من مقومات الكتابة علم البيان

التشبيه – الاستعارة – الكناية – المجاز المرسل

clip_image002_792d1.png

الحمد لله الذي علَّمَ بالقلم ، علَّمَ الإنسانَ مالم يعلم ، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمَّد الذي هدانا إلى الصراط الأقوم ، وعلى آله الأطهار وصحابته الأبرار ، ومَن اتبع هداهم إلى يوم الدين ، وبعد:

في زمن العزوفِ عن القراءة ، والابتعاد عن مناهل المعرفة ، والانسياق وراء مكاسب وقتية ألهت الناس ــ والشباب بشكل خاص ــ عن الالتفات إلى غِنى مالدى أمتهم من رصيد فريد من القيم الإسلامية الإنسانية ، المدوَّنةِ في أسفارٍ يعجزُ المرءُ عن عدِّها وعن حصرِالمجالات التي أبدع فيها العلماءُ والأدباء والكُتَّابُ من سلف الأمة ، ومَن جاء بعدهم حتى زماننا هذا ... حيثُ تعيد حالُنا الراهنة سببَ اهتمام الأولين بالقراءة والكتابة ، وأخذهم بتعليم أبناء الأمة وتعويدهم على القراءة والكتابة منذ نعومة أظفارِهم ، وتشجيعهم لمَن تصدَّى للتدوين إلى إتقان مهارات الكتابة ،والأخذ بعناصر الجودة ، ليكون النَّصُّ إناءً جميلا للقيم والمآثر ، حريصا على استيعاب التجارب الإنسانية ، حافظا للأحداث ، بعيدا عن التعقيد الذي يكرِسُ الغموض ، فينأى عن الفائدة المرجوة للقارئ الذي يتشوَّقُ إلى مايفتح أبوابَ الأمل ، ويتخطَّى وطأة اليأس ، ويقود خطاه نحو إشراقة البشارة الحانية ، واليقين بفضل الله ... في الولوج إلى ميادين السعادة والطمأنينة .

والجاد في تهيئة نفسه للكتابة ... معنيٌّ بهذا التَّوجُّه ، جدير بهذا الاستعداد ، مدعوٌّ لتقويم تطلعاته ، ولقد أحسن القائل :

ومَنْ يصطبرْ للعلمِ يظفرْ بنيلِه ومَن لايُذلَّ النَّفسَ في طلبِ العُلا   ومَن يخطب الحسناءَ يصبرْ على البذلِ يسيرًا ، يعشْ دهرًا طويلا أخا ذلِّ

وفي هذا وذاك دعوةٌ جادةٌ ــ مرَّة أخرى ــ لرواد الكتابة في أي مجال ...  إلى إتقانِ لغتهم العربية الأثيرة ، والتَّمكن من عناصر ضبطها ... فهذه العناصر لابدَّ منها لصحة الكتابة ، وصحة النطق . فإنَّ الذي لايعرف قواعد النحو مثلا لاتستقيم لديه صياغة الجمل ، ولا سبك العبارات ، ويصدق هنا أيضا قولُ القائل :

النَّحوُ يُصلحُ من لسانِ الألكنِ وإذا طلبْتَ من العلومِ أجلَّها   والمرءُ تكرمُه إذا لم يَلحَنِ فأجلُّها نفعًا مُقيمُ الألسُنِ

وما يُقال عن قواعد النحو يقال أيضا  عن قواعد الإملاء وعن مواطن استعمال علامات الترقيم وكتابة الأعداد ، والأخذ بالأساليب البيانية ... وغير ذلك من عناصر الكتابة ، وإن الذي يجهلها يعجز عن كتابة النص الصحيح في أي محور من محاور الكتابة ، ناهيك عن أن يكون النص جميلا موحيا مؤثرا .

الكتابة في حقيقتها إخبارٌ و تقويم وتوجيه لحياة المجتمع ، تتحدث عن ماضيه وتعالج  واقعه ، وتستشرف مستقبله ، وتصوغ آماله وآلامه ، وتجدِّدُ في نفوس أبنائه العزائم ، وتثير المشاعر ... فلا بدَّ من أن تكون على جانب من القوة في التعبير ، والجزالة في الأسلوب  ، والدقة في الصياغة ، وهذه لاتتأتَّى إلا لمَن ملك زمام تلك العناصر التي لاتصح الكتابة إلا بها ، وإن الذي يطمح  بالكتابة عن قيمنا ومُثلنا وينطلق من حصون أصالتنا ، ويستعذب إنارات الخير والمجد والسؤدد ، ويدعم نظرته الإيجابية بالفكر القويم والرأي السديد ، لابد له أيضا من إتقان مهارات الكتابة ، فلا يقولُ القارئُ بعدها : ماذا أقرأُ ؟ كما لايتحير الكاتب فيقول : فيمَ أكتبُ ؟ فإن الكتابة محضنُ المعارف ومدار العلوم والثقافات ، وهي بستانُ الأنس الوارف الظلال يتبنَّاها حبًّا مَنْ صفا تصوُّرُه ، وسمتْ نفسُه ، وعلت همَّتُه ، وسعى إلى الهدف الأعلى والأسمى ، فأغنى القيم بنتاجِ يدِه ، وحلَّق فوق سراب الملهيات بفكره ، وأقبل بكليته على مطارف الزمن الممتد ليملأَ مساحات حياته بالمُثُل التي تعرفها مدارج الفضيلة والخير . فشأن الكتابة عالٍ ، ومقامُها رفيع ، وفوائدُها لاتُحصى ، ومكوناتُها متعددة ، وفنونها متنوعة ، وأبوبها مشرعة ، ومراميها مفيدة ، ومدلولاتُها صحيحة ، وألفاظها عذبةٌ قريبة من النفس الإنسانية ، وإن النصَّ بهذه المقاييس لن يكون مملا ولا مخلا ، وإنما كما قال الشاعر :

وَزِنِ الكلامَ إذا نطقتَ ، فإنَّما   يُبدي عقولَ ذوي العقولِ المنطقُ

ولعل من أجَلِّ الأعمال ماصُرفت فيها الجهودُ والأوقاتُ لتدريب النفس على حب القراءة ، والاستئناس بمحاولات الكتابة مرة بعدة أخرى حتى تصبح عادة مستحبة ، فهي بداية الولوج في عالم الفنون الأدبية ، والعودة إلى تراثنا المجيد وأسفار علمائنا وأدبائنا وكتَّابنا هو الشرف الأسنى للأديب والكاتب ، وإن المكتبات العامة والخاصة تزخر بتلك الأسفار والمراجع والمعاجم ، ويحلو الجلوس عندها لعظيم فائدتها، ولأنها تزيد الحياة إشراقا وبهجة ، وتجلب الفرح إلى النفوس ، وتخفف من أعباء الحياة ، ولن يُحرمَ مَن غشيَ آفاقها ، وتنقل بين روضاتها من ثمراتها اليانعات وقطوفها الدانيات ، والمحروم مَن حرم نفسَه منها ، ولله دَرُّ القائل :

يُدانُ الفتى يوما كما هو دائنُ

هذا تذكير لكل مَن احتضنتْه المراحل الأولى في المدارس ، وضمَّته الجامعاتُ بعد أن اشتدَّ عزمه ، وتفتَّح فكرُه ... إنه شبابك وحيويتك وآمالك وأنت جديرٌ بها ، فانهل من ينابيعها العذبة المتدفقة بالمُثل والقيم ، وأضئ قلبَك وفكرك من إشراقاتها العلمية ، وغذِّ نفسَك من موائدِها اللذيذة ، واحفظ أوقاتك ـ فهي عمرُك ـ فلا يراك أحدٌ إلا قارئا أو كاتبا ، وفي كلا الحالين تحظى بالمثوبة من الله عزَّ وجلَّ ، فطريق أهل العلم الدَّأبُ والصَّبرُ في طلبه ، فالخسارة ستكون فادحة إذا ودَّعتَ مراحل التعليم وأنت لستَ بقارئ ولا كاتب ، ويومها لاينفع الندم . ونسأل الله التوفيق والسداد ، والحمد لله رب العالمين .

وعليك يامَن تريد اللحاق بركب الكتاب والأدباء أن تستعد لخوض غمار هذا المدى ،وتدخل مسارت الجمال الحقيقي للنفس ، وتأخذ بهدي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم حين سأله العباس رضي الله عنه : فيما الجمال ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : ( في اللسان ) . أجل يعني تقويم اللسان ، وهذه دعوة ــ أيضا ــ ضمنية للإلمام بأدوات النطق الصحيح ، والكتابة الصحيحة ، والتماهي بين روعة الكلم وشغف النفس حتى تثمر شجرة الموهبة ، وتزهر أغصان القدرات لدى الكاتب .

( وها نحن نورد في ورشة عمل لتقويم الكتابة ، مستعينين ببعض نصوصٍ كتبها أهل البلاغة ورواد البيان ، ومستأنسين بما في مكتبتنا الإسلامية العربية الزاخرة بفصول راقيات من هذا العلم ، ولن تُقبل معذرةُ مَن تراخى عن البحث ، وقعد ليخرج آخر الأمر مفلسا من هذا الغِنى ، فنحن كنا بضعة طلاب علم ، وكنا جادين في طلب علم البلاغة العربية التي تضم علم البيان وعلم المعاني وعلم البديع ونشأة كل علم وتطوره ، وهانحن نقدم ماجمعنا من هذه العلوم وما أوردنا من أمثلة ، لنقدمها وجبة سائغة لذيدة لأحباب اللغة العربية المجيدة ، كما يمكن التزود أكثر وأكثر بالرجوع إلى تراث لغتنا ، وهو التراث الجليل الذي لايمل ندماؤُه ، ولا يخيب طلابه ، وتبقى البلاغة العربية  في حسن البيان وقوة التأثير ، فعلم المعاني يبحث في تركيب الكلام وأساليبه ، وعلم البيان هو الكشف والوضوح ، وأما علم البديع فيكون في تحسين أوجه الكلام اللفظية والمعنوية ، ولقد جمعنا أيام العمل في ورشتنا ما أوردناه هنا ليكون مفتاحَ باب الولوج إلى كتابة جميلة ، والله الموفق ) .

