أبو طبر, هلعٌ وأسرار لم تُكتشف بعد
بلقيس حميد حسن
أغلبنا نحن أهل العراق إن لم يكن جميعنا, يعرف قصة أبو طبر, ذلك السفاح الذي كان يذبح العوائل في بغداد عام 1973 وينشر الهلع في قلوب الناس, حتى قضّ مضاجع العراقيين وأرق لياليهم, حيث غرس الرعب والشكوك في احاديثهم وتصرفاتهم, وقلب أحلامهم كوابيسا تنزّ دماً احمرَعلى مدى عام. كان حدثا رهيبا, أطاح بأمان الناس وشغلهم في حلهم وترحالهم, فنسجوا حوله الحكايا, والأقاويل, التي ارادها النظام انذاك لتضيع الحقيقة التي صارت ملفا كبيرا لمن يريد أن يضع تصوراته على أطول فلم رعب لم يصنع في هوليود انما في بيوت الضحايا من أهل بغداد الرازحة تحت نير نظام بعثي تطبق عليه عائلة تغرس نواجذها وتخترق الحيطان, فتكون مليئة بآذان المخبرين والساقطين والمنتفعين الذين استقوى بهم البعث ليسلطهم على شعب بقي فقيرا أبداً, فذهبهُ الأسود مسروق, ونخيله مذبوح, وأبناؤه مسجونون, مقهورون, ومنفيون.
في هذا العام, وبعد مضي مايقارب الأربعين عاما, يـُثار ذلك الحدث الرهيب على يد المبدعين, الكاتب حامد المالكي والمخرج سامي الجنادي, وبطولة ملك الشاشة العراقية الفنان كاظم القريشي, الذي قلب المعادلة في المسلسل وجعل الرعب سحرا, مع اشتراك نخبة من كبار المبدعين كالقديرة ناهدة الرماح, والدكتور المبدع عبد المطلب السنيد, والمتألقة آسيا كمال, والفنان كريم محسن, كما ابدع الشباب أمثال الفنان سعد محسن, والفنان المحبوب حسين عجاج الذي اعتبره الشخصية الثانية في المسلسل, وقد كان, خفيف الظل, تلقائيا بشكل ممتع, حتى احببناه بكل احواله. أما الفنان خالد احمد مصطفى فقد نجح وهو يمسح من ذاكرتنا صورة ابو عتيوة المكروهة التي لعبها في الدهانة, ليحفر بدلها صورة العميد المحقق الناجح الذي لا يحب الالتواء بالعمل الحرفي, كما اعجبتنا العلاقة التي ربطته بالمجرم ابو طبر, والقائمة على أساس المرونة في عمله ومحاولة فهم دوافع وحيثيات الجريمة بشكل دقيق, وأثر ذلك في تحليل نفسية المجرم الذي أحبه هو الآخر وباح له بسرعة لم نكن نتوقعها من مجرم معتاد, وعلى العكس مما كان مطلوبا من الفنان القريشي الذي احببناه في الدهانة بدور"وجيه". كما استضاف المسلسل ثلة من النجوم الكبار مثل المبدعة سليمة خضير, ومهدي الحسيني, وكريم عواد وغيرهم, مما جعله عملا متقنا في أغلب الجوانب الفنية.
هناك سبب ساعد الفنان القريشي في اداء شخصية أبو طبر المعقدة والصعبة, وهو ترسخ شخصية "وجيه" الطيبة في مسلسل الدهانة في أعماقنا, مما سهل اقناعنا بأن أبو طبر مريض بانفصام الشخصية التي لا نستطيع التكهن بافعالها, لذا لم نكرهه جدا, بل نتشوق لمعرفة المزيد عنه, فاختيار الفنان القريشي جاء اختيارا ذكيا وموفقا بل يُحسب سببا رئيسا من أسباب نجاح العمل, حيث لا بد للمشاهد ان يكره هذا المجرم, الذي بذات الوقت نجده يبكي ألماً على طفل قتله دون ذنب, فيثير تعاطفنا معه ومع ظروفه القاسية التي خلقت منه ذلك الكائن المفترس الذي يعود لطبيعته البشرية التي ما ان تطل لدقائق قليلة حتى تغرب, فيقرر قتل بريء دونما سبب بعد أن كان ساعده في إصلاح سيارته, وهكذا, خرج إحساس المشاهد عن المعتاد في المشاعر, وتشظى بين التعاطف والكره لهذا السفاح, وهذا خروج عن المألوف, اي إبداع من الدرجة الاولى.
كما ساهم الفنان القريشي بهيبته, وبسطوة شخصيته على المشاهد, ان يجعل الكره سحرا, والرعب تشويقا, وان يسمـّر الناس أمام الشاشات, فالمجرم يتعامل مع الضحايا ببرود غير معقول, وبتصرف لا يجد المرء له تفسيرا سوى عدم السويـّة.
اجمل قيمة قدمها المسلسل, وكان جريئا بطرحها, هو ان المجتمع العراقي انذاك, وحتى الان يحاصر الجمال كقيمة, فالشاب الشرطي الوسيم كان مطاردا, ومهددا بالاعتداء الجنسي عليه بسبب جماله, وهذه صفة حقيقة موجودة عند فئة كبيرة من أهل العراق. فهم يطاردون اهل الجمال لاحتوائهم وإخضاعهم لأهوائهم , أو , يحاربونهم بكل شيء, وان كانوا يمتلكون أرقى المواهب والابداعات, وكل الذكاء. وسلوا أهل الجمال ليشهدوا, لو انهم أمنوا مقتلا..
