نسمة

عصام الدين محمد أحمد

تتربع نسمة فوق الكنبة،تحاسب نفسها:مائتا جنيه؛أين ذهبت؟    ثمانى وثلاثون جنيها ثمن مسحوق الغسيل،سبع وعشرون جنيها ثمن المعسل،مائة جنيه ثمن العدس والفول والبهارات،أربعون جنيها قيمة ال تى شيرت و...أعلق مغتاظا:كفاية يا هانم؛المبلغ تعدى المائتين،لماذا تراجعين الحساب الآن؟   

- لكى أعرف هل غالطنى أحد؟

أتركها مغادرا الشقة،أخشى أن يفوتنى هدوء الزحام على الميكروباص قبل هطول أفواج الموظفين،تتحرك فى الشقة كمن أصابها مس،تصيح على حسام النائم لتوقظه حتى يذاكر،يكيل لها الصاع صاعين:

- كفاية قلق ودوشة،لم أشبع من النوم.

تتحدث مع نفسها:زهقت منكم ومن تصرفاتكم.

يأتيها صوت من أسفل البطانية:قرفت من حياتى؛مذاكرة ثم مذاكرة وفى النهاية أحصل على شهادة جامعية للصياعة،فما الذى يغضبك؟

ينهض محمد من أسفل الفراش،يستهلك فى حمامه نصف ساعة،يلبس هدومه،يشرب شايا بحليب،يتحزم بحقيبته،يفر من الباب متوجها إلى المدرسة التى يعمل بها وصوتها يلاحقه:

- لا تتأخر يا فالح؛لا تشغلنى عليك.

دقائق وترتدى جلباب الخروج،بإحدى يديها شنطة زبالة وبالأخرى قفص العيش الفارغ،تسحب الباب خلفها،تتهادى فى نزولها السلم؛فالجو قارص البرودة وخسائر وقوعها فادحة،ربما يخلف جروحا وكدمات يطول علاجها،تقضم مائتين خطوة لتصل إلى الشارع الرئيسى،تحتمى بمحاذاة الرصيف،فالتكاتك تجرى بسرعة الصاروخ،ترمى الشنطة على كومة الزبالة،خرفان وكلاب وثلاث حمير وثلاث سيدات وخمس أولاد وراعى ينتشرون جميعهم فوق الكومة،يفرزون الزبالة؛زجاجات البلاستيك،أوراق الكارتون،مواسير حديد،ملابس قديمة،أحذية متهتكة الستر،ما أكثر المعارك اليومية بين السيدات والأولاد،تنحرف متجهة إلى المخبز،لها حكاية يومية مع الفرن،فمنذ ثلاث سنوات قدمت المستندات المطلوبة من مكتب التموين،لكى يخرج لها البطاقة الممغنطة،ولكنها لم تحصل عليها بعد،أعطوها بطاقة ورقية للحصول على عشرين رغيف يوميا،على أن تجدد البطاقة شهريا،كل يوم لها معهم قصة،تارة يمنحوها الخبز دون مناهضة،وأخرى يرفضون ويطلبون مراجعة مكتب التموين،وهذه إحدى مشاكلها العصية على الحل وتسبب لها وجعا،فطابور النساء على المكتب ممتد أمتداد غير مقطوع،الأجساد اللحيمة تعجنها فى صف الحاجات،حنجرتها لا تسعف أستغاثتها،وبدنها الهزيل ترجه الكدمات والدفعات،ومع ازدياد المعاناة يقولون لها:لم تأت بطاقتك بعد.

تحمل قفص الخبز فوق رأسها أو كتفها أو بين يديها،عشرون سنة أو أكثر تمر برحلتها هذه يوميا،سرعان ما تعود لتركن القفص،تخلع جلبابها،تغسل عشرات الأطباق والأكواب وحلل الطبخ،دائما تقول:ما أيسر غسل المواعين فى الحوض المرتفع لمستوى الصدر.

ثم تحكى فى ساعة صفاء:

( تكوم المواعين فى صينية طعام مهولة،تحملها فوق رأسها قبل الغروب،ذاهبة إلى شط الترعة لتغسلها،وتستطرد مستغلة أنتباه الأولاد:تخيل حينما يأكل أكثر من عشرين رجلا فكم من الآنية يحتاجون؟   فزوج أختى يأتى ورجاله فى موسم البلح لشراء النخيل وجنى ثمارها لبيعها فى الأسواق،وهؤلاء ينزلون ضيوفا على بيتنا بأم الرضا بدمياط،وتخصنى أمى لغسل المواعين،أستهلك أكثر من ثلاث ساعات فى مهمتى،تتفلسف بالقول:البنت فى القرية تعشق سكون ما قبل الغروب،تتحجج بمئة سبب للذهاب قريبا من الترعة والغيطان،لكى تستنشق الهواء الرطب الجميل وترى رحلات العودة إلى البيوت،ولكن مشقة تنظيف الأوانى تبعث فى النفس الرفض والممانعة.)