 إنَّ من مقومات النص الأدبي الجميل الممتع، شعرا كان أم نثرا ... هي تلك الصور الفنية ، التي يستخدم فيها الأديب المفردات اللغوية بصورة صحيحة ومتناسقة ، وكذلك التراكيب التي يكوِّن الانسجام واحدا من مقومات حُسن سبكها ، وهذه القيمة الأدبية عرفها أهل النقد من قديم العصور ، وقد خلَّد التاريخ الأدبي النصوص المتميزة عن غيرها بهذه القيمة الأدبية ، حيثُ يبقى النص جميلا ممتعا في كل عصر وفي كل مصر ، وهو يحمل بين مفرداته وجمله اتساعا بعيد المرامي في معانيه وفي ظلاله الموحية ، فالشعرُ مثلا كما يقول الجاحظ هو الصناعة ، وهو ضرب من النسج ، وجنس من التصوير ، ولقد أجاد الكثير من الشعراء في العصور القديمة باستخدام التشبيه وغيره في قصائدهم ، يقول الأفوه الأودي وهو شاعر من أهل نجران القدامى ، وقيل بأنه أول مَن قصد القصيد ، وقد سبق غيره من الشعراء المعروفين ، وقيل أيضا أنه أدرك نبيَّ الله المسيح عليه السلام :

( إنَّما نعمةُ قومٍ متعةٌ           وحياةُ المرءِ ثوبٌ مستعار )

فقد شبَّه الحياة بالثوب المستعار ، وقد سبق غيره في هذا التشبيه الذي كثر وتعدد فيما بعد . وارتقت أشكاله وتنوعت . ولنا أن نستعرض علم البيان من خلال الاطلاع على ماكتبه نقَّادُنا المعاصرون من نقد وبيان لمكانة هذه المقومات في كتابة النصوص الأدبية . وننقل بعض ماجاء في هذا الباب :

التشبيه :

أسلوب يدل على مشاركة أمر لأمر آخر في صفته الواضحة؛ ليكتسب الطرف الأول ( المشبه) من الطرف الثاني (المشبه به) قوته وجماله.أو هو : إحداث علاقة بين طرفين من خلال جعل أحدهما - وهو الطرف الأوّل (المشبه)- مشابهاً للطرف الآخر، في صفة مشتركة بينهما .

مثل : محمد كالأسد في الشجاعة –  المسلم كالشجرة المثمرة في العطاء .

أركان التشبيه :

(1) مُشََّبه : وهو الموضوع المقصود بالوصف ؛ لبيان قوته أو جماله ، أو قبحه .

(2) مُشَبَّه به : وهو الشيء الذي جئنا به نموذجاً للمقارنة ؛ ليعطي للمشبه القوة أو الجمال ، أو القبح ، ويجب أن تكون الصفة فيه أوضح .

(3) ووجه الشبه : وهو الوصف الذي يُستخلص في الذهن من المقارنة بين المشبه و المشبه به، أو هو الصفة المشتركة بين الطرفين المشبه و المشبه به.

(4) وأداة التشبيه : هي الرابط بين الطرفين.

أدوات التشبيه  : 

1 - قد تكون حرفاً :مثل الكاف نحو :القلب السليم كالصفحة البيضاء في صفائها ، أوكأنَّ نحو : كأن القائد أسد في شجاعته

2 - قد تكون اسماً ، كـ (مثل - شبه - نظير ... ) .

3 - قد تكون فعلاً ، كـ (يحاكي - يشبه – يماثل ...) .

أنواع التشبيه :

(  مفرد ــ  مركب ــ مفصل مجمل ــ  بليغ ــ  تمثيلي ــ ضمني )

أولاً : التشبيه المفرد : وهو تشبيه لفظ بلفظ .

أنواع التشبيه المفرد :

1 – تشبيه مُفَصَّل : عندما نذكر الأركان الأربعة .

*  نحو : العلم كـالنور يهدي كلَّ مَن طلبه

مشبّه أداة تشبيه مشبّه به وجه الشبه

2 – تشبيه مُجْمَل : وهو ما حُذِف منه وجه الشبه ، أو أداة التشبيه .

* مثل : العلم كـالنور (حُذِف وجه الشبه )

* العلم نور يهدي كل من طلبه . (حُذِفت أداة التشبيه )

3 – تشبيه بليغ : وهو ما حُذِف منه وجه الشبه و الأداة ، وبقي الطرفان الأساسيان المشبه و المشبه به

* نحو : الجهل موت،  والعلم حياة .

* الصور التي يأتي عليها التشبيه البليغ :

أ – المبتدأ والخبر :

* نحو : الحياة التي نعيشها كتاب مفتوح للأذكياء .

ب- المفعول المطلق :

*نحو : تحلق طائراتنا في الجو تحليق النسور - مشى الجندي مشيَ الأسد

جـ- المضاف(المشبه به) والمضاف إليه(المشبه) :

* نحو : كتاب الحياة - ذهب الأصيل على لُجَين الماء . الأصيل (وقت الغروب ) و اللجين (الفضة)

.. أي الأصيل كالذهب والماء كاللجين.

د- الحال وصاحبهـا :

*  نحو : هجم الجندي على العدو أسداً .

هـ- اسم إن وخبرها :

نحو  : إنك قمرٌ .

أركان التشبيه

الركنان الأساسيان في أركان التشبيه الأربعة هما: (المشبه والمشبه به ) ، وإذا حُذِفَ أحدهما أصبحت الصورة استعارة ؛ (فالاستعارة تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه .)

- أما أداة التشبيه ووجه الشبه فهما ركنان ثانويان حذفهما يعطي التشبيه جمالاً أكثر وقوة .

ثانياً : التشبيه المركب

أنواع التشبيه المركب :

1 – تشبيه تمثيلي :

هو تشبيه صورة بصورة ووجه الشبه فيه صورة منتزعة من أشياء متعددة .

نحو : قول الله تعالى :

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ )(البقرة: من الآية261) .

شبه الله سبحانه وتعالى هيئة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ابتغاء مرضاته ويعطفون على الفقراء و المساكين بهيئة الحبة التي أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، والله سبحانه وتعالى يضاعف لمن يشاء .

قال تعالى في شأنِ اليهود :

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ...) (الجمعة:5).

حيث شبهت الآية حالة وهيئة اليهود الذين حُمَّلوا بالتوراة ثم لم يقوموا بها ولم يعملوا بما فيها بحالة الحمار الذي يحمل فوق ظهره أسفاراً (كتباً)، فهي بالنسبة إليه لا تعدو(لا تتجاوز) كونها ثقلاً يحمله .

2 – تشبيه ضمني :

وهو تشبيه خفي لا يأتي على الصورة المعهودة ولايُصَرح فيه بالمشبه و المشبه به ، بل يُفْهم ويُلْمح فيه التشبيه من مضمون الكلام ، ولذلك سُمّي بالتشبيه الضمني ، وغالباً ما يكون المشبه قضية أو ادعاء يحتاج للدليل أو البرهان ، ويكون المشبه به هو الدليل أو البرهان على صحة المعنى .

باختصار التشبيه الضمني قضية وهي (المشبه) ، والدليل على صحتها (المشبه به) .

نحو  : قال المتنبي في الحكمة :

من يهُن يسهُل الهوان عليه               مـا لجُـرحٍ بميّت إيـلامُ

ما سبق نلمح فيه التشبيه ، ولكنه تشبيه على غير المتعارف عليه  ، فهو يشبه الشخص الذي يقبل الذل دائماً ، وتهون عليه كرامته ، ولا يتألم لما يمسها ، بمثل حال الميت فلو جئت بسكين ورحت تقطع أجزاء من جسده ما تألم ؛ لأنه فقد أحاسيس الحياة ، وبذلك يكون الشطر الثاني تشبيهاً ضمنياً ؛ لأنه جاء برهاناً ودليلاً على صحة مقولته في الشطر الأول.

 * قال ابن الرومي :

قَدْ يَشِيب الْفَتَى وَلَيْسَ عجيباً أَنْ يُرَى النَّورُ فِى الْقَضِيبِ الرَّطيبِ

(النور : الزهر الأبيض- القضيب : الغصن)

يقول الشاعر : إن الشاب الصغير قد يشيب قبل أوان الشيب ، وهذا ليس بالأمر العجيب، وليدلل على صحة مقولته أتى لنا بالدليل و هو أن الغصن الغض الصغير الذي مازال ينمو قد يظهر فيه الزهر الأبيض، فهو لم يأْت بتشبيه صريح ولم يقل : إن الفتى وقد خطَّه الشيب كالغصن الرطيب حين إزهاره ، ولكنه أتى بذلك ضمناً .

ملحوظة : التشبيه الضمني لا تذكر فيه أداة التشبيه أبداً ، بينما التشبيه التمثيلي غالباً تذكر فيه أداة التشبيه "

* الاستعارة : تشبيه بليغ حذف أحد طرفيه . ( وهي رفع الشيء وتحوبله من مكان إلى آخر ، أو تسمبة الشيء بغير اسمه إذا قام مكانه ) .

