الاختيار”: ولادة قيصرية يشرف عليها “حلاق”!

الرواية ليست مقالاً، والدراما ليست خطبة  في محفل انتخابي أو في سرادق عزاء، والقائمون على الدراما في مصر ينبغي أن يحاكموا، لأنهم عادوا بها إلى مرحلة ما قبل النشأة والتكوين، فصارت أعمالهم في رمضان هذا العام، أقرب إلى مشهد تمثيلي لطلاب ضمن فقرة الإذاعة المدرسية!

ويكفي أن تقارن بين أعمال “صالح مرسي” ومسلسلاته عن الجاسوسية، وعمل “باهر دويدار” في مسلسل “الاختيار”، لتقف على هذا الفارق الهائل في الأداء، بين الدراما واللا دراما. وقبل أن تتوصل لهذه النتيجة ستسأل سؤالاً تصعب الإجابة عليه: من يكون “باهر دويدار”؟ لتفاجأ بأنه مؤلف العمل، ولا بد أن تصاب بالدهشة لبلد ارتبط شهر رمضان في أذهان ساكنيه بمؤلفين من الوزن الثقيل، فكانت أعمالهم هي حشداً درامياً، تدهشك القدرة على إدارته وتسييره، ومن أسامة أنور عكاشة إلى محمد جلال عبد القوي، ومن محفوظ عبد الرحمن إلى محمد صفاء عامر، ومن مصطفى محرم إلى عبد الرحيم كمال، ومن يوسف عوف إلى وحيد حامد، والأخير وإن كان يؤخذ على كثير من أعماله المباشرة، لكن لم يصل إلى المباشرة الفجة في مسلسل “الاختيار”!

وسأزيدك من الشعر بيتا، أن مخرج العمل هو “بيتر ميمي”، وهو من جيل المؤلف، ويجمع بينهما أنهما تخرجا في كلية الطب وعملا بالفن، في أعمال هامشية، وفي تأليف وإخراج مسلسلات لم تحقق أي حضور يُذكر، لكن عندما تعلم أن المنتج هو تامر مرسي، ستقف على أنه اختيار ليس من فراغ، والمذكور هو من يدير المشهد التليفزيوني والدرامي في مصر، فهذا نسق الاختيار للمرحلة الحالية، حيث يظن “الحاكم العسكري” أن لديه القدرة على خلق مصر البديلة في كل المجالات، ويشكلها من غير الأسماء المعروفة، ومن غير أصحاب القيمة والمكانة، لإحساسه بالقدرة على الخلق والابداع!

وكما جاء “الحاكم العسكري” في مجال التقديم التليفزيون بأناس من خارج المجرة، وصنع على عينه نماذج لا تفكر، ليس خوفاً من نتيجة التفكير، ولكن لأنها لا تمتلك ما تفكر به (والعقل هو مناط التكليف)، لتسهل قيادتهم وفق المنهج العسكري في الضبط والربط، وعلى أساس أن من لا يعلم ويدرك أنه لا يعلم هو الأسهل في قيادته وتحريكه، والأكثر سرعة في تنفيذ التكليفات. ألم تر المذيعة التي تلت “الأمر العسكري” على الشاشة كاملاً، بما فيه أنها رسالة أرسلت من جهاز سامسونغ؟! هذه هي الشخصيات الصالحة لهذه المرحلة!

زواج عتريس

مسلسل “الاختيار”، يقوم على فكرة الدعاية المباشرة للسلطة القائمة، والنيل من خصومها أيضاً، بشكل مباشر، وهو أمر يمكن أن يقوم به أحمد موسى في مقدمة نارية، فإن افتقد القدرة على الخطابة يتم اسناد العملية بالأمر المباشر إلى عمرو أديب، وصوته جهوري وطريقة الأداء توحي أنه جزار في مذبح، بما يجعله الأفضل للقيام في المهمة من موسى، لكن الدراما لها أصول، وكلما ابتعدت عن المباشرة كلما كانت أكثر التصاقاً بجنسها، وليس عليك إلا أن تقارن بين رائعة ثروت أباظة “شيء من الخوف”، وهذا العمل “الاختيار”، لتعرف الفرق بين العمل الفني والدعاية الفجة!

