قصيدة القصائد
إلى كلّ من فقد أمه .. أو سيفقدها
أ. د. أحمد بسام ساعي
ألقى الشاعر هذه القصيدة في المركز الثقافي بمدينة اللاذقية يوم 25/11/2000 خلال الحفل التأبيني الذي أقامه اتحاد الكتّاب العرب في سورية لوالدته الشاعرة فاطمة حدّاد التي رحلت ليلة الاثنين 26-27/3/2000
"الناسُ نِيامٌ فإذا ماتُوا انتَبَهوا"
(حديث شريف)
وانتهى الحُلْمُ وانتبهتِ من وتـهـيّـأتِ لـلرحيلِ سريعاً وتـلـفّـتِّ تـبحثين عن الدّا أيّها الراجعونَ مِن رِحلةِ العُمْرِ إنّـهـا رِحـلةُ المَعادِ إلى البَدْ | النّومِ وأزمـعـتِ لـلـترابِ مآبا وهجرْتِ الورى وجُزْتِ السَّحابا رِ... لـعلّ الثَّرى يُحِيرُ جوابا أنـيـخوا عند الرحابِ الرِّكابا ءِ فـهـيّـا وهـيِّئوا الأنْخابا |
أترعوه..
أتـرعـوا كأسَها رحيقاً وانفَحوها مِن كلِّ عِطرٍ لديكمْ أتُـراهـا قد صََوّحتْ جَنّتاها وانـطوتْ أغنياتُها فاسترابتْ أيّـها السائلون عن عُمْرِ أمّي عُـمْرُها عُمْرُ روضةٍ نفَحَتْنا إنّ عُمْرَ الحياةِ مِن عُمْرِ أمّي | مُذاباوانـثُروا عندَ رأسِها واسـألوها فقد تُطيلُ الغِيابا: فانتوَى رَوضُها الأثيرُ احتجابا رُوحُـها مِن يَراعِها واسترابا والثمانين.. قد أسأتُمْ حِسابا[1] وسـنَروَى مِن عِطرِها أحْقابا كـلّما زِدْتُ منهُ زادتْ شبابا | الأطيابا
نشّأتْني دهراً..
نـشّـأتْني فأَحكَمَتْ كان في كلِّ صيحةٍ بي أمانٌ إنّـها وحدَها الأمومةُ تُعطي إنّـها وحدَها الأمومةُ تُحْصَى إنّـهـا حينَ تُغلِقُ البابَ عنّا كـلَّـمـا عنَّ ليْ بُكائيَ منها إنّـهـا وحـدَها تموتُ لنحيا | قَبضتَيهالـم تُـوفِّرْ صَرامةً أو وبِـحِـرمانِها جَنيْتُ الرِّغابا حينَ يبدو العَطاءُ منها استلابا كـلُّ أخـطائها علينا صوابا يـفـتـحُ اللهُ ألفَ بابٍ وبابا زِدتُ حُبّاً لها وطِبْتُ انتسابا هـل عـرفتًمْ لمثْلِها أضرابا | عِقابا
يا فاطرَ السموات..
أنـتَ يا فاطرَ السمواتِ والأر رُعْـتَ بالمُعجزاتِ خَلْقَكَ حتّى وزَرعْتَ الإحساسَ والحبَّ فيهمْ لـكـنِ الأمُّ والـعواطفُ، منها | ضِ ومُعْيِيْ المستغربِ استغرابا عَـجِزوا عن إعجازِها إعرابا والـسّـجـايا ما لَذَّ منها وطابا ولـهـا، أعْـيَتِ النُّهى إغرابا |
وظيفةُ أمّ..
لو خَلا الكونُ مِن "وظيفةِ" لـو خَلا البيتُ مِن وَداعةِ أمٍّ لـو خَـلا المهْدُ مِن ترانيمِ أمٍّ لـو خَـلَتْ أمّةٌ منَ الحُبِّ للأُ ولَـجَـفَّت نفوسُها مِن حَنانٍ واستَوَتْ عندَها الجَهالةُ والحِلْ | أمٍّلاسـتـحـالتْ رؤوسُنا أذنابا لـرأيـتَ الحُمْلانَ فينا ذئابا شَـبَّ أطـفالُنا عِطاشاً سِغابا مِّ رأيْـتَ العُيون فيها نِضابا واسـتحالَ الخَضارُ فيها يَبابا مُ وضَـلَّتْ إلى العُلا الأسبابا |
أميرةُ الحبّ..
أخبريني..