تستكمل الحكى:

(طول النهار أحمل فوق رأسى مشنة البلح من تحت النخيل،لأقطع الغيط إلى فرش التعبئة مقابل جنيهات لا أعرف مصيرها،وفى نهاية كل يوم غسيل وتنظيف؛فلتذهب حياة الفقراء إلى الجحيم،ولتذهب قسوة أمى إلى الشيطان،وليذهب الزواج إلى بئر النسيان،بئر مطموسة المعالم غير محددة المكان،ألقوا بمصيرى فى بطنها ونسونى،عشرات الرجال يقدمون فى شتاء كل عام،نخدمهم،نطعمهم ونسقيهم وننظف ملابسهم،وفى المحطة الأخيرة يرحلون،ولا يبقى من كدى وعرق أخوتى ما يسد الرمق،لا أدرى كيف تدبر أمى الإنفاق،وفى عام منذ ثمانى وعشرين عاما،يصحب الرجال من يحمل حقيبة مليئة بالكتب والكراريس؛شكله مريح وهيئته تختلف عن هيائتهم الجافة،يحظى باحترامهم،يجلس ويحكى فيستمعون له،كلامه يمس شغاف القلب،يصف الفقر والفقراء،ينعى عليهم السلبية والهزيمة،وعقلى تائه ما بين البلادة والفهم،قالت أمى أنه من أقارب المعلم زوج أختى،بصراحة تعمدت أن أسرح معه كل صباح إلى الحقل الذى سيجمع بلحه،خبرته فى التعبئة منعدمة،علمته كيف يفرش الأقفاص بالورق،ويصف خمس منها متراصة،أفرغ مشنة البلح فى الأقفاص الخمس،ننتقى الثمر الناضج الغليظ،نخزنهم فى سادس،وهكذا حتى تمتلئ الأقفاص الخمس،ثم نضع الثمار المنتقى فوق الأوجه،ثم يضع نصف فرخ ورق جزارى على كل وجه وغطاء الجريد،ثم (يخيش)الأقفاص بالدوبار،أتقن العمل وأبدى لى عرفانه بالجميل،لا يتحدث كثيرا وكأن هدفه يتمحور حول قضاء الوقت فى الشغل فقط،يخلص فى عمله وكأن العائد له.)

فرغت من الأطباق والحلل ،لم تمهل نفسها فرصة للراحة،لبست الجلباب ثانية،جريت إلى السوق،لها نظرة ثاقبة فى التفريق بين الخضروات الطازجة والبائتة،ألا تكفيها حيرتها لأختيار ما يرغبه الأولاد،لا يحبون الطبيخ،ويعشقون النواشف والمشويات ،العدس والفول والبصارة والمسقعة أطعمة ممجوجة،بينما الكفتة والكباب والبفتيك والحواوشى والسجق والفراخ البانية أطعمة مقررة على مائدتنا دون نقاش،لا يعجبنى هذا الوضع،ولكن للضرورة أحكام،تتعجب من الأمر وتهاجمها حياة الشظف والحاجة التى عاشتها قبل مجئ الأولاد،مرت الشهور دون أن توقد البوتجاز؛فول وطعمية وبطاطس وأوراق الجرجير رفاهية،تذمرت مرة ضاحكة:فول..فول..بطننا زرعت،زعل عاصم واشتاط غضبا،لفظ الطعام ثلاث أيام متتالية،ومن لحظتها آلت على نفسها أعلان الرفض،ها هى بالسوق،تفتشه لعلها تجد خضرة صابحة،تشترى فجل وجرجير وبقدونس وبطاطا بيضاء ويوسفى وفراخ بانيه ومكرونة،تحمل شنطة مليئة،سيأكلون جميع ما فيها ولن ينسوا اعلان عدم رضاهم،تقضى فى السوق أكثر من ساعتين،فهو المتنفس الوحيد لها،لترى الناس؛رجال،نساء،وأطفال،ناس من لحم ودم يتحركون،يتهامسون،يتعاركون،تختزن المشاهد وكأنها ستحرم منها،تعود إلى الشقة،ترتب الفراش،الأولاد لا يطبقون البطاطين،لا ينفضون الأسرة،تستأنس بصوت التلفاز،ولكنها اليوم لا تبغى التلفاز،تجوس فى ذكرياتها،تود فهم السر وراء النعومة التى غلفت معاملة عاصم لها؛فما تعودت منه الجفاء وأيضا لم تتعود منه هذه الرقة:

(جمعنا العمل فى حقل واحد،الكلام المتبادل قليل بل نادر،عرفت أنه خريج جامعة ينتظر الوظيفة،يترقب العمل الميرى،ربما يأتيه اليوم أو غدا!  على فكره أمثاله فى قريتنا كثيرون،يقضون أعمارهم على المقاهى،وأفضلهم حالا يمارس عملا يدويا بورشة أو غيط،الفرق بين عقلينا كبير جدا،ينهى عمله ليقرأ كتابا،وينفق فى القراءة ساعات،أعجبنى هذا العالم الغريب،ربما أتعلم شيئا!  حرصت على نظافتى الشخصية،أستحم يوميا،ألبس أجمل ملابسى،تمنيت أن يبقى معنا طول العام،ولكن فر العام وكأنه لص تطارده الشرطة،حينما هل العام القادم كان قد تغير كثيرا،تجاذب معى الحديث،لاحظت أنه يلاحقنى بناظريه،فأفتعلت ممانعات الأنثى،ففى ذهن كل أنثى آلاف حيل الممانعة المترقبة دورها،لم يتحمل فى يدى(غلوة)،ومع نهاية الموسم طلب الزواج منى،ألهبته بجسدى المغلف بالستان الأحمر اللميع،حركاتى تبعث فيه كوامن الرغبة،ومن أين للمسكين بخبرات كبت الشهوة؟    فالقراءة وحكايات السمر لا تخمد النيران المتأججة،أيام معدودة وكنت فى شقته،وقال لى ليلتها:لم أنس تسخينك لجردل مياه،لكى أستحم به فى دورة مياه المسجد بدلا من مياه الثلج المترسبة فى ماجور الفخار فى أواخر ليالى طوبة.)

تسترسل فى الحكى :

(ذات ليلة ممطرة كان يسهر لآخر الليل،يضرب سباطات البلح بالخل؛فلكى يستوى البلح الأحمر ويطيب كالحيانى،يجب خلطه بالخل،وهذا ما كان عاصم يفعله طول الليل،يجلب طشتا كبيرا،يصنع ثلاث لفات من الأقفاص؛اللفة تتكون من ثلاث أقفاص،قفصان يلبسان قفصا،يضع اللفات فوق بعضها وأعلاهم الطشت،يملؤه بالسباطات ،يرش عليها الخل،يضرب(يمرمض) السباطات بعضها ببعض،يكومها فى جرن،وفى النهاية يغطى الكومة بأوراق الكارتون وحصر الزعف(الكيب) والأقفاص الفارغة،يكتمها ليمنع عنها الهواء،تغرق ملابسه فى الخل،ولن يستطيع النوم إلا بعد أزالة الرائحة بالماء والصابون،ما يكاد يفرغ حتى يعدو لدورة مياه المسجد ليستحم بماء الثلج،وفى ليلة برودتها قارصة غليت له جردل مياه،ولا أدرى لماذا شكرنى كثيرا على تصرفى! 

مرت بنا أيام رتيبة وأخرى كارثية،شقة أمبابة واسعة،لم يكن قد أشتغل بالمؤسسة بعد،ولد محمد،وكدت أدفع حياتى مقابل هذه الولادة المتعثرة،خرجت جثته من رحمى وروحها غائبة،نصف ساعة كاملة والداية تدلى جسده مقلوبا وتضرب ظهره بصورة متلاحقة،أخيرا أنفجر الولد صارخا،فرحت حماتى كما لم تفرح من قبل،رفض الرضاعة قبل أن يتم شهرين،وهذا سر رأسه الناشفة ودماغه الصلدة،صاحبة البيت منفصلة عن زوجها؛مترعة بالأنوثة واللحم،لم يعهد جسدها إلا قمصان النوم،لا يغطى قميصه إلا نصف الجسد فقط،وكل مواطن الأنوثة عارية وصارخة،عينا عاصم تزوغان عليها،حينما تزورنا ينقلب حاله،يتلصص على الجسد الفائر،لعبت فئران الدنيا فى عبي،عاملتها فى جفوة وعنت،تزداد العلاقات بينى وبينها سوء،تفتعل الأزمات،وأثناء هبوطى السلم وعلى يدى محمد،تحتجزنى على البسطة،تتلقفنى بالصفعات،لا أقدر على أفلات يدى والدفاع عن نفسى،أخشى موت الولد،هبطت مقرفصة،والضربات تشتد فوق رأسى،تركتنى منتهكة البدن والنفس والولد ورجعت إلى شقتها وكأنه لم يحدث شيئ،نشبت المعارك ودامت بينها وبين عاصم وأهله مدة غير قصيرة،نشبت معارك مهولة،كادت أن تهلك عاصم،لم يستغرقه التفكير كثيرا،أرسلنى إلى   الصعيد،وفى الليل نقل الأثاث إلى شقة قريب له،وفى غضون شهرأستأجر شقة ببولاق الدكرور.)