ففيلم “شيء من الخوف”، كان يتحدث عن “عتريس” هذا الشخص الطاغية، الذي استباح أهل قريته لضعفهم، وتزوج من “فؤادة” بالإكراه، ووسط استكانة الجميع، الذين كانوا يعلمون أنه زواج يفتقد لمقومات الزواج الشرعي، فلا زواج بالإكراه لكن مع ضعفها قاومت “فؤادة” صلفه، وفي لحظة جمع الجميع قواهم المبعثرة، فخرجوا ذات ليلة وهم يحيطون بقصره ويهتفون “زواج عتريس من فؤادة باطل”، فيسقطون الطاغية ويحررون “فؤادة”، ولعلها هي من حررتهم!

وأدرك كل من شاهد الفيلم بمن فيهم أهل الحكم في بداية عرضه أنه يرمز لعتريس بجمال عبد الناصر، ويرمز لمصر بـ “فؤادة”، وأن القرية ليست سوى مصر وأهلها الخانعين أمام هذه العلاقة الحرام، فلما نفضوا عنهم الخوف وجدوا لديهم قدرة على اسقاط “الطاغية عتريس”!

وتم وقف الفيلم، الذي شاهده عبد الناصر بنفسه وسمح بإعادة عرضه، لأن ضرر منعه أكبر من ضرر عرضه، فبالمنع سيؤكد أنه بالفعل “عتريس” ولهذا كان منع العرض، لكن بسماحه له سيهدر رسالته وينشر حولها الشكوك!

وفي المقابل، فقد نجحت ثورة يوليو/تموز 1952، في استخدام الدراما وأحد خصائصها عدم المباشرة في الدعاية لأهدافها، وما أحدثته من تغييرات على بنية المجتمع، ففي فيلم “رد قلبي” تزوج الضابط ابن الجنايني، من الأميرة “انجي”!

وإذا كان قد كتب هذا العمل، ضابط الجيش يوسف السباعي، وقام بدور البطولة فيه الضابط بسلاح الفرسان أحمد مظهر، فإن الأيام أثبتت أن ارتباطهما عميق في المجال الجديد وهو الكتابة والأدب بالنسبة للأول، والفن والتمثيل بالنسبة للثاني، فاستمرا فيه وقطعا علاقتهما بالعسكرية، وهو ما فعله الضابط أحمد بهجت بدوي والضابط أحمد حمروش عندما التحاقا بمهنة الصحافة، وكل هؤلاء كانوا مجتهدين ومجدين، لإزالة أي شك من أنهم عينوا في مواقعهم الجديدة بقرار من السلطة العسكرية.

وقد اشترك في “رد قلبي” ممثلون لهم ثقلهم في هذا المجال وقتئذ مثل الرائع حسين رياض، ومريم فخر الدين “انجي”، و”شكري سرحان”، و”فردوس محمد” و”هند رستم”، و”صلاح ذو الفقار”، و”زهرة العلا”، ولم يكن تجمعا للنكرات، كما هو الحال في “الاختيار”، حيث منتجه تامر مرسي الوكيل العمومي لأعمال عبد الفتاح السيسي في مجال الدراما وشؤون الفضائيات، والذي أصبح بديلاً لقطاع الإنتاج في التلفزيون المصري، والذي كان ينبغي رد الاعتبار إليه، بعد أن تحول لمجرد شريك للعمل التجاري المسمى مدينة الإنتاج الإعلامي، قبل أن تؤول المهمة إلى “تامر هذا”!

الإخوان لم يقتلوا المنسي

مسلسل “الاختيار” يدور حول قصة الضابط المنسي، الذي استشهد في سيناء على يد الجماعات المسلحة، وحول كذلك هشام عشماوي الذي انضم لتنظيم الدولة في ليبيا، ونفذ فيه حكم الإعدام مؤخراً. والهدف هو التأكيد على العدو، الذي ينتمي إليه مسلحو سيناء الذين قتلوا “المنسي”، والإرهابي عشماوي، الذي انضم إليهم، وهو في الحالتين، حسب المسلسل والدعاية التي أحيطت به عدو واحد إسمه الإخوان المسلمون!