أخـبريني أميرةَ الحُبِّ: هل أوْ تُـرَى تُـمطِرُ السماءُ حناناً وتُـغنّي الطيورُ نَشْوَى بروضٍ هل تُرى الياسمينُ يُزْهِرُ مِن بَعْ وزهـورُ الليمونِ تَنبِضُ بالعِطْ | بَعْدَكِ يـبـقى الأحبابُ ليْ والـيـنـابـيعُ تستمرُّ انسكابا عـادَ يشكو بعد الرحيلِ اكتئابا دِكِ والـفُـلُّ يَـحْضُنُ الأعْتابا رِ فـينسابُ في الضلوعِ انسيابا | أحبابا
.. الله
أخبريني، أميرةَ العفوِ، ويسمّي الهضابَ عندي جبالاً ويسمّي الإخفاقَ عندي نجاحاً | عنّي:مَن يُسمّي التّلالَ عندي هِضابا والسواقيْ الصِّغارَ بحراَ عُبابا ويـسـمّي النجاحً أمراً عُجابا |
تَشْحَذُ العزائمَ فينا..
إنّها الأمُ تَشحَذُ الرّوحَ مِنّا إذْ تُفِيضُ الثّناءَ والإعجابا
وحدَها..
وحدَها الأمّ..
وحدَها دائماَ تُواصِلُ فينا مِن ثَراها المِيلادَ والإنجابا
أميرةُ الحُسْن..
أخـبريني أميرةَ الحُسْنِ عن أيُّ حِـضـنٍ أُرِيْحُ رأسي عليهِ أنـتِ حُـبّي فمُذْ تواريْتِ عنّي وتساوتْ عندي تضاريسُ عَيشي: أجَـمـالٌ؟ ما عُدْتُ أرجو جَمالاً فـالـمَـسَـرّاتُ والـمآتِمُ سِيّا يـسـتوي عنديَ الزّمانُ فلا أعْ يـسـتـوي عنديَ المكانُ فبَيتي وتـصـالـحتُ والحياةُ مع المَوْ هـكـذا مـوتُـهـا يُـحَيِّدُ أبعا والـرّجـالاتُ والـوجوهُ سواءٌ | نَفسـي وذُودي عنْ مُقلتَيَّ الضّبابا بعدَ أن غاضَ حِضْنُ أمّيْ وغابا أصـبـحَ الـخَـلْقُ كلُّهمْ أغرابا أثـنـاءٌ سـمِـعْـتُـهُ أم سِبابا أو رَبابٌ؟ ما عُدتُ أهوى الرَّبابا نِ، وعَـذْبـاً مـا ذُقْتُهُ أو عَذابا بـأُ عـامـاً أعـيـشُ أو أحْقابا مِـن قَـصِيِّ النجومِ زادَ اقترابا تِ فـعُـدْنـا فـي حَـيِّنا أتْرابا دي فـأنسَى الأعداءَ والأصحابا لا مَـقـامـاً أعـي ولا ألـقابا |
هكذا المَوت..
هكذا الموتُ، لا كبيرٌ فيُستَث نَى ولا مُحتَفىً به فيُحابَى
الآن..
بعدَ سِتّينَ عاماً..
أُدرِكُ الآنَ بـعدَ سِتّينَ مـنـذُ فارقْتِني نَعَيتُ حياتي إنّ طَـعمَ الأشياءِ عادَ غريباً | عاماًأيَّ ضَوءٍ قد كُنتِ ليْ فـأنـا اليومَ لا أُسيغُ شَرابا في لساني، وشَهدَها عادَ صابا | وشِهابا
فـي شِـتاءِ الحياةِ كنتِ في الأعاصيرِ كنتِ جُدرانَ بيتي كـنـتِ نَسْغَ الحياةِ في شَرَياني كـنـتُ إذْ تَسْمعينَ شِعْري كأنّي كنتِ ذَوقي وكنتِ لحني وسَمْعي وبـأُذْنَـيَّ أيـنـمـا أتـولّـى فـلـمـنْ أقرأُ القصائدَ مِنْ بَع و "الهوى والشبابُ" معْ مَنْ أُغنّي إنّ لـلأمّـهـاتِ روحـاً دفيناً | ربيعيوبـبـردِ الأحـداثِ كنتِ ولِـسَـيفيْ الجَهيدِ كنتِ القِرابا وبـبحرِ الأحْزانِ كُنتِ الرُّضابا أقـبِـسُ الـوحْيَ منكِ والآدابا بـعـدَ أُذْنَـيْكِ عُدْتُ كَلاًّ مُعابا غُـصّـةٌ تَحْسَبُ الغِناءَ انتحابا دِكِ يـا أمَّ أو أخُـطُّ خِـطـابا هـا عَـشِيّاً وقد عزَمْتِ انسحابا لا نَـراه حـتّـى يَلِجْنَ التُّرابا | الثيابا
يا رِضا الأمّ..