نفهم من الكلام السابق أن التشبيه لابد فيه من ذكر الطرفين الأساسين وهما (المشبه والمشبه به) فإذا حذف أحد الركنين لا يعد تشبيهاً بل يصبح استعارة .

لاحظ الفرق بين : محمد أسد - رأيت أسداً يتكلم - زيدٌ يزأر وهو يفترس الأعداء .

* أنـواع الاستعـارة :

(أ) استعارة تصريحية : وهى التي حُذِفَ فيها المشبه(الركن الأول) وصرح بالمشبه به .

نحو : نسي الطين ساعة أنه طين .. شبه الشاعر الإنسان بالطين ثم حذف المشبه (الإنسان)وذكر المشبه به (الطين)على سبيل الاستعارة التصريحية .

نحو : قوله تعالى : (  الله وليُّ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ) .. شبه الكفر بالظلمات والإيمان بالنور ثم حذف المشبه (الكفر والإيمان) وذكر المشبه به  (الظلمات والنور)على سبيل الاستعارة التصريحية .

 (ب) - استعارة مكنية : وهى التي حُذِفَ فيها المشبه به(الركن الثاني) وبقيت صفة من صفاته ترمز إليه

نحو  : حدثني التاريخ عن أمجاد أمتي فشعرت بالفخر والاعتزاز .

المحذوف المشبه به ، فالأصل : التاريخ يتحدث كالإنسان ، ولكن الإنسان لم يذكر وإنما ذكر في الكلام ما يدل عليه وهو قوله : حدثني (فالدليل على أنها استعارة : أن التاريخ لا يتكلم).

* ومثل ماسبق : طار الخبر في المدينة .. استعارة مكنية فلقد صورنا الخبر بطائر يطير ، وحذفنا الطائر وأتينا بصفة من صفاته (طار) ، (فالدليل على أنها استعارة : أن الخبر لا يطير). .

* يهجم علينا الدهر بجيش من أيامه ولياليه - وتبنى المجد يا عمر بن ليلى - صحب الناس قبلنا ذا الزمانا- شاكٍ إلى البحر .. بين الاستعارة بنفسك .

(جـ) – الاستعارة التمثيلية : أصلها تشبيه تمثيلي حُذِفَ منه المشبه وهو (الحالة والهيئة الحاضرة) وصرح بالمشبه به وهو (الحالة والهيئة السابقة) مع المحافظة على كلماتها وشكلها وتكثر غالباً في الأمثال عندما تشبه الموقف الجديد بالموقف الذي قيلت فيه .

نحو : لكل جواد كبوة - رجع بخفي حنين - سبق السيف العذل - فمن يزرعِ الشوك يجنِ الجراح .

إنَّ سر جمال الاستعارة : (التوضيح أو التشخيص أو التجسيم ) .

الكناية :

*  هي تعبير لا يقصد منه المعنى الحقيقي ، و إنما يقصد به المعنى الملازم للمعنى الحقيقي .

*   أو هي : تعبير استعمل في غير معناه الأصلي(الخيالي) الذي وضع له مع جواز إرادة المعنى الأصلي (الحقيقي) .

.. لتوضيح الكلام السابق بمثال يقول : (أبي نظيف اليد) من الواضح أن المعنى الحقيقي هنا ليس مقصوداً وهو معنى غسل اليد و نظافتها من الأقذار ، وإنما يقصد المعنى الخيالي الملازم لذكر هذه العبارة الذي يتولد ويظهر في ذهننا من: (العفة أو الأمانة، أو النزاهة أو الترفع أو نقاء الضمير..) وما شابه ذلك من المعاني المجردة حسب سياق الحديث ، وهذه هي (الكناية معنى ملازم للمعنى الحقيقي ) .

نحو ::قال تعالى (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ)(الفرقان: من الآية27) .

لو تأملنا الآية السابقة نجد أن المقصود من هذه الآية ليس المعنى الحقيقي وهو عض اليدين، وإنما يقصد المعنى الخيالي الملازم لذكر هذه الآية الذي يتوّلد ويظهر في ذهننا من: (الندم الشديد) حيث إن من ظلم نفسه بكفره بالله ورسوله ولم يستجب لدعوة الإيمان ،  يرى مصيره المرعب يوم القيامة ألا وهو النار فيندم على ما كان منه في الحياة في وقت لا ينفع فيه الندم ، فيعض على يديه .

*  أنواع الكناية :

1 – كناية عن صفة :

وهى التي يكنى بالتركيب فيها عن صفة لازمة لمعناه (كالكرم – العزة – القوة – الكثرة ...)

نحو : قال تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ)

الأولى :كناية عن صفة البخل ، والأخرى : كناية عن صفة التبذير

*  فلان ألقى سلاحه (كناية عن الاستسلام) .

*  فلان نقي الثوب ( كناية عن النزاهة والطهارة ) .

2 – كناية عن موصوف : وهى التي يكنى بالتركيب فيها عن ذات أو موصوف (العرب – اللغة – السفينة) وهى تفهم من العمل أو الصفة أو اللقب الذي انفرد به الموصوف .

نحو  :(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ ) كناية عن سيدنا يونس عليه السلام  .

*  قال الشاعر : يا بنة اليمِّ ما أبوك بخيلا  (كناية عن السفينة ) . .

3– كناية عن نسبة : وهى التي يصرح فيها بالصفة ولكنها تنسب إلى شيء متصل بالموصوف (كنسبته إلى الفصاحة – البلاغة – الخير) حيث نأتي فيها بصفة لا تنسب إلى الموصوف مباشرة بل تنسب إلى شيء متصل به ويعود عليه

نحو : قال الشاعر : أبو نواس في مدح والي مصر :

فما جازه جودٌ ولا حلَّ دونه               ولكنْ يسيرُ الجودُ حيثُ يسيرُ

فقد نسب الجود إلى شيء متصل بالممدوح وهو المكان الذي يوجد فيه ذلك الممدوح

نحو: الفصاحة في بيانه والبلاغة في لسانه

كناية عن نسبة هذا الشخص إلى الفصاحة ؛لأنها في بيانه وإلى البلاغة ؛ لأنها في لسانه .

نحو  : ( الفضل يسير حيث سار فلان ) كناية عن نسبة الفضل إليه.

* سر جمال الكناية : الإتيان بالمعنى مصحوبا بالدليل عليه في إيجاز وتجسيم.

س : كيف أفرق بين الكناية والاستعارة ؟

جـ : الفرق أن في الاستعارة قرينة تمنع وجود المعنى الحقيقي، فحين أقول: رأيت أسداً يحكي بطولاته ، فـ( أسد ) هنا استعارة، والقرينة (يحكي) وهذه القرينة مانعة لإرادة المعنى الحقيقي ، فلا يوجد أسد يحكي أو يتكلم ، بينما في الكناية لا توجد قرينة تمنع وجود المعنى الحقيقي، فحين أقول : (عتريس يده طويلة) فيجوز إرادة المعنى الحقيقي وهو طول اليد ، كما يجوز إرادة المعنى الخيالي الذي يختفي خلف المعنى الحقيقي و هو أنه لص .

المجاز المرسل

*  هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة غير المشابهة ، ويجب أن تكون هناك قرينة تمنع المعنى الأصلي للفظ .

* أو هو كلمة لها معنى أصلي لكنها تستعمل في معنى آخر على أن يوجد علاقة بين المعنيين دون أن تكون علاقة مشابهة ، وتعرف تلك العلاقة من المعنى الجديد المستخدمة فيه الكلمة .

نحو لذلك : " قبضنا على عين من عيون الأعداء" فلفظ "عين " هنا ليس المقصود منها العين الحقيقية وإنما المقصود منها الجاسوس ، و القرينة التي تمنع المعنى الأصلي للفظ هنا أنه لا يمكن القبض على العين فقط دون بقية جسد الجاسوس !

س : لماذا سمي المجاز بالمجاز المرسل ؟

جـ : سمي المجاز بالمجاز المرسل ؛ لأنه غير مقيد بعلاقة واحدة ، كما هو الحال في الاستعارة المقيدة بعلاقة المشابهة فقط ، ولأن علاقاته كثيرة .

*  وعلاقات المجاز المرسل كثيرة أهمها:

1 - الجزئية : عندما نعبر بالجزء ونريد الكل .

*  قال تعالى: (فتحرير رقبة مؤمنة) فكلمة (رقبة ) مجاز مرسل علاقته الجزئية ؛ لأنه عبر بالجزء (الرقبة)وأراد الكل (الإنسان المؤمن) .

*  قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( أصدق كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد : ألا كُلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ ) فــ ( كلمة) مجاز مرسل علاقته الجزئية ؛ لأنه عبر بالجزء (كلمة)

وأراد الكل (الكلام) .

2 – الكلية : عندما نعبر بالكل ونريد الجزء .

* قال تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) فــ ( أصابعهم) مجاز مرسل علاقته الكلية ؛ لأنه عبر بالكل (أصابعهم)وأراد الجزء (أناملهم أي أطراف أصابعهم) .

*  شربتُ ماء زمزم . فــ ( ماء زمزم) مجاز مرسل علاقته الكلية ؛ لأنه عبر بالكل (ماء زمزم)وأراد الجزء (زجاجة ماء مثلاً) .

3 – المحلّية : عندما نعبر بلفظ المحل ونريد الموجود فيه

*  قال الشاعر : بلادي وإن جارت عليّ عزيزة        وقومي وإن ضنوا عليّ كرامُ

فــ ( بلادي) مجاز مرسل علاقته المحلّية ؛ لأنه ذكر البلاد وأراد أهلها فالعلاقة المحلية .