لماذ ا نحاول الكذب والالتواء على ما هو موجود بمجتمعنا المشوه, والذي لم يعش حياة سوية منذ عقود؟
لم يجرؤ أحد من المبدعين طوال سنوات حكم البعث الطويلة أن يستعمل قصة أبو طبر المرعبة كمادة في الفن والأدب, وكان صمتهم يدين البعث, فلولا أن البعث ضالع في هذه الجرائم لكان القاء القبض على أبو طبر نصرا له, ومغنما وطنيا, خاصة وان البعث عودنا على اعتبار الهزائم نصرا, ليطبل له أزلامه, فكيف به وقد قضى على قاتل ٍ دوّخ أهل العراق وأرعبهم جميعا؟
نعم, انها الحقيقة, كما أكدها المبدع حامد المالكي, فلولا انها جريمتهم لدعيت الاتحادات والنقابات الثقافية لتغطية الحدث بأكثر من وسيلة اعلامية وبكل الأساليب باعتباره نصرا مؤزرا يحسب لنظام البعث وعصابته, من هنا استطاع الكاتب ان يوصل لنا هذه الفكرة عن طريق طلب "أبو طبر" من المحقق برغبة الاتصال أما بصدام حسين أو بسعدون شاكر, وهما من أهم اقطاب النظام انذاك, بل أقوى الشخصيات التي تدير دفة الحكم تحت صورة دمية اسمها احمد حسن البكر.
ان كاتب السيناريو من حقه أن يبني على حدثٍ ما مشهدا في المسلسل, فهو يكتب دراما وليس عملا تأريخيا, والدراما قابلة لذلك, وبحسب مايراه مشوقا وغير خارج عن سياق الحدث, لذلك سوف لن اسأل الكاتب عن الحقيقة التي رأتها الناس على الشاشات في السبعينات والتي تقول: إن أحد النصابين قد سرق" حاتم الهضم" الذي ظل يبحث عنه في المانيا وايران وسواها من البلدان, وحينما لم يجده عاد ليصبح "أبو طبر" ويقتل الأغنياء محاولة منه للتعويض عن ماله المفقود وبطريقة سريعة..
لقد شكك الكاتب باعترافات أبو طبر, مثلما شكك بنهايته, ومثلما شكك بعضنا بانه كان قد لـُقن هذا القول ليستبعد حقيقة ذهابه الى المانيا, خاصة ان الكاتب المالكي قال على لسان ابو طبر بان صدام حسين كان زميله!.
زميله أين ومتى؟ لا ندري.
لقد أثار الكاتب المبدع المالكي جدلا حول حقيقة الفاعل الذي ارتكب جرائمه في زمن اعتاد سادته على طمس الحقائق ومسح كل الدلائل, واعتقد ُ ان هذا هدف هام من اهداف الدراما اذ ليس من واجب الدراما الكشف عن الحقائق الغائبة بل يكفي تحريض ذهن المشاهد على البحث للوصول اليها.
أكد المسلسل على ان الشعب العراقي كان يعرف عدوه جيدا, كما عكس لنا المسلسل على لسان ابطاله في المقاهي والبيوت, والعدو هو نظام البعث الذي اراد السيطرة على البلد والتلاعب بمقدراتها رغم انه لم يكن محبوبا عند العراقيين ابدا, فلم ينس له الشعب حمامات الدم التي ارتكبها عام 1963 ضد الوطنيين والأحرار من معارضيه, الشيوعيين خاصة, والذين كانوا يحظون بجماهيرية لم يحظ بها حزب عراقي قبل ذلك التاريخ.
كان العراقيون يعون المؤامرة ويتحدثون عنها, وعن كيفية إلهاء الشعب بلعبة" المصارع عدنان القيسي" والكذب في تمثيلية "ناظم كزار" التي قضى صدام حسين عليه كمنافس له في الحزب والنظام.
اما علاقات الناس التي عكسها الكاتب بدقة وقدرة فائقة, نراها فطرية وأبسط من علاقات الناس اليوم, فالعوائل الفقيرة في بعض مناطق العراق كانت تسكن في بيوت يطل بعضها على الأخر, لكنها لم تفكر بطريقة سلبية ازاء انكشاف العوائل على بعضها, ولم تفكر بطريقة دينية متعصبة كما اليوم ازاء العلاقات الانسانية, خاصة ان الفقراء مجموعة منسية, تعاني ذات الفاقة وذات الحسرة, حيث تعيش بخندق واحد تتقاسم نيرانه.
لقد نجح مسلسل ابو طبر نجاحا مذهلا, رغم انه مثل كل عمل لا يخلو من هنات وأخطاء, لكنها قليلة, قياسا بنجاحه, خاصة ان الحدث كان غامضا في حياة العراق, دفنت أسراره مع القتلة والضحايا, وبالتالي كانت الكتابة فيه أمراً صعبا للغاية.
اخيرا كنت اتمنى على المخرج ان لا يمط بحلقات المسلسل الى 29 حلقة ويزيد من التداعيات بل يجعلها 25 حلقة كي لا يضعف العمل الذي شدنا بقوة. اتمنى لجميع الفنانين التألق والنجاح الدائم..