يـا رِضـا الأمّهاتِ أنتَ ورِضا الأمّهاتِ بعضُ رِضا الل | نعيمٌقـد عَـجِـزْنـا لسِرِّهِ استيعابا هِ، فـإمّـا أجَـبْـتَهنَّ استجابا |
أيْ بلادي..
كُـنتِ ليْ حبلَ سُرّتي كـان فـي لاذقـيّةِ الحبِّ بيتٌ كـان فـي لاذقـيّتي ليْ مَراحٌ فـإذا الأرضُ بـعدَها أنكَرَتْني | لبلاديكـيف أرجو إذا ذهبتِ ليْ، فأضحى مِن بَعْدِ أمّي خَرابا أَقْـطَـعُ السَّهْلَ والذُّرى والغابا ووجـوهٌ أنـكرْتُ فيها انقلابا | إيابا[2]
هاتِفي..
أيُّها الهاتفُ الجَحودُ تَكلّمْ ففؤادي لبَوْحِها العَذْبِ ذابا
أيَّ رَقْمٍ أُدير؟..
أيَّ رَقْمٍ أُديرُ كي يتناهى صوتُها لي؟ فقد ذُبِحْتُ ارتقابا
آه..
هـاتفٌ؟.. أيُّ هاتفٍ أيـن مـنّيْ تلهُّفٌ أو جوابٌ وكتابٌ أتلوه.. بعد كتابِ اللـ | أرتجيهبـعـدَ أمّـي فيَشفيَ الآرابا بـعدَها لم أَعُدْ أرَجّي جَوابا هِ مـا عُـدْتُ أسـتـلذُّ كتابا |
أمّاهُ أمّاهُ أمّاهْ..
إيـهِ أمّاه.. كم شَجَتْكِ حَـمّلوا قلبَكِ الضعيفَ هموماً فهوى راكعاً إلى الأرضِ يشكو | شُجونيونـزَفْـتِ الدموعَ مِـن جـبالٍ ولوعةً واغترابا طَـعَـنـاتٍ تـغتالُهُ وحِرابا | والأعصابا
قَدَرُ الأمّهاتِ.. آهاتُ.. آهاتْ..
قَدَرُ الأمّهاتِ وَضعٌ ودمْعٌ وليالٍ تُفني الرجالَ الصِّلابا
الله..
حكمةُ الله..
حكمةُ اللهِ أنْ يموتً معَ المَيْ لـو بكَى راحلٌ لحُزْنِ بنيهِ ولأسْـمَعْتِ كلَّ حيٍّ صُراخاً كـلُّ سَلوايَ بعدَ موتِكِ أنّي | تِ شُـعورٌ يزيدُ فيه لأذَبْـتِ الـعيونَ والأهدابا ونـحـيـبـاً يُحيّرُ الألبابا إنْ تُوُفّيتُ لن تموتي ارتعابا | العَذابا
إيـهِ أمّاه.. لن تزالَ كيف أرجو مِن بَعدِ أمّي حياةً كـيف أختارُ قِبلتي واتّجاهي كيف تحلُو ليَ الحياةُ ونصفي خِـلْـتُـني كلّما وطِئْتُ تراباً | جراحيتـتـأبّى على الزّمانِ غِضابا لا أرى بَـعـدَهـا لها أسبابا إذ فـقـدتُ الإمـامَ والمِحرابا تحتَ هذا الترابَ أضحى تُرابا أسـمـعَتْنيْ منَ الترابِ عِتابا |
نحن لولا الإيمان..
نحن لولا الإيمانُ لا شيء..
نحن لولا الإيمانُ صَرعَى أسانا فبإيمانِنا نَرُوضُ الصّعابا
اِسمعي..
اِسمعي..
تسمعينَ أمّاه؟!!
تسمعين الخُطا تُعربِدُ فوق السـ طحِ؟ فالصاخبون جُنّوا اصطخابا
ونَسُوا الموتَ بعدَ دفنِكِ حالاً..
نُسِيَ الموت..
فحسوداً وسارقاً وخَؤوناً وظَلوماً وجاحداً كذّابا
نُسِيَ الموت..
نُـسِيَ الموتُ في ثوانٍ.. ولـسانٌ ما زالَ يَنهَشُ في عِرْ ويـدٌ خـلـفَـهُ تُـريـدُ أذاهُ ويـدُ الموتِ خلْفَ كلِّ الأيادي لـعبةُ الموتِ والحياة.. فما أح | فهذايُسْرعُ الخَطْوَ كي يُصفّيْ حِسابا ضِ أخـيه.. أصابهُ ما أصابا ويـدٌ خـلـفَـها تريدُ انتهابا أوشـكـتْ أن تصادرَ الأسلابا مـقَ مَن ذاقَ عَيشَه فاستطابا |
أيّها الهاجعون.. هيّا.. أفيقوا..