* قال تعالى: (واسأل القرية) فــ ( القرية) مجاز مرسل علاقته المحلّية ؛ لأنه ذكر القرية وأراد أهلها الذين محلهم ومكانهم القرية ، فالعلاقة المحلية .

4 – الحاليّة : عندما نعبر بلفظ الحال ونريد المكان نفسه.

نحو: (إِنَّ الْأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) فقد استعمل (نعيم) وهو دال على حالهم، وأراد محل ومكان النعيم وهو الجنة.

*  نزلتُ بالقوم فأكرموني .المجاز المرسل في كلمة القوم ؛ لأن القوم لا يُنزل بهم ، وإنما يُنزل في المكان الذي يسكنه القوم ، فذكر الحال وهو (قوم) وأراد المحل وهو المكان .

5 – السببية :

وهي تسمية الشيء باسم سببه ، أو عندما نعبر بالسبب عن المسبَّب.

* (رعت الماشية الغيث) المجاز في كلمة : الغيث ، فهي في غير معناها الأصلي ؛ لأن الغيث لا يرعى ، وإنما الذي يرعى النبات. حيث أن الغيث سبب للنبات فعُبِّر بالسبب عن المسبَّب .

6 – المسبَّبِيّة : وهي تسمية الشيء باسم ما تسبب عنه.

* قال تعالى : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السَّمَاء رِزْقًا ..) المجاز في كلمة : رزقًا ، فهي في غير معناها الأصلي ؛ لأن الذي ينزل من السماء المطر وليس الرزق، وعبر بالرزق عن المطر؛ لأن الأول (الرزق)متسبب عن الثاني(المطر) .

7 - اعتبار ما كان : بأن يستعمل اللفظ الذي وضع للماضي في الحال

* قال تعالى : ( وآتوا اليتامى أموالهم ..) المجاز في كلمة : اليتامى ، فهي في غير معناها الأصلي ؛ لأن اليتيم وهو : من فقد والده قبل الرشد لا يأخذ ماله ، وإنما يأخذ المال عندما يتجاوز سن اليُتْم ويبلغ سن الرشد ، فاستعملت كلمة يتامى وأريد بها الذين كانوا يتامى ، بالنظر إلى حالتهم السابقة .

8 - اعتبار ما سيكون : بأن يستعمل اللفظ الذي وضع للمستقبل في الحال .

*  قال تعالى : ( إنَّكَ ميتٌ وإنهم ميتون ) المجاز في كلمة : ميتٌ ، فهي في غير معناها الأصلي ؛ لأن المخاطب بهذا هو النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد خوطب بلفظ (ميت) وهو لا يزال حيًا بالنظر إلى ما سيصير إليه أي باعتبار ما سيكون.

*  قال تعالى: (إنّي أراني أعصر خمراً) أي عصيراً سيتحول إلى الخمر، إذ هو حال العصر لا يكون خمراً

* سر جمال المجاز : (الإيجاز و الدقة في اختيار العلاقة مع المبالغة المقبولة ) .

وللبلاغة النبوية عدة جوانب منها ما يتعلق بالمعنى ومنها ما يتعلق بالأسلوب

*  خصائص المعنى ويدخل تحتها      : أ- اشتمال الحديث مهما كان قليل الكلمات والجمل على كثير من المعاني والحقائق والأسرار ب- الإحكام – بالكسرــ  ويعني أن المعنى صحيح في ذاته يفيد الحقيقة التي لا تتبدل بتغير الظروف والملابسات وهذا يفيد ما يمتاز به الحديث إلى جانب المعنى من ترابط وتسلسل .

ج- الغوص في أعماق النفس ومخاطبة القلب والضمير   . * خصائص الأسلوب: يمتاز بعدة مميزات منها  :                        أ- الجزالة والفخامة في الكلمات والوضوح في الدلالة . ب- البعد عن التكلف . ج- تعداد الصور البيانية : أي ما في الحديث من صور بيانية عديدة تستهدف توضيح المعنى وتقريبه للسامعين في الوقت الذي تسترعي الأسماع بما فيه من جاذبية وتلوين . د- التناسق وجمال الوقع:وذلك بما فيه من توافق بين المعنى وانسجام في أصوات الحروف وهو ما يمكن التعبير عنه بموسيقى الحديث أو إيقاعه . من ذلك على مستوى الكلمة :قوله صلى الله عليه وسلم : (إن الله عزوجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر  ) فكلمة يغرغرتحكي صوت من يعالج الموت في حنجرته وهذا الإيقاع من شأنه أن يساعد على تقريب المعنى وتمكينه في النفس . *هذا العرض الموجز الذي قدَّمناه ، كنا نجمعه ونتدارسه أيام دراستنا في معهد المعلمين ، ثم أيام الجامعة ( والدراسة عن بُعد ) . وهو من الضرورة بمكان لتقويم الكتابة ، والوقوف على أسرار العربية . إنَّ الهدف هو الكتابة ، ولكن لن تأتي جلية موحية شائقة بغير مارأيتَ من أمثلة في هذا الجانب البلاغي . ولكي تكتب عليك أن تحدد هدفك وتعقد نيتك، لأن النية هي الأساس ويُبنى عليها بقية الأمور :

اقرأ … إذا أردت أن تتعلم الكتابة ، وإذا أردت حصيلة لغوية ومفرادات كثيرة لتعبر عن رأيك ومشاعرك فعليك بالقراءة، فالقراءة تزيد من حصيلة الإنسان اللغوية ، ويتيح له ذلك التوسع في استخدام المفردات في التعبير، وكذلك القراءة تزيد من حصيلة الإنسان المعرفية، وهذا ما يجعل الإنسان واسع الرؤية والمعرفة ، فيستطيع التحدُّث والكتابة ، بل وأن يتوسع في الحديث عن العلوم والمعرفة وتتيح له أن يبدي رأيه في القضايا والأحداث.

اكتب… مارس عملية الكتابة وبكثافة، فكلما كتبت زاد أسلوبك متانة وقوة، ويصبح لقلمك أسلوبا خاصا يميزك عن غيرك ،شارك في جريدة أو مجلة واكتب فيها وحاول أن تجد المعلم والناقد لك، لتقويم مهارتك في الكتابة وتطويرها ، واجعله ناقداً لك حتى يتطور أسلوبك أكثر فأكثر . ولا تتكلف، أقصد أن لا تحاول تكلف المعاني والكلمات، فذلك يجعل المقال ثقيلاً على قلوب قارئيه، اكتب على سجيتك ولا تتكلف، واجعل الكلمات تأتي سجيَّةً ، ولا تحاول انتقاء كلمات صعبة أو مبالغ فيها لتزيين مقالك، وحاول أن تقرب المعاني ، وأثْرِِ مقالتك بالمثل أو القصة ولوِّنْها بالخيال الذي يثير المشاعر ، ولا تحاول أن تجعل نفسك أديباً لا يشق له غبار! ...  اكتب بمستوى أسلوبك وستتطور شيئاً فشيئاً ويصبح أسلوبك أكثر جمالاً وتعبيراً.

في كتابة المقال  (على سبيل المثال ) :

 الكتابة باللغة العربية الفصحى لأنها الأكثر ملاءَمة ، ولأنها الأوسع في المفردات والمعاني،وللمقدمة في كل كتابة  أهمية لأنها تحدد جودة المقال، ولا تكرر الكلمات، أي حاول أن تنوع الكلمات ولا تستخدم الكلمة أكثر من مرة في نفس الفقرة قدر الإمكان . وأما العرض فيجب أن يضيء بالتشويق ووضوح الأفكار وربطها لكيلا يتشتت ذهن القارئ ، وقوِّ مقالك بالشواهد القرآنية والأحاديث النبوية والحكم والأمثال  ، وتختم مقالك بطبق شهي يحملة القارئ خفيفا عبقًا طيبا ، ويكون خلاصة لِما قدَّمتَ ، ويبقى الإيجاز سيد الموقف هنا ، حيثُ ينتهي المقال وحلاوة ثمراته الدانيات مازالت على شفتي لهفة القارئ طالبا المزيد .

لا تبالغ في ذكر تفاصيل لا تخدم هدف المقال، لذلك فكر قبل أن تكتب المقال في كيفية كتابتك للمقال، وأية نقطة تحتاج إلى تفصيل أكثر، وأي نقطة لا تحتاج إلى تفصيل، وهذا يعتمد على الكاتب وطبيعة مقاله بالدرجة الأولى. والموازنة في التفاصيل فلا إفراط فيها ولا تفريط ،محاولا في ذلك تنمية مهارة الكتابة.وزيادة حصيلتك اللغوية حتى تنمي أسلوبَ كتابتك أكثر وأكثر:

اقرأ واستمع للقرآن الكريم … أعني أن تجعل لك ورداً خاصا في كل يوم ، ولا تتركه مهما كانت الظروف، فمن حدد لنفسه قراءة جزء كل يوم من القرآن فعليه قراءة هذا الجزء وعدم التفريط فيه أبداً، وكذلك استمع للقرآن دائماً وهذا يتيسر من خلال الأشرطة وإذاعات القرآن الكريم، وفي هذه القراءة وهذا الاستماع فوائد، فمنها الأجر الجزيل ومنها مانحن بصدده من تعويد ألسنتنا على النطق الفصيح الصحيح ، وعلى الكتابة الجزلة الخالية من الأخطاء اللغوية ، ومن الركاكة أو الابتذال . وعليك أن تعرف جوانب الإعجاز اللغوي في القرآن وهذا لا يتيسر إلا من خلال مجالسة علماء اللغة وقراءة الكتب الأدبية الغنية بأساليب الجزالة .

