ولا في الأقرباءْ..

هكذا يَجزي الكريمُ الكُرَماءْ ؟..

...............................

وتَعالَتْ ضِحْكةٌ مُصْفَرّةٌ تَقْطُرُ غَدرا

ثمّ رَشّاشٌ لئيمٌ يَنثُرُ القَسْوةَ نَثْرا:

أصدقاءٌ.. أقرباءٌ.. كرَماء!!..

ها ها ها ها ..

أنتَ أغبَى الأغبياءْ..

طا طا طات..

وتَعالَتْ طَلَقاتْ..

طَلَقاتٌ طَلَقاتٌ طَلَقاتْ..

وبلحظةْ..

طارَ مِن تفكيرِه كلُّ أساطيرِ العُروبةْ..

مِن سَخاءٍ وإخاءٍ ووفاءٍ ومُروءةْ..

حينَ ألْفى أهلَه صَرعَى رَصاصاتِ الذّئابْ

وهْوَ مَرْمِيٌّ ككلْبٍ أجربٍ بالبابْ..

بادئاً فصْلَ العَذابْ..

*        *        *

خرجَ الجارُ الكريمْ..

يشتكي الجارَ اللئيمْ

ملءَ فيه صرخةٌ في " العالَمِ الحُرِّ " العظيمْ:

أيُّها الناس..

أيّها الناسُ أعيدوني لأرضي ودياري..

أيُّها الناسُ أعَدْلٌ غَدْرُ جيرانٍ بجارِ ؟..

أيُّها الكِبارُ والصغارُ والأخيارُ والأشرارُ والكُفّارُ والأبرارُ والفُجّارْ..

اِسمعوني.. اِسمعوني.. إنّني سُرِقْتُ في رائعةِ النّهارْ..

إنّني الثائرُ مِن أجلِ الذِّمارْ..

وأنا المؤمنُ بالحقِّ وبالعدلِ وتقديسِ الدّيارْ.. يارْ.. يارْ..

صرخةٌ في وادْ...

..........................

بَصَقوا في وجهِه المعصورِ آلاماً ويأسا

حبَسوا في حَلْقِه الصرخةَ حَبْسا

وقفَ الأصحابُ خُرْسا

تركوهُ يصطلي ناراً وبُؤسا

وأشارَ الجاحدون الجاهلون الجائرون إليه قائلين:

تِيروريْسْتْ...

*        *        *

تِيروريْسْتْ ؟!!..

أأنا الذائدُ عن حَوضي ؟!..

أأنا الذائدُ عن أرضي وعن عِرْضي ؟!..

أأنا المقهورُ المنبوذُ المغصوبُ الحقِّ.. البيتِ.. الصوتِ.. أُسَمَّى تِيروريْسْتْ ؟!

والغاصبُ.. ناهبُ أرضي، سالِبُ عِرضي، سارقُ بيتي، صاحبَ حقٍّ صار ؟!!..

يا لِلعارْ..

الرحمةُ للتاتارْ..

الرحمةُ للنازيّةْ..

الرحمةُ للأعرافِ الإنسانيّةْ..

إنسانيّةْ ؟!... نيّةْ.. نيّةْ...

أيّةُ إنسانيّة ؟..

إنسانيّةُ مَن يَدْعُونَ اللصَّ شريفاً والمغتصبَ مُناضِل ؟...

إنسانيّةُ مَن يَدْعُونَ الباطلَ حقّاً والحقَّ الباطلْ ؟!

مَن يَدْعونَ القاتلَ شَهْماً والشهْمَ القاتلْ ؟..

الهمجيَّ الوالِغَ في أرواحِ الأطفالِ العُزَّلِ والنِّسْوةِ.. متحضِّرْ..

والمتحضِّرَ حامي الأعراضِ ومُقْريْ الضَّيفِ ومُؤويْ المُتشرِّدِ همَجيّا ؟!..

ولهذا سَمَّوني إرهابيّا ؟!

لا بأسَ عليكمْ.. لا بأسْ..

ذُلُّوني.. غُلُّوني.. شُلُّوني..

لكنْ..

اِسمعوني..

اِسمعوني أيّها الناسُ هناكْ..

مَن أصَرُّوا أنْ يُصِمّوا الأذْنَ عن مَناحَتي

وأرادوا – عامدينَ – الحَطَّ مِن كرامتي

وأنْ تقومَ قبلَ يومِها قيامتي

اُقلُبوا الكونَ على رؤوسِنا.. والشمسَ والنّجومَ والمرّيخْ..

زَيِّفوا الألوانَ في دمائنا.. وزَوِّروا التاريخْ

اُخنُقوا الأصواتَ في صُدورِنا

أَهرِقوا الحياةَ مِنْ كؤوسِنا

اِجْلِدوا كلَّ كُرَيّاتِ الدّماءِ في عروقِنا

وأجِّجوا النيرانَ في عيونِنا

وذَوِّبوا جُلودَنا بالنّارِ والبارودِ والحديدْ

فمِن سعيرِ النارِ والحديدْ..

نُولَدُ مِن جديدْ