أيّـها الهاجعون عن زائر كيف يرجو امرؤٌ حَلاوةَ عيشٍ أيّها الراتعون في الأرضِ هَوناً إنّـه فـي الـديارِ ينتظرُ الأمْ حـامـلاً سَطوةَ الرّدى بيديهِ تاركاً في قرارةِ الأرضِ جُرحاً إنّـه الـمـوتُ لن يُوفِّرَ نفساً واسـتـعدّوا ليومِ أمرٍ وشيكٍ | الموتِ أفـيـقوا وأشرِعوا ورَحـى الموتِ كشّرَتْ أنيابا أيـن تَبغون؟ قد خَطا الأعتابا رَ لـطَـرْقِ الأبوابِ باباً فبابا وبـعـينيه صرخةً واضطرابا هـيّـأتـهُ لـنا المَنونُ رِكابا فاكسِروا الدُّفَّ واقلِبوا الأكوابا نـسـتـوي فيه شِيبةً وشبابا | الأبوابا
الله..
أنتَ يا موتُ رحمةٌ، نحن لولا أنتَ يا موتُ نِعمةٌ، نحن لولا ولَـزادَ الـعـالُونَ فينا عُلوّاً واسـتـشاطَ البغاةُ بَغْياً وكِبْراً أنـتَ يا موت.. بلسمٌ للبرايا | كَ لـضـاقـتْ حياتُنا كَ لَـزِدنـا مَـرارةً وانتكابا وانـتـهاكاً وقسوةً واغتصابا وأقـامـوا نـفـوسَهم أربابا لو تركْتَ الورَى أتَوكَ طِلابا | إرهابا
أمّاهُ أمّاهُ أمّاه..
أنتِ تَمْضِينَ.. وأبقى؟!
لَـهْفَ نفسي عليكِ يا أمَّ فـي بـكائي عليكِ أبدو صبيّاً أنا أبقى يا أمَّ – ما دمتِ - طِفلاً فـعـن الـثغرِ قد نفيتُ ابتساماً إنّ مِـن رحـمـة الإلـهِ علينا فـإذا مـرّتِ الـلـيالي علينا | تمضينَ وأبقى؟! ما زِلْتُ أغلي كـلُّـنـا في رحيلِها "يتصابى" فـإذا مـا رحـلْتِ شِبْتُ وشابا وعن الشيبِ قد أزَحْتُ النِّقابا[3] أنّ مـوتَ الـحبيبِ يبدو سَرابا أسْـفَرَ الصُّبحُ واكتشَفْنا المُصابا | ارتيابا
أنتِ يا قصيدَ القصائد..
يـا قصيدَ القصائدِ الغُرِّ تنئي كنتِ كالروحِ تَبعثين الأغانيْ كنتِ كالطيرِ يُنشِدُ الشِّعرَ عفواً كـنتِ كالنَّسْرِ تَنْشُدين المعالي ثمّ حَلَّ المَغيبُ فاخترتِ رُكْناً هـكذا شئتِ أن تموتي وُقوفاً شـرفُ الموتِ أن تَظلَّ كبيراً | نَ وتَـبقى الآفاقُ منكِ مِـن حـنـايـاكِ فِتيةً أنجابا لـم يـكـن خـائفاً ولا هَيّابا حـولكِ الطيرُ تهتدي أسرابا فـي الأعالي يُغِيرُ منه العُقابا وكذا الصافناتُ تَهْوي انتصابا أخـطأ الحيُّ حُكمَه أو أصابا | خِصابا
يا إلهي.. إنّ كنتُ أرجو ثواباً فـي نـعيمٍ يضمُّنا فيه بيتٌ سـوف أبـقى هنا وفاءً لعهدٍ ثـمّ أُفضي هناك فرداً وحيداً | فـاجعلِ الملتقَى بأمّي لا نُـعـاني موتاً به أو غيابا لـيْ مـعَ اللهِ أبـتغيه المَتابا عـنـد ربٍّ نَعنو إليه الرِّقابا | الثوابا
هكذا تركضُ الحياةُ، إنّـما العمْرُ ساعةٌ أو ثوانٍ إنّما المَرْءُ صفحةٌ في كتابٍ | فطفلاًفـشـبـاباً، فشِيبةً، ثمّ نَمضي.. كما أضأتَ ثِقابا وسـتطوي الأيّامُ هذا الكتابا | فترابا
[1] ولدت هذه القصيدة إثر إشارة استخفاف أبداها أحد معارف الشاعر حين علم بأنّ أمّه توفيت عن 83 عاما.
[2] كان الشاعر قد ترك وطنه قبل عشرين عاما من وفاة أمه. وما يزال يعيش في بريطانيا
[3] إشارة إلى إطلاق الشاعر لحيته البيضاء ساعة وصول نبأ وفاتها وهو في الغربة