وتلك هي التنمية للكتابة  في معانيها وأهدافها، و كما يدلُّ عليها اسمها في اللغة العربية  فهي العمل على بناء  أسس الكتابة ذات الثروة والإمكانية التي تستطيع تقديم القيم الإيجابية ، وتحقق زيادة بيادرها الفياضة بالمقاصد النبيلة ، ورفعٍ لمستوى الأداء التعبيري .

إنَّ البلاغة العربية : هي الفصاحة في الكلام ، وأنواعها ثلاثة : علم البديع ، وعلم البيان ( وقد ذكرناه آنفا )، وعلم المعاني

* علم البديع : تعريفه لغة : هو من بَدَع وأبدع ، أي: أوجده لا على مثال سابق .

و اصطلاحاً : هو علم يعرف به وجوه تحسين الكلام.

ومن المحسنات اللفظية :

* السجع : هو توافق الفواصل في الحرف الأخير ، في النثر وفي الشعر .

* في النثر :نحو: قوله تعالى : ( والطور ، وكتاب مسطور ، في رَقٍّ منشور ، والبيت المعمور ).

* في الشعر نحو : تدبير معتصم ، بالله منتقم لله مرتقب ، في الله مرتغب

وسر جمال السجع في جرسه الموسيقي المؤثر ، والذي يزيد من قوة أداء الفكرة .

* الجناس : هو تماثل الكلمتين أو تقاربهما أو تشا بهما في اللفظ و اختلافهما في المعنى

* الجناس التام : ما اتفق اللفظان في النوع - الترتيب - العدد –الشكل نحو :

* صليت المغرب في المغرب .

* دارِهم ما دمت في دارهم و حيِّهم ما دمت في حيِّهم

* الجناس الناقص : ما اختلف فيه أمر من الأمور الأربعة :

الصحائف و الصفائح الغُرر و الغَرر

وسر جمال الجناس : يشيع في الكلام نغمة موسيقية نابعة من التشابه في اللفظ ويؤدي حركة ذهنية من الاختلاف في المعنى .

* التصريع :

هو اتفاق قافية الشطر الأول من البيت الأول مع قافية القصيدة ويكون في البيت الأول و يندر أن يقع في غيره ، نحو قول الشاعر :

        ما بدأنا بغيرَ أجلى البيان             فتأمَّلْ ، وكم تطيبُ الأماني

فنجد أن القصيدة نونية ولو لحظنا أن الشطر الأول كذلك انتهى بحرف النون

والترصيع :اتفاق جملتين أو أكثر في عدد الكلمات مع اتفاق كل كلمة مع ما يقابلها في الوزن وفي الحرف الأخير

1 - إن بعد المطر صحواً ، وإن بعد الكدر صفواً

2 - ليكن إقدامك توكلاً ، وليكن إحجامك تأملاً

* ومن المحسنات المعنوية :

* الطباق  : و هو الجمع بين الشيء و ضده في الكلام ، ومنه :

1- طباق الإيجاب : ( كلمتان متضادتان ):

بيض الصفائح لا سود الصحائف في            متونهن جلاء الشك والريب

2-طباق السلب : كلمتان متشابهتان في واحدة منهما حرف نفي كما في قوله تعالى :

( يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله ) .

سر جمال الطباق في المتعة الذهنية في الجمع بين الشيء وضده .

*  المقابلة :و هي أن يؤتى في الكلام بمعنيين أو أكثر ثم يؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب،فهو طباق متعدد نحو :

و تعظم في عين الصغير صغارها                 و تصغر في عين العظيم العظائم

سر جمال المقابلة فيما نجده من المتعة الذهنية في الجمع بين المعاني المتضادة .

* التورية: هي لفظ يذكر وله معنيان : معنى قريب ومعنى بعيد خفي وهو المراد . نحو : والنهر يشبه مبردا        فلأجل ذا يجلو الصدى

*  الصدى :من ( الصدأ ) وهو وسخ الحديد

*  والصدى : العطش ، وهو المراد .

سر جمال التورية يرجع إلى القدرة على التلطف والخفاء ، و وصول الأديب في ذلك إلى غايته والحركة الذهنية البارعة في الانتقال من المعنى القريب إلى المعنى البعيد المراد .

ولا يخفى على مَن  يزاول الكتابة ... مافي هذه المهارات من قدرة على استيعاب الكثير من المعاني ، والتي تومئُ إلى غزارة موادها ، وسعة استقصائها ، وما فيها من إثراء المضامين ، فاللغة العربية جميلة محبَّبةٌ مؤثرة متألقة ، تجلب الأنس إلى النفس ، فتُشنَّف لها الآذان ، وينطلق بمحاسنها اللسان ، وترنو إلى آفاقها العينان ، فإنك إذا رأيتَ السحاب في السماء ، لايسعك إلا أن تعود إلى ذاكرتك ، لتسترجع الأسماء ... فإذا كان السحاب مرتفعًا سمَّيْتَه ( الظخاء ) وإذا كان أبيضَ عظيما سمَّيْتَه ( الكنهور ) ، وإذا ما غشَّى الأرض أطلقتَ عليه اسم ( الضباب ) ... وهكذا تتعدد وتتنوع أسماء السحاب إلى أكثر من خمسة عشر اسما ، وما يُقال عن السحاب يُقال عن أنواع حالات النوم ودرجاته ، ( فالنعاس ) أول النوم ، ( والوسن ) ثقل الرأس به ، و ( الرقاد ) النوم الثقيل ... إلى بضعة أسماء لأنواع النوم ، والأمر في أسماء  أنواع الأطعمة فإنها تزيد على عشرة أسماء منها طعام الضيفان فيسمَّى ( القِرى )  ،وطعام الزائر يُدعى ( بالتُّحفة ) ، وطعام المولود في اليوم السابع من ولادته يسمَّى ( العقيقة ) ، وطعام الفراغ من البناء يسمَّى ( الوكيرة ) ... وهكذا تنقلك لغتُك العربية إلى عالم جميل من الأسماء والمرادفات والكنى والثنائيات من الأسماء نحو : ( الواعيان ) وهما السمع والبصر ، و ( الهجرتان ) وهما الهجرة إلى الحبشة والأخرى إلى المدينة المنورة ... ولسوف تجد أكثر من عشرين اسما من هذه الثنائيات . ناهيك عن أسماء الشهور والأيام ، وأوائل الأشياء ، وأسماء الأصوات ومصادرها . 

كما لايخفى على الكاتب حاجته إلى تقسيم وترتيب وتوضيح وتحديد مافي النصوص من كلمات وجمل ، وهذا ماتقوم به علامات الترقيم ، والتي تساعد على فهم النص ، وتمنح كلماته وجمله مايلزمها من تبيان أو استفهام أو تعجب ... كما أن علامات الترقيم تساعد القارئ على فهم مايقرأ ، ويمنح لنفسه الراحة وهويقف عند النقطة وقد تمَّ معنى الجملة ، ويرفع حاجبيه عند التعجب أو الاستفهام ، بل يمتد أثر علامات الترقيم إلى تنويع نبرات الصوت وتلوينها حسب الحاجة أثناء القراءة أو الإلقاء .، فلا يستغني عنها الكاتب ، ولا  يتناساها الخطيب وهو يخاطب الجمهور . ولقد عدَّ أهل العلم منها أربعة عشر رمزا ، وقد أُخذت بعض الأمثلة من كتاب الدكتور سلطان الحريري ، وأخرى من الدكتور محمد الطيان والأستاذ مروان البواب ،  وهي :

* النقطة : (.) وتكتب في نهاية الجملة عند تمام معناها ، وفي آخر الفقرة . نحو : رب سامع خبري ، لم يسمع عذري . ورب ملوم لا ذنب له، ولعل له عذرا وأنت تلوم .

* الفاصلة ( ، ) وتوضع بين الجمل القصيرة المرتبطة في المعنى والإعراب ، ويقف القارئ عنها قليلا .. ....للمسجد النبوي في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، صحن سوره من اللبن ، وأساسه من الحجارة ، ولم يكن لرحبته سقف ..

* الفاصلة المنقوطة ( ؛ ) وتوضع بين الجمل الطويلة المرتبطة المعنى دون الإعراب ، أو بين تركيبين يكون أحدُهما سببا للآخر ، أو تعليلا وتفسيرا له ، ويقف القارئ عندها أطول من الأولى غير المنقوطة نحو : قال فتى سأله عمر بن عبد العزيز – رضي الله عنه - : ما بلغ بك ما أرى ؟ قال : " ذقت يوما حلاوة الدنيا فوجدتها مرة عواقبها ؛ فاستوى عندي حجرها وذهبها " .

* النقطتان : ( : ) وتوضعان بعد قال وما يماثلها من الكلمات  ( يقول ، قائلين ، قائلات ... ) ، ولتفصيل المجمل وللتعداد وأن تفسيرا يأتي بعد أمر مجمل ، نحو : لقد جعلنا هذا الكتاب في عشرة فصول : الأول يتناول العلاقة بين الفكر واللغة ، والثاني يتناول اللفظة ، والثالث يعالج الجملة ..."

* الحذف : ( ... ) وتوضع هذه النقاط للدلالة  على كلام محذوف لاضرورة لإثباته ، أو نسيه الناقل نحو قول الدكتور محمد مندور :" إنني لا أعدل بكتاب ( دلائل الإعجاز) كتابا آخر ... فالدلائل يشتمل على نظرية في اللغة وتطبيق النظرية...".

