الجزار السوري

معاذ عبد الرحمن الدرويش

سنوات طويلة من الغربة ، و أنا أتحاشى الدخول إلى محلات اللحوم حيث  القصابين من جنسيات مختلفة ، حيث تشتم رائحة "الزناخة " و تجد اللحم و العظام مكومة بطريقة مقرفة فوق بعضها البعض ، و الأهم من ذلك عندما تطلب من القصاب لحماً بدون عظم يتأفف و ينزعج ، فمعظم الشعوب تأخذ اللحم مع العظم ، و دائما القصاب يستجيب لمطالبنا كسوريين  بتأفف و تضجر، و تراه يتعامل مع اللحم بطريقة عشوائية، و يترك الكثير من اللحم عالقاً مع العظم بدون أن يفصله عنه بشكل كامل.

اليوم دخلت إلى محل حيث فاجأني ذلك القصاب و كان شاب سورياً، منذ أن ولجت قدماي المحل لاقتني نظافة و أناقة المكان ، و استقبلتني رائحة طيبة، و كأنني في محل عطور، و ليس في محل لبيع اللحوم .

إستقبلني الشاب بوجه بشوش و  ترحاب ، ثم قدم لي فنجان من القهوة المرة ،

طلبت منه لحماً مفروماً ، و بكل سعة صدر باشر عمله، منذ اللحظة الأولى لمباشرته العمل شدتني حركة السكين بيده، و بدأت أتابع عمله بانتباه و دقة، كان يعرف أين يضرب بسكينه، فيفصل اللحم عن العظم من أماكن بذاