رباعية الشهيد

يوسف يوسف

1- فاتحة النشيد

تهدمت بيوت الطين.. بعضها تكوم على هيئة تل، وأما الغالبية فقد تساوت مع الأرض. في الطرقات بقايا خشبٍ محترق، ونوافذ حديدية ضيعت أشكالها.. الأشجار بلا رؤوس، والتي انكسرت من الجذوع تقول: إن الحرب مرت من هنا.

في الهواء رائحة البارود، وروائح جثثٍ شويت للتو. قطعان الخنازير التي داهمت القرية الفارغة في بدايات الليل تراجعت، وانكسر الرمح الغادر عند حد الصخر أمام بواباتها وفي طرقاتها، فإذا الطوفان بحر جثثٍ، وسلاح بارد، ورصاص، وشظايا قنابل.

كأن (فتحي رضوان) سمع صهيل خيول، ووقع حوافر، تليه ضربات إيقاعية لدفوف، تطالبه أن يعدل مشيته.. إنها الحرب التي يواصل الخطو فوق تضاريسها، في الأعلى انفجرت قنبلة تنوير، أضاءت المكان، كتل اللحم نتوءات فوق الأرض، يصطدم بها.

كيف يتركون قتلاهم ويهربون؟! لم يصدق في البدء، لكنه عندما تفحص الوجوه، أدرك أنها يهودية.

كفو!!

رأى يداً ترتفع من بين الجثث، وفي الكف قنبلة. لم ينبطح كعادته في ردود الأفعال المشابهة، سدد البندقية وسكب فوق اليد نهراً من الرصاص. سقطت اليد، وكذلك القنبلة.

واصل الخطو بثبات. توهجت قنابل تنوير أخرى.. الجثث في كل مكان.. الخوذات المعدنية. الأحذية العسكرية، الأرجل المبتورة، والسيارات المحترقة. كان يقلب الأمر في رأسه، إذن فقد كانت هزيمتهم كبيرة. وعندما انفجرت السماء فوق رأسه، اندفع مع (عماد شهاب) عبر أحد الأزقة، ليتوغلا نحو الجنوب..

***

2- جنوب الأهرامات

تلك الليلة من حرب الجنوب لم تكن هادئة. تلونت بالأصفر والأحمر والأزرق، أفقها قنابل تذهب إلى الشمال، وغيرها تذهب إلى الجنوب. من الأرض إلى الأرض، فوقه، تتشابك خيوط النار، محدثةً ضجيجاً لا ينقطع..

من خلف الهرم الصخري ظلَّ (فتحي رضوان) يلاحق النيران الطيارة، بنظرات حادة، جسمه مغروس وراء الهرم، أو في حضن الصخرة، لكنه يحصي دقائق الانتظار لكي يواصل الخطو عبر تضاريس تطرزها خيوط النار. اختطف نظرة سريعة إلى ساعته، ثم التفت يمنةً ويسرة كأنما ليتأكد من استعداد الآخرين للرحيل إلى ذلك العالم الطحلبي الذي يقتات من حقول حنطته الجليلية.

كأنه سمع الصهيل ووقع الحوافر وإيقاع الدفوف.. إنه ينظم الحرب على هواه.. من هنا مرت جحافل صلاح الدين وهي تمضي إلى القدس، وها هو يمر، ومعه جحفلٌ من المقاتلين، الذين لا يزيد عددهم عن العشرة.

خمس دقائق، أو عشر، لا يعرف، ولكنها كانت أطول من أي زمن، تلاشت بعدها كل تلك الألوان، وأعقبتها حالة أشبه ما تكون بالعمى المفاجئ.

بدأت السيقان تسابق بعضها بعضاً، يسبقها حنين العيون للأرض التي طال غيابهم عنها، أما خط الاستواء الحارق، فقد كان مجرد خرافة، تركوها وراءهم، كما تركوا الأهرامات ربما قاتلتهم الخنادق في لحظاتها الأولى، لكنها سرعان ما افتقدت ذلك العنفوان الذي ضاع بين أحذية شباب الفصيل الذي ظلَّ يزحف نحو الجنوب.

انفتحت الخنادق أمام الشباب ممتدة ومتقاطعة. كانت فارغة إلا من بقايا حياة، معلبات، صناديق خشبية، وأحزمة من الرصاص..

فوق تلة اصطناعية، رأى (فتحي رضوان) رشاشةَ ثنائية تطل فوهتها من بين أكياس التراب. التفت إلى (عماد هاشم). أدرك رامي القاذفة مغزى النظرة، سدد قاذفته وعيناه تلاحقان أطراف خريطة جديدة.

قال (فتحي رضوان):

انبطحوا فوق الأرض اختبئوا أكثر.. إنها لا تعشق غيركم، فاستمعوا إلى وجيب قلبها. إنه يدق ويدق كلما رأتكم في أحضانها..

وقال (سعيد الحمصي):

أحبك أيتها البندقية.. أحبك كلما ازدادت كراهيتك لصقيع ثلاجات تخزين الإرادة.

***

3- صايد الدبابات

انشقَّ الليل محترقاً.. القيامة قامت. دبت الحركة في الخنادق.. الشباب يتطايرون من مكان إلى آخر، ومن كتف خندق إلى بطنه، قنابل يسبقها صفيرها، وشظايا لا ينقطع وشيشها.

بالمئات كانت، أم بالآلاف، فالأهم أن صخب البركان كان عنيفاً.

لن نتراجع، قالها (فتحي رضوان)، ومضى مثل السندباد، يحاور الشباب والأرض، لحظة هنا، وأخرى هناك.