* الاستفهام : ( ؟ ) وتوضع إشارته هذه بعد الجملة الاستفهامية ، سواء صُدِّرت بأداة الاستفهام نحو : ( هل قرأت الكتابَ ؟) أم لم تُصَدَّر بها نحو : ( المدرسُ حضر أم المشرف ؟ ) وتوضع للدلالة على السؤال والتساؤل ، نحو :

- كيف حالك؟

- أنت خائف ؟

- أنا ؟ ومم أخاف؟

* التَّعجب : ( ! ) وتوضع هذه العلامة في نهاية الجمل التي تثير في النفس الانفعال والتعجب والترجي والتَّذمر ، أو المعبرة عن الفرح أو الحزن ... وتدل على التعجب من أمر أو شيء ، وتأتي في الأحوال الآتية :

أ- بعد صيغة التعجب القياسية في اللغة العربية ( ما أفعل ) .كقولنا :

- ما أجمل الربيع !

- ما أكثر ما استذكر محمد دروسه!

ب- بعد صيغ التعجب السماعية :وهي كثيرة ، منها :

- لله دره شاعرا!

- إلهي، كم هذا رائع!

- أي فرس أصيلة حرون!

- ويحك!

* التنصيص أو الاقتباس : { "    "   } وهما قوسان صغيران للعبارات المقتبسة بنصِّها كالأحاديث النبوية ... نحو : اعترف العلماء والفلاسفة والمؤرخون في العالم بفضل العرب ، ويقول ( جوستاف لوبون ) : " كانت كتب العرب المرجع الوحيد لعلوم الطبيعة والكيمياء والفلك في أوروبا مدة تزيد على خمسة قرون .."

*خطَّا الاعتراض : { ــ    ــ } ويوضعان للجملة المعترضة بين شيئين متلازمين نحو :

الطالبُ ــ وفقه الله ــ مجــدٌّ . وكذلك للدلالة على حصر الجملة المعترضة ، نحو إنَّ مقومات البناء الداخلي للفقرة – كما سبق أن ذكرنا- هي أن تكون محددة ومترابطة ، ومتوازنة ، ومتسلسلة.

*الخط المعترض : ــ وتوضع هذه الإشارة قبل الركن الثاني من الجملة إذا طال الفصل بينه وبين الركن الأول منها ، وبين المعدود وما يدل على رتبته إذا كانا في أول السطر ، وكذلك توضع في الحوارات بين اثنين أو أكثر .

*القوسان : (    ) وتوضع بينهما الألفاظ المفسرة لِما قبلها ، كما تستعملان :

ــ مع كلمتي جدول وشكل نحو : ( الجدول رقم 3 ) .

ــ  للمراجع نحو : ( القاموس المحيط ) ، و للتفسير أو وضع المرادف  نحو : قطعتُ البحار من عِبر ( شاطئٍ ) إلى عِبرٍ .

ــ  لحصر أسماء علم معرَّبة حرفيا نحو : الحاسوب ( الكمبيوتر ) جهاز يعمل ... ونحو : أوغاريت ( أثجريت ) مدينة أثرية . وكذلك لحصر معنى عام: ربما يتبادر إلى الذهن في تعريف ( سابير ) للغة بأنها نبرات صوتية ( تصدرها أعضاء النطق )؛أي أن هناك أعضاء خلقت بطبيعتها للنطق .

*القوسان المعكوفان : (      ) وتستعملان للزيادة في النص نحو : الأول  ( انظر وأل  ) من أسماء الله الحسنى ...

*القوسان المزهران :}         {  وتستعملان للآيات القرآنية ، نحو : } ن والقلم وما يسطرون {  .

ولعلنا نضيف مادة أخرى تزيد من قدرة الكاتب على إغناء النصوص بأوجه البلاغة المتعددة لعدد من الأدباء والكتَّاب والمهتمين باللغة العربية ، لعة القرآن الكريم مثل الأستاذ الأديب الشاعر محمد الحسناوي ــ يرحمه الله ــ والدكتور عبدالقادر حسين ،ونثبت هنا ماسطَّرتْه الدكتورة / مسرت جمال ــ الأستاذة المشاركة بقسم اللغة العربية في جامعة بيشاور ، حيث يجد الكاتب بغيته  وهو يقرأ لها :

( بلاغة أسلوب الفصل والوصل في القرآن الكريم )                                                                      * الفصل: من فصل، يفصِّل، تفصيلاً.حاجز بين الشيئين(1) فصل بينهما يفصل فصلاً فالفصل فصلت الشيء، فانفصل أي قطعه فانقطع.(2)

* والوصل :من وصل يصل، صلة، وصلت الشيء وصلاً وصلة، والوصل ضد الهجران، الوصل خلاف الفصل، وصُل الشيء بالشيء، يَصِله وصلاً‘ وصِلَة وصَلَة(3) بالكسرة والضم الأخير عن ابن جني(4) قال: لا أدري أمطرّد هو أم غير مطرِّد، قيل: وأظنه مطرِّداً كأنهم يعملون الضمة مسفرة بأن المحذوف إنما هي الفاء التي هي الواو. قيل: الضمة في الصُّلة ضمة الواو المحذوفة من الوُصْلَة والحذف والنقل في الضمة شاذ بشذوذ حذف الواو في يَجدُ، ووصَّلَه تَوْصِيْلاً لأمه، هو ضد فضله.(5) قال تعالى:وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ.(6) أي وصّلنا ذكر الأنبياء وأقاصيص من مضى بعضها ببعض لعلهم يعتبرون. الوصل عطف جملة على أخرى بالواو فقط من دون سائر حروف العطف الأخرى. هو عطف الجملة على الجملة بإحدى حروف العطف، هو الواو.(7)

        1- وفَدَ مصطلح "الفصل والوصل" إلى البلاغة قادماً من علم القراءات، وبعدما مرّ بفترة عدم استقرار على يد من سبق الجرجاني، استقر على يديه، ولكنه تشعب وتعدد على يد اللاحقين، وما تشعب منه يدور حول مضمون المصطلح الأصلي، مصطلح "الفصل والوصل" لذا لم نجد ضرورة للأخذ بما عداه.

        2- الفصل: قطع معنى عن معنى بأداة لغرض بلاغي.

        والوصل: ربط معنى بمعنى بأداة لغرض بلاغي.

        3- أدوات الربط: كل أداة تصل بين المفردات أو الجمل ليستقيم المعنى، وتأتي في مقدمتها حروف العطف لأصالتها في المضمار.

        4- أدوات القطع هي: واو الاستئناف، ثم، الفاء، أم المنقطعة، بل، الاستثناء المنقطع، ضمائر الفصل، الجملة المعترضة وليس طرح الواو فقط.

        5- كان للعلماء فيما قبل الجرجاني جهود طيبة في الفصل والوصل ، ولكنهم جنحوا إلى رصد القاعدة والتعريف بأدواتها ، ولم يتوقفوا أمام فن الفصل والوصل ، يستخرجون منه طاقاته وقدراته على التعبير، وأيضاً لم يلتفتوا إليه من خلال القرآن الكريم كله ، ولم يحاولوا أن يضموه في نسق ليخصوه بالدرس الوافي.

        6- تمثل جهود الجرجاني مرحلة إعادة تشكيل مواد الفصل والوصل ، وكذا إبراز مضمونها، وعلى يد الزمخشري ازدهرت دراسة الفصل والوصل؛ لأنها كانت تطبيقاً على القرآن الكريم من خلال آياته ، ثم خبا الشعاع وحل الظلام، وعلى يد دارسي البلاغة المحدثين يتجدد الأمل بإذن الله.

من بلاغة أسلوب الفصل :

        فن الفصل والوصل في القرآن الكريم يكشف عما في هذه القواعد من قصور، فهي:

        أولاً: قد خصت الفصل والوصل بالجمل، والقرآن الكريم قد فصل ووصل بين الجمل وبين المفردات أيضاً.

        ثانياً: أنها قد حصرت الفصل في أداة واحدة وهي "طرح الواو" بينما فصل القرآن بـ "واو الاستئناف" و "الفاء" و "ثم" و "بل" و "أم المنقطعة" و "ضمائر الفصل" و "الجملة المعترضة" و "الاستثناء المنقطع" – كما حصرت الوصل في "الواو" فقط بينما وصل القرآن الكريم بجميع حروف العطف وجميع حروف الربط.

        ثالثاً: أنها سمت الفصل بين الخبرية والإنشائية كمال الانقطاع ، وجعلت الاتفاق بين ركني الجملة خبراً أو إنشاء مبرراً للوصل، بينما جوز سيبويه وبعض أئمة النحو عطف الخبرية على الإنشائية(8) وعدّد بعض العلماء اثني عشر موضعاً في القرآن الكريم عطفت فيها الخبرية على الإنشائية والعكس، من مثل قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾(9) و ﴿وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ﴾(10) و ﴿لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ﴾(11) و ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا﴾(12) وغيرها.(13)

        رابعاً: أن ما أطلق عليه كمال الانقطاع مع إيهام الفصل خلاف المقصود،وضربوا له مثلاً (لا وعافاك الله) يعتبر دليلاً على عطف الإنشائية على الخبرية و (لا) بمعنى أنفِي ذلك فهي جملة خبرية، و (عافاك الله) جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى على أنها (دعاء)، هذا بالإضافة إلى أنها تصلح أن تؤدي المعنى بطرح الواو، فالمتكلم حين يقول للمخاطب (لا ) ثم يتوقف لحظة ثم يستأنف كلامه داعياً له بقوله (عافاك الله) يكون قد أدى المعنى بلا ليس.