تنهض لتعد الغداء،فالأولاد فى طريق عودتهم للبيت،تشعل البوتجاز لتقلى البانيه،وصوت حسام يصلها:

- جوعان،مازال الوقت مبكرا يا هانم.

- أخواك لم يأتيا بعد،ولن أقدم الغداء إلا مرتين؛مرة لكم ومرة لأبيك.

- لماذا نرضى بك كأم،هل كل الأمهات مثلك؟

- ناقصة يد أو رجل يا روح أمك.

- المذاكرة عاوزة أكل يا هانم.

- أأصنع لك سندوتشا وتسكت؟

- القليل أفضل من اللاشيئ.

تصنع له سندوتشا ضخما،تنتهى من الطعام،تجلس أمام التلفاز،يأتى أحمد أولا ويتبعه محمد،تقول لهما:البانيه والسلاطة والمكرونة فى المطبخ،كل واحد يغرف ما يكفيه.

لا أحد يتحرك أو يعلق،تقوم لتغرف لهما،يأكلان بنهم ؛فمعدة كل منهما خاوية،تنتظر قدوم عاصم لتشاركه الطعام،لا تدرى على وجه اليقين لماذا يتأخر هذه الأيام كثيرا؟ربما ليكسر حدة رتابة المكوث بالشقة! ربما ترقيته إلى مدير عام تتطلب المزيد من الوقت!  بالرغم من سنوات العشرة الطويلة بينهما لم يكنز عندها سره:

(يجلس فوق الشلتة بالساعات ولا يتفوه بكلمة واحدة،لا تعجبنى أحواله،وكأنه كبر وأصابه الخرف والنسيان،يتكئ على الشلتة ليدخن بالساعات،فقد شهيته لقراءة الكتب،يقول:ليس فى الكتب سوى معلومات لا تعنينا.

منذ الثورة وحاله قد تبدل،فجأة اهتم بأخبار الثورة،شارك معهم،يخرج مع الشروق ويعود مع هسيس الليل،لا يتحدث مع أحد،ولا يتطرق للكلام عن الثورة،وكأنه يؤدى مهمة مقدسة،تستوجب الصمت،عاد إلى البيت مبكرا،تنشب معركة بسبب محمد:

- لماذا سمحتى له بالنزول؟

- ما هو بجماد ؛بيدى أحركه وبيدى أغرسه فى الأرض.

- أتريدين له أن يقتل فى المظاهرات؟

- بالطبع لا ،ولكننى لا أعلم عن وجهته شيئا.

- أترتاحين حينما تعلمين أنه يذهب إلى ميدان التحرير؟

- لن أدعه ينزل.

يمر الوقت سقيما قبل أن يعود محمد،لا يقتنع بالاستسلام لإرادة عاصم،فيفاجئه بالقول:

- لن أتخلى عن المشاركة،أعرف كل ما ستقوله ولن يؤثر فيً.

- لن أمنعك ،ولكن لا تدفع حياتك بالمجان..

عبرت أيام الثورة،يجلسون بالساعات ولا كلمة تنطلق،وكأننا نسكن داراكل من فيها غرباء،أحمد ومحمد مشغولان فى اللاب وحسام فى المذاكرة والدروس الخصوصية،وعاصم الذى لم يأت حتى الآن مشغول بتدخين المعسل،ربما ينشغل الرجل بمصير الإنسانية!  وربما تملكته المراهقة مع راندا أو فتاة بولاق!

عقب الحكم ببراءة محمد سكنتها الغبضة والبهجة،فكاد المرض أن ينهشها إبان حبسه احتياطيا،تسمرت طويلا أمام الجنود والأمناء،عصرت أفدنة ليمون على نفسها حتى تبتلع الأهانات ونظرات الأرتياب،لنسمع منها:

(يقول  المثل :خلفت الخايبة للغايبة.

العروس هى المعنية بالغايبة،ولكن فى مأساتى الغايبة لا تعنى إلا النظام،سهرت الليالى لأطببه،وقضيت النهار أهشكه(أدلعه)وألاعبه،وبعد أن يشتد عوده ويفوقنى طولا وعرضا،يأخذوه منى؛تارة تحت مسمى الخدمة الوطنية،والأخرى تحت مسمى التأديب لأنه يتنكر للنظام؛قم من النوم،فز خارجا،شارك فى المظاهرات،صورها؛لماذا قمت من النوم؟    لماذا فززت خارجا؟    لماذا شاركت فى المظاهرات؟    ولماذا صورتها؟    أصبحنا محجوزين رهن إرادة من بيده السلطة،هذا واقعى ،فماذا تترقبون منى؟    أأهرب تاركة لهم الولد؟    أتخوف من تسرب الوهن لعزم عاصم،كما أن المصير الذى ينتظر محمد أسود اللون،عفن الرائحة،قالوا أنه ينتمى لجماعة أرهابية،فما مصيره؟    كلابشات،قضبان حديدية،تذويب الجسد على نيران الأهانة،لن يضيرنى الوقوف ؛القليل من الماء والمرطبات تعيد الأعضاء إلى سابق طبيعتها،اليسير من أعادة الترميم مفيد،لا تنظرون إلى بغباء،فأنا اللبوءة المفترسة لكل من يقرب أشبالها،لم أختبر مشاعرى تجاه أولادى من قبل؛فالأزمات نادرة،ولكننى الآن كائن آخر،أود نشب مخالبى فى وجه كل من مد يده على شبلى،يوثقونه بأصفاد حديدية،يسحبونه كالشاه الضعيفة من مكان لآخر،مصيره معلق خلف هذا الباب الموصد،كلمة- مجرد كلمة- ويفك أسره،أيضا بكلمة يقضى عمره الذى لم يبدأ بعد خلف قضبانهم،عاصم هو من أرتكب هذه المصيبة،أحاديثه المنمقة عن الحقوق،دروسه شبه اليومية عن الباطل،تلك كانت تذكرة محمد لركوب طائرة الضنك والمشقة،غريب أمر هذا الواقع؛فأهلى مدانون بمثل هذه الأتهامات،أولادهم فى السجون بحجج واهية،لمجرد أنهم يحوذون إشارة رابعة،لا يريدون بشر،يمهدون الأرض لسكنى الروبوتات،يوم خروجه من الحبس لن أنساه أبدا،هدومه متسخة،وجهه أسود،سعاله متلاحق،أستحم،لم يأكل شيئا،نام نوما متقطعا،مرت الأيام وأمارات الهزال والضعف تومض وتختفى،المرض سيطر على قدمى ومفاصلى وظهرى وعنقى،الأستسلام للفراش هو الحل الأوفق،عفت الطعام والشراب،هاجمتنى الأحلام والكوابيس:

تدنو من عينى امرأة أرهقها السفر،أماراتها متغضنة،تدور حولى ،تحاول نزع جلبابى،أتحرك بجنون حتى لا تطولنى أناملها،الجو ملئ بالغبار وأوراق الشجر،تستجمع قواها،تطاردنى فى فضاء من الجبال والصخور والبحار،أنتفض مستيقظة،أقعد،أنظر،أولادى جميعهم حاضرون،أنام ثانية:

أستغيث ،لا أحد جوارى،تومض عينان فى الظلام،ينتشر وميض الأشعاعات،لا أملك إلا الخوف والرهبة،فى الأفق البعيد عراك دامى،صهيل خيول،قذائف هاون،صليل سيوف،أزيز طائرات،نواح وهلع،آهات وضحكات،أصرخ،أفتح عينى،مازلت على سريرى نائمة،أبلل جوفى ببق مياه،أنام ثالثة ورابعة.

طاردتنى هذه الأحوال ليالى كثيرة ،كيف أنام وأغمض جفنى،وأبنى ملقى بين أيديهم،لا أعرف ما الذى يحدث له،شُلت أياديهم التى نالت جسده،ياحسرة أمك عليك يا كبدى،يا قليل الحيلة،لا تتذكر أنك طوحت بقعر زجاج لمبة نمرة عشرة لأعلى وتسمرت أسفلها،شجت رأسك،غرقت فى الدماء،جريت بك للدكتور،فخاط الجرح بخمس غرز كاملة،لماذا تكرر المشهد؟ألم تتعلم الدرس ؟    ولكل شيئ نهاية.)

 

تمت بحمد الله

وسوم: العدد 761