اقتربوا أيها الغزاة، فنحن بانتظار الجراد. رددها (عماد هاشم) مع نفسه، ولحظة رأى دبابة تقترب، همس في أذن الملازم الشاب:

سوف أدمرها..

قام من مكانه واندفع. راح يعبر مسافة الموت والرصاص.. عشرة أمتار وأكثر عبرها فوق أرض جرداء تساوى سطحها مع سيول الرصاص التي كادت تغرقه بطوفانها أكثر من مرة.

أمامه كانت الدبابة تقترب، تسبقها خيوط النار التي تبصقها رشاشته الثقيلة. رويداً رويداً ظلت تتضخم في عينيه، بيدَّ أن كل تلك الخيالات انتهت في لحظة، وسط كتلةٍ من النار هائلة، أحاطت بالدبابة من كل الجهات.. فرح أشد الفرح.. أحرق دبابة ثانية وثالثة، ثم اختار مكاناً جديداً ليكمن فيه.. أطلت دبابة رابعة، أتت من الأفق البعيد تثير زوبعةً من الغبار... ظلت الزوبعة تقترب بفورة غضبٍ بالغة.. لم تتوقف.. كان يرى الانفجارات حولها.. انفجارات قنابل المدفع (106ملم) المحمول الذي ظلَّ يغطي تقدم المجموعة من بين الأهرامات..

حاور قاذفته وصاروخه الأخير.. سدد ورمى.. ظلَّ مشدوهاً للحظات، غير آبه بالرصاص الذي انهمر فوقه، التصق بالارض، وزحف إلى حفرةٍ قريبة، ماذا سيقول أولئك الذين يلقبونه بصايد الدبابات! بأي وجهٍ سيقابل الملازم (فتحي رضوان). تمنى لو كانت معه مقذوفة خامسة، ولكن..

كاد يطيير.. وقف بطوله.. الله أكبر، صالها بصوتٍ يغالب ضجيج الانفجارات.. احترقت الدبابة.. سقطت فوقها قذيفةٌ لم يشغل تفكيره كثيراً.. وجد نفسه في عناقٍ حار مع (فتحي رضوان) في عيونهما كانت تتلألأ بقايا نيران الدبابات المحترقة.. جنوب الأهرامات، وخلف خط الاستواء الواقع بين عالمين متحاربين.. أحدهما عالمه، والآخر لجندي اسمه (عزرا). 4- الشهيد

اختفت شمس الصباح خلف بحرٍ هائل من الضباب.. وعلى الرغم من ذلك، كان عدد من الجنود يأكلون، ويتحدثون.. ثمة نكهة لذيذة في أفواههم، يُطيبها طعم الزعتر المبلول.

أتى (عماد شهاب) مسرعاً لم يستطع أن يخفي غضبه الذي بدا واضحاً بين حاجبيه اللذين ضاعت سمرتهما تحت التراب العالق بهما، وقبل أن يسأله (فتحي رضوان) بادره بالقول:

- ذلك القناص كاد يقتلني، لم يبق بين الطلقة ورأسي أبعد من شبر، وربما أقل.

زمَّ (فتحي رضوان) شفتيه، وطقطقت أسنانه وهي تختلج ببعضها، امتدت يده إلى قناصة (هشام)، لم يحاول أحدٌ إيقافه.

تركهم ومضى مع الخندق نحو أحد المراقب.

ابتدأ (فتحي رضوان) يتفحص المدى الممتد أمامه بوساطة المنظار الصغير. صحيحٌ أن الضباب كان كثيفاً، إلا أنه رأى خوذة تظهر وتختفي فأدرك أنها لعبة سمجة.

ابتعدت نظراته عن الخوذة.. فالقناص لن يكون قريباً منها.. فورة غضبه لن يوقفها غير تمكنه من اصطياد ذلك القناص، الذي يختفي من مكان ما، غير بعيد عنه، يحاول الاستتار خلف الضباب..

بحث في المدى كله.. أحس بالبأس، أين يختبئ ذلك الملعون!

في اللحظة التي همّ فيها بمغادرة المرقب، راودته فكرة البحث في الأرض الحرام. بدأت نظراته تسرح فيها من اليمين إلى الشمال.. لم تخب توقعاته، حين اسوقفته كتلة من الحشائش الجافة وسط أرض داكنة الخضرة، أنعم النظر.. خبرته العسكرية دفعته إلى الاعتقاد بأنه قد نجح في تحديد موقع القناص.. غادر المرقب لكي يتخذ من حافة الخندق اليسرى مكاناً له، هكذا أفضل، قال مع نفسه..

نظر عبر منظار قناصته.. تخيل القناص القتيل وقد أطارت الرصاصة كل أحلامه.. نفث كل غضبه دفعة واحدة واستراح..

سحب نفساً عميقاً، وأسند رأسه إلى حافة الخندق، اشتعلت الدنيا من حوله.. سقطت قنبلة .. اثنتان.. ثلاث قنابل.. لم يعد يدري.. وقبل أن يبتعد، فاجأته قنبلة ملعونة.. انهارت حافة الخندق، وانهال التراب فوقه، اندفع الشباب نحوه، بينما كانت القنابل ما تزال تتساقط..

- (فتحي رضوان) أصابهم في القلب، يريدون الانتقام.

وقعت أنظار الشباب عليه، كان يحتضن القناصة بحب عجيب، إلى حد أن قيل:

- لقد أصبحت القناصة جزءاً منه، ومن الصعوبة أخذها من بين يديه اللتين أطبقتا عليها بقوة غريبة.

وسوم: العدد 762