        خامساً: أن هذه القواعد لم تراع المعنى العام ولا السياق الجامع لمتجانس الذي اقتضى فصلاً هنا ووصلاً هناك. وانكمشت في أمثلة تعليمية. وشواهد محدودة، غاضةالطرف عن رحاب القرآن الفسيحة، وهو يخضع لوحدة موضوعية فنية، وصورة كلية أجزاؤها السور مجتمعة، ثم كل سورة على حدة بما حوت من آيات، وكل آية بما حوت من ألفاظ، بل وكل لفظة بما حوت من حروف.

        وبعيداً عن تشعب هذه القوانين وتداخلها. نقول – إن المقياس الحقيقي لقبول الفصل أو الوصل. هو أن تؤدي العبارة – في إطار السياق العام – الغرض من صياغتها في إيصال المعنى إلى المخاطب في أوضح صورة وأحلاها، فإذا أدى الوصل بين مفردين أو جملتين إلى معنى غير المقصود، أو إلى المعنى المقصود بصورة رديئة أو لا يقبلها العقل وجب الفصل، وإذا كان الفصل سبباً في الإيهام بغير المقصود أو في فقدان المنطقية أو الرشاقة في الأسلوب وجب الوصل.

        لذا لم يبعد من رأى أن البلاغة في معرفة الفصل من الوصل، فالبلاغة معرفة كيف نصوغ ما يدور في أنفسنا من معانٍ بألفاظ لا تحتمل اللبس موصوفة بالصفاء مضافاً إليها الجمال والخصوبة؛ لأنها وُصلت فيما بينها وكان يجب أن توصل، وفُصلت فيما بينها وكان يجب أن تفصل.

        والناس في معرفة هذا وتذوقه ... درجات.(14)

أسرار الفصل والوصل

        عاش فن الفصل والوصل في وجدان الناطق العربي، الذي احتاج أن يربط بين معنى ومعنى برابط، أو يقطع معنى عن معنى بقاطع، وهو في فصله ووصله يهدف إلى تحقيق غاية جمالية يسمو إليها، لأنه يحرص على أداء فكرته في وضوح لا لبس فيه لتصل إلى المخاطب في جمال وجلاء.

        والنصوص تشهد أن الحس العربي والمصفّى كان يتوقع الوصل حين لا يجد وصلاً، ويبحث عن الفصل حين يفتقده، وكان يفاضل بين رابط ورابط حتى يستقيم الشكل مع المضمون، وقصة أبي بكر الذي رفض من الأعرابي قوله (لا عافاك الله) وطالبه بأن يقول (لا. وعافاك الله) تدل على ذلك.(15)

        والقرآن الكريم الذي خاطب هذه الطبيعة العربية كان يفصل بين المعاني ويربط بينها، وكان يلون العبارة مزاوجاً بين فصل ووصل ثقة بفهم المخاطب أو مراعاة منه لمقتضى الحال. ولم يتقيد في فصله بطرح الواو، بل استخدم معه أدوات أخرى، كما لم يقتصر في وصله على الواو أو على حروف العطف بل استخدم معها أدوات الربط الأخرى حسبما اقتضت الحاجة.

        وهو في كل هذا يرمي إلى إبراز جمال المعنى لتحقيق كمال الفائدة، فحين يصف مشاهد الجنة أو النار، أو يصور الثواب أو العقاب أو يتحدث عن الأخبار أو الفُجّار أو غير ذلك من معان، لا يعرضها عرضاً مسطحاً إنما يتخذ الوسائل التي تُبرز كل طاقاتها من إثارة الخيال والعواطف والمنطق. ومن قدرة على الإحاطة والشمول، حتى إذا وصلت إلى المخاطب جعلته جزءاً متمماً لها بما أوحت إليه وبما أثرت فيه، وبما صورت له، وبما أمتعته وأفادته.

        وهنا يبرز جمال المعنى المقصود حين يوجد مكتملاً ناضجاً موحياً ليحقق كمال الفائدة، وكمال الفائدة في ألاَّ يفتقد شيئاً من أوجه الجمال السابقة، وفي أن يظل نابضاً قادراً على الإفادة، مؤدياً إلى معانٍ ومعانٍ نلمسها بوجوده. وتنبعث من إيحائه، ثم تترابط – هذه المعاني الجزئية – لتصور المعنى الكلي، لتصور الحكمة المنشودة، أو الفكرة المقصودة أو الجوهر المطلوب.

        والفصل والوصل وسيلة من وسائل إبراز الجمال مع غيره من الأساليب، وله أدوات، إنْ فصلاً وإنْ وصلاً، وطرق لأداء وظيفته، فقد يفصل القرآن الكريم بين معنيين أو يربط بينهما، متخذاً الإيضاح وسيلة لإبراز جمال المعنى فيعرضه جلياً لا لبس فيه ، ليكون خالصا بذاته أمام المخاطب ليتدبره حق التدبر، أو يتخذ الإيجاز وسيلة في عرضه كيلا يتشتت الذهن في استيعاب المعنى، أو يحاول تثبيته وتقريره لأهميته وخطره، أو يعرضه في نسَق ملفت مثير، أو يقطّع الموضوع إلى أجزاء موصلة أو يعرضه بأشكال متعددة أو يقف أمام الهيئة المنفصلة أو الهيئة المتصلة ليرصد حركتها ويصور أبعادها أو يناسب بين الإيقاع الصوتي والإيقاع الدلالي أو غير ذلك.

        والفصل والوصل في كل هذا يراعي دائماً إثارة عقول المخاطبين بمختلف درجات استيعابهم وإثارة أنفسهم بمختلف نزعاتها وميولها، وكذا عواطفهم وأذواقهم. وليس الفصل والوصل بمستقل بأدواته وطرقه عن "القصر" أو "الحذف والذكر" أو "التقديم والتأخير" أو غيرها من فنون، وهي جميعاً تتآزر لإبراز جمال المعنى في أبهى صوره الفنية لتحقيق كمال الفائدة.(16)

1 - قد يكون الفصل أبلغ من الوصل

        فالجمل التي تتوارد على سبيل البيان، لا حاجة فيها إلى ذكر لفظ يدل على الربط، لأنها ما دامت كذلك فهي شيء أو هي جنس واحد، فإذا دخلها حرف وصل كان غريباً وشاذاً، فآية الكرسي(17) قد ترتبت الجمل فيها من غير حرف عطف، لأن ما من جملة إلا وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه، والبيان متحد بالمبيّن، فلو توسط بينهما عاطف لكان كما تقول العرب، بين العصا ولِحائها، فالأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق، وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبره، والثالثة للكبرياء شأنه والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى، والخامسة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره.(18)

2- التناسق الداخلي للجمل أقوى من وصلها برابط  ،ففي قوله تعالى ﴿الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾(19) يقول الزمخشري: "والذي هو أرسخ عِرقاً في البلاغة أن يُضرب عن هذه الحال صفحاً، وأن يقال: إن قوله ﴿الم﴾ جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها، و ﴿ذلك الكتاب﴾ جملة ثانية، و ﴿لا ريب فيه﴾ جملة ثالثة، و ﴿هدى للمتقين﴾ رابعة، و قد أصيب بترتيبها مِفصل البلاغة. وموجب حسن النظم حتى جيء بها متناسقةً هكذا من غير نسق، وذلك لمجيئها متآخية آخذاً بعضها بعنق بعض، فالثانية متحدة بالأولى معتنقة لها، وهلم جرا إلى الثالثة والرابعة".(20)

3- الفصل يزيد الأسلوب جزالة وفخامة

        ويلحظ الزمخشري ذلك في قوله تعالى ﴿ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ...﴾(21) يقول: فإن قلت: كيف ابتُدِئ قوله: ﴿الله يستهزئ بهم﴾ ولم يُعطف على الكلام قبله؟ هو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، وفيه أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي ليس استهزاؤهم إليه باستهزاء، ولا يؤبه له في مقابلته لما ينـزل بهم من النكال ، ويحل بهم من الهوان والذل، وفيه أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله.(22)

4- ويُضفي عليه حسناً وقوة تأثر

        ويضرب الزمخشري لذلك مثلاً قوله تعالى ﴿وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾(23) اللام: جواب قسم محذوف، وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية، وفي أسلوبها قول القائل:

وجارة جسّاس أبأنا بنــــابها       كليباً، غلت ناب كُليبٌ بواؤها(24)

        وفي فحوى هذا الفعل دليل على التعجب من غير لفظ التعجب، ألا ترى أن المعنى: ما أشد استكبارهم، وما أكبر عتوهم وما أغلى ناباً بواؤها كليب".(25)

الوصل والنسق القرآني :

        يلتفت الزمخشري إلى ظاهرة أسلوبية دقيقة في نظم القرآن، يلتفت إلى الجملة التي تأتي في نسق مفصولة عما قبلها من جمل، وتأتي في نسق آخر، وقد وصلت بما قبلها، وذلك لأن المعنى قد لا يتسق إلا بالوصل أو لا يتسق إلا بالفصل، فما الفصل والوصل إلا وسيلة فنية لتحقيق أهداف المعنى المقصود.

        في سورة الحج ترد جملة "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا"(26) ثم تمضي ثلاثون آية وتأتي نفس الجملة وهي مفصولة "وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا"(27) ويتساءل الزمخشري: لِمَ جاءت نظيرة هذه الآية معطوفة بالواو وقد نزعت عن هذه؟ فيجيب: لأن تلك وقعت مع ما يدانيها ويناسبها من الآي الواردة في أمرالمناسك ، فعطفت على أخواتها(28) وأما هذه بواقعة مع أباعد عن معناها فلم تجد معطفاً.(29)

ومثال آخر موصول بالفاء مرة ومفصول عنها أخرى :

        في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلاَ أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ..﴾(30) وفي نفس السورة جاءت "لهم أجرهم" بـ"الفاء" ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾(31).