ولأنها مهمة ثقيلة، فوجدت ثغرات قاتلة، عندما يستهدف القوم الرئيس التركي أردوغان، فينتصروا لاستقامة هشام عشماوي، الذي يبدو صدره في أحد المشاهد ضيقاً حرجاً، لأنه يعمل تحت إمرة أردوغان، الذي يحمي بيوت الدعارة في تركيا، فهل من المستهدف أن يقدم عشماوي صادقا في مشواره هذا؟!

ليتحول المسلسل إلى دعاية للحكم الجديد، ويعمل على تشويه خصومه، وفي سبيل هذا ترتكب هذه الأخطاء، ولا أقول إن الحبكة الدرامية تتراخى لأجل هذا، فلا توجد دراما لنقول بـ “الحبكة”!

وعلى ذكر تركيا وأردوغان، فاسم المسلسل “الاختيار” مأخوذ من اسم مسلسل تركي يحمل العنوان نفسه، وإذا استمرار الحال على هذا النحو، فقد لا نستبعد أن يتم انتاج مسلسل في رمضان من العام المقبل يحمل اسم “قيامة السيسي”، على وزن “قيامة أرطغرل”!

أما أنها مهمة ثقيلة، فلأنها محاولة لتغيير الحقائق وتطويعها لخدمة أغراض السلطة، دون أن تحتمل هذا التطويع، فلا أنصار “بيت المقدس”، أو تنظيم الدولة، من الإخوان، ولا الإخوان لهم عليهم من سلطان، وموقف هذه التنظيمات من الإخوان ومن عموم الحركات الإسلامية الأخرى هو الموقف نفسه من السيسي ومن عموم الحكام، بمن فيهم أردوغان نفسه، الذي تدخل بلاده معركة لا تتوقف ضد تنظيم الدولة وبينهما عداء متبادل!

وعملية الصاق ما يحدث في سيناء بالإخوان المسلمين يشبه إلى حد كبير الولادة القيصرية، التي يقوم بها “حلاق صحة”!

فالعمليات المسلحة في سيناء استمرت في عهد الرئيس محمد مرسي، وقد طلب عبد الفتاح السيسي بنفسه أن تكون عقدة المواجهة بيد الجيش، فاستجاب له وكانت هذه واحدة من أخطاء الرئيس الشهيد، ولم يكن بهذا ينتزع اختصاصا قائما لقيادات دينية أو عشائرية، ولكنه انتزع هذا الاختصاص من الأجهزة التقليدية التي تقوم بالمواجهة والتعامل مثل المخابرات العامة، والشرطة، ومباحث أمن الدولة، فاستغل علاقته بالرئيس لتكون زمام الأمور بيده وحده!

وإلى الآن فشل في التوصل لمن قتلوا الجنود في رمضان، من عام 2012، وقام الإعلام القريب من المؤسسة العسكرية، بالقول إن الرئاسة تغل يد الجيش في اعلان من هم الجناة، أو الإمساك بهم، وقد صار الحكم في قبضته وتم أسر الرئيس واستشهاده، ولم يقل لنا من فعلها، وكانت سيناء اختصاصه المباشر، ولم تكن هناك أجهزة أخرى تنازعه هذا الاختصاص، فالجميع يعملون تحت رئاسته!

هذا فضلاً عن أن هشام عشماوي، هذا لا يخص الإخوان، الذين كانوا في الحكم، وليس لهم في الجيش ضابط واحد عامل، وهذا جزء من أزمة حكمهم، فعشماوي هو ضابط في الصاعقة يخص المؤسسة العسكرية ولا يعني الإخوان في كثير أو قليل، وإن التحق بتنظيم الدولة في ليبيا، فتنظيم الدولة ليس هو الإخوان!

لقد قامت دعاية من يقفون وراء مسلسل “الاختيار” على قاعدة إن الإخوان أزعجهم المسلسل، وأنه أوقع بهم هزيمة نكراء، فانطلقوا يتوجعون، ولم نشاهد عبر الـ”سوشيال ميديا” إخوانيا منزعجا أو متوجعا أو شاهد “الاختيار” أو سمع به، لكنه “المولد”، الذي نصبه القوم لمسلسل يفتقد لمقومات العمل الدرامي.

إن دراما رمضان هذا العام بشكل عام مثلت إهانة لتاريخ الدراما المصرية، وتراجعا يعد سبة في جبينها.

فمتى يتوقف هذا العار؟!

وسوم: العدد 875