سيدة من حلب

ناديا مظفر سلطان

فارقتني كل مظاهر الحياة الغربية حالما وطأت عتبة دارها ، رائحة سجائر الماريوانا التي تغص بها الشوارع ، والوشم الذي يرتسم على الوجوه و الأذرع والسيقان ، رجال يعانق بعضهم بعضا، ونساء كذلك تفعلن . تلاشت كل تلك الملامح  عندما دخلت جنتها .

كانت النظافة تشع من أركان المنزل ، ومن وجوه أطفالها الأربع .  حياني الولدان الأكبران بأدب جم، وود عميق ، فأنا من حلب!

 ثم جلسا بجانبي  .

غمرتني رائحة صابون الغار،  وأنا أمعن النظر بمحياهما الأنيق ، أظافر مقصوصة بعناية وشعور لامعة وبذلات رياضية أنيقة ، خيل إلي أنني أعيش في كتاب مدرسي يحكي عن الأسرة  .

قم يا عبد الرحمن وأسمع  خالتك القصيدة التي تحفظ .

امتثل ابن الثماني سنوات لأمر الأم،  فوقف وأسمعني قصيدة من ثلاثين بيتا في مدح النبي صلى الله عليه وسلم .ثم عاد إلى مجلسه.

-هذه من صنعي ...دفعت إلي بطبق من البقلاوة الفاخرة ، المزدانة بالفستق الحلبي . أنا أطهو الطعام ليلا لزوجي وأولادي ، إذ

ليس لدي وقت كاف في النهار،  فأنا أذهب كل صباح مع أولادي للمدرسة كي أتعلم لغة البلاد. 

حدثتني عن رحلتها مع زوجها وأولادها  سيرا على الأقدام من حلب إلى تركيا ذات ليلة ...

- صدقيني يا أختي ثلاث أيام من المسير، وبعدها ثلاث أيام أخرى ، وأنا أنتزع الشوك العالق في أقدامنا . صمتت قليلا وهي تبتلع بصعوبة آخر رشفة من القهوة (ذات البن الحلبي) الذي ادخرته للمقربين فحسب.

- تصوري كنت حامل بهذين التوأمين الصغيرين خلال هذه الرحلة القاسية...تنهدت بأسى وهي تغالب الدمع.

- نحن الآن بأمان ولله الحمد،  ولكني أفتقد بلدي وأفتقد أمي كثيرا ... غلبتها الدموع ، فكفكفتها بحذر خشية أن تختلط المساحيق التي تزين وجهها الفتي الجميل،  فالأناقة والزينة واجبة بحضور الزوج في يوم العطلة .

- ولكن أكثر ما أخشاه هو أن يضَيع أولادي دينهم . ..كم بللت دموعي الأرض !وكم ابتهلت الله وأنا أدعوه أن يرزقني بمن يساعدني

 أشرق وجهها فجأة بابتسامة عريضة تحمل الرجاء والأمل، وهتفت ، ولكنك الآن هنا وستساعديني بتعليم الأولاد دينهم الحنيف ، أليس كذلك ؟

عند باب جنتها ، صافحتني مودعة ، ثم مالبثت أن  دفنت رأسها في كتفي ، مضحية بآخر ماتبقى على وجهها من مساحيق الزينة 

- سنعود أليس كذلك لاشيء في الدنيا يساوي تراب الوطن .

وسوم: العدد 763