        يقول الزمخشري: الموصولة لم تُضمَّن معنى الشرط وضُمِّنته المفصولة – والفرق بينهما من جهة المعنى أن الفاء فيهما دلالة على أن الإنفاق به استحق الأجر، وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة.(32)

وقد تجيء الجملة موصولة برابط واحد في مكانين ، مع تقديم وتأخير يقتضيه السياق:

        وذلك في قوله تعالى في سورة يونس ﴿وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ﴾(33) وفي سورة سبأ ﴿عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ﴾(34) وحق السماء أن تقدم على الارض – ولكنه تعالى – لما ذكر شهادته على شؤون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم ووصل بذلك قوله ﴿لا يعزب عنه﴾ لازم ذلك أن قدم الأرض على السماء، على أن العطف بالواء حكمه حكم التثنية.(35)

وقد تجيء موصولة برابطين لاختلاف القصد في المرتين :

        وذلك في قوله تعالى في سورة الأنعام ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(36) وقوله تعالى في سورة آل عمران ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾(37) يقول الزمخشري: جعل النظر مسبباً عن السير في قوله (فانظروا) فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ثم انظروا ولا تسيروا سير الغافلين، وأما قوله (ثم انظروا) فمعناه: إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبه على ذلك بـ (ثم) لتباعد ما بين الواجب والمباح.(38)

        ويقوم الوصل بدور هام في الربط بين كعناصر القصة، أو في الربط بينها ما يشبهها في المضمون أو الهدف، لتتحولا إلى قصة طويلة متعددة الأجزاء – ففي سورة البقرة عطف قصة المنافقين من أول قوله تعالى ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ﴾(39) إلى قوله ﴿يكاد البرق يخطف أبصارهم)(40) على قصة الذين كفروا، من قوله تعالىٰ ﴿إن الذين كفروا﴾(41)،إلى قوله تعالى ﴿ولهم عذاب عظيم﴾(42) لأن المنافقين جبناء يظهرون غير ما يبطنون فلا يناسبهم في المقام إلا أن يعطَفوا بقصتهم على قصة الكفار وتصير القصتان قصة طويلة لها جزءان.

من بلاغة أسلوب الوصل

أ- للواو موضع لا تصلح فيه الفاء

        يقول سيبويه في وصل المفردات، لو قلت: مررت بزيد أخيك وصاحبك. كان حسناً، ولو قلت مررت بزيد أخيك فصاحبك، والصاحب زيد، لم يجز، وكذلك لو قلت: زيد أخوك فصاحبك ذاهب، لم يجز، ولو قلتها بالواو حسنت، كما أنشد كثير من العرب لأمية ابن أبي عائد: ويــأوِي إلى نسـوة عُطـل          وشُعثٍ مراضيعَ مثلِ السّعالى(43)

        ولو قلت: فشُعثٍ، قبُح.(44)

        ويعلل "الأعلم" سبب الحسن مع وجود الواو، وسبب القبح مع دخول الفاء لقوله، "حمل شعث على عطّل لأنهما صفتان ثابتتان معاً في الموصوف. فعطفت إحداهما على الأخرى بالواو، لأن الواو معناها الاجتماع ولو عطفت بالفاء لم يجز لأن الفاء للتفرقة"(45).

ب- الجملة تأتي موصولة مرة ،ومفصولة أخرى لغرض التفسير  ، وذلك في قوله تعالى في سورة إبراهيم ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ﴾(46) فجملة "يذبحون" جاءت مرةً بالواو ومتصلةً بما قبلها، وأخرى بدون الواو ومنفصلةً عما قبلها(47) ويفسر الفراء ذلك بقوله "فمعنى الواو أنه يمسهم العذاب غير التذبيح، كأنه قال يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح، ومعنى طرح الواو، كأنه طرحٌ لصفات العذاب، وإذا كان الخبر من العذاب أو الثواب مجملاً في كلمة ثم فسّرتُه، فاجعله بغير الواو، وإذا كان أوله غير آخره فبالواو(48) ويضرب مثلاً آخر للمجمل قوله عز وجل ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا﴾(49) فالآثام فيه نية العذاب قليلِه وكثيرِه، ثم فسره بغير الواو فقال ﴿يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾(50) ولو كان غير مجمل لم يكن ما ليس به تفسيراً له، ألا ترى أنك تقول: عندي دابتان بغل وبرذون ولا يجوز عند دابتان وبغل وبرذون، وأنت تريد تفسير الدابتين بالبغل والبرذون، ففي هذا كفاية عما نترك من ذلك فقِسْ عليه.(51)

ج- جواز وصل الجملة الخبرية ،بالجملة الإنشائية خلافاً للمشهور .

        ذكر السبكي أن الشيخ "أبا حيان" نقل عن سيبويه جواز عطف المختلفين بالاستفهام والخبر مثل: هذا زيد ومَن عمرو؟ وقد تكلموا على ذلك في قوله تعالى ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾(52) ويعقب السبكي "لا خلاف بين الفريقين لأنه عند من جوزه يجوز لغةً ولا يجوز بلاغةً".(53)

        ويعلق الدكتور عبد القادر حسين ( ولا ندري لماذا لم يأخذ البلاغيون بجواز عطف الإنشاء على الخبر أو العكس، وإن وجدوا شيئاً من ذلك أوّلوه، وقدّروا عطف خبر على خبر أو إنشاء على إنشاء(54) ولماذا لم يكن شأن البلاغيين شأن النحاة في قبول هذا الرأي. ولو كان البلاغيون رفضوا هذا النوع لأنهم لم يجدوا أمثلة من صنع النحاة لالتمسنا لهم العذر في هذا الرفض، ولكن القرآن شاهد بهذه الآية على وجود هذه الصورة، ولا نقتنع بقول السبكي: إن هذا يجوز لغة ولا يجوز بلاغةً ... وقد ساورني الشك أول الأمر على اعتبار أن الواو في قوله تعال ﴿وإنّه لفسق﴾ ربما تكون للحال وليست للعطف فتخرج الآية عن صحة الاستدلال بها في عطف الخبر على الإنشاء ... ففتشت في تفسير الطبري والكشاف والقرطبي والبيضاوي فما وجدت أحداً قد عرض لهذه الواو في كونها للعطف أو للحال ).(55)

المصادر والمراجع

(1)     تاج العروس من جواهر القاموس

(2)     لسان العرب، للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي البصري

(3)     لسان العرب

(4)     عثمان بن جنّي الموصلي أبو الفتح، من أئمة الأدب والنحو

(5)     تاج العروس عن جواهر القاموس، محب الدين فيض السيد محمد الحسين الزبيدي

(6)     القصص 51

(7)     علم المعاني لعبد العزيز عتيق

(8)     السبكي – عروس الأفراح وانظر محمد عبد الخالق عضيمة – دراسات في أسلوب القرآن

(9)     الأنعام: 121

(10)   الأعراف: 77-78

(11)   النساء: 14

(12)   مريم: 46

(13)   النور: 57، النمل: 9-10، الحجرات: 12، نوح: 24، الكوثر: 1-2، البقرة: 25، الصف:

( 13) مريم: 75-76.

(14)   الفصل والوصل في القرآن الكريم، ص172-174

(15)   الفصل والوصل في القرآن الكريم، ص193

(16)   نفس المصدر: ص194-195

(17)   البقرة: 255

(18)   الكشاف: 1/386

(19)   البقرة: 1-2

(20)   الكشاف: 1/121

(21)   البقرة: 15-16

(22)   الكشاف: 1/187

(23)   الفرقان: 21

(24)   جساس: قاتل كليب، وجرته بسوس: امرأة يقال إنها خالته، وقتل للبسوس الناقة التي بها هاجت الحرب بين بكر وتغلب، رماها كليب فقتلها – أبأنا: أي قابلنا، من البواء وهو التساوي في القصاص، الناب: الناقة – ومعناها: ما أغلى ناباً يولوها كليب. شرح شواهد الكشاف – ذيل الجزء الرابع ص 561 ط البابي الحلبي – القاهرة 1968م

(25)   الكشاف: 3/88

(26)   الحج: 34

(27)   الحج: 67

(28)   يقصد قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ ...﴾ من، 30 - 33

(29)   يقصد قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنْسَانَ لَكَفُورٌ. لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا...﴾ الحج: 65، والكشاف: 3/21

(30)   البقرة: 262

(31)   البقرة: 274

(32)   الكشاف: 1/394

(33)   يونس: 61

(34)   سبأ: 3

(35)   الكشاف: 2/243

(36)   الأنعام: 11

(37)   آل عمران: 137

(38)   الكشاف: 2/7

(39)   البقرة: 8

(40)   البقرة: 20

(41)   البقرة: 6

(42)   البقرة: 7، والكشاف: 1/165

(43)   ديوان الهذليين: 2/184

(44)   الكتاب: 1/399

(45)   نفسه: 1/199، ط الأميرية 1318هـ.

(46)   إبراهيم: 6

(47)   البقرة: 49 – " وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ..."

(48)   الفراء: معاني القرآن: 2/68-69

(49)   الفرقان: 68

(50)   الفرقان: 69

(51)   معاني القرآن: 2/69

(52)   الأنعام: 121

(53)   السبكي – عروس الأفراح – 3/27

(54)   رجع د. عبد القادر إلى "السيالكوتي" على المطول 20، 21 ط استانبول

(55)   د. عبد القادر حسين – أثر النحاة في البحث البلاغي – 97-98، ط دار نهضة مصر للطبع والنشر.

وسوم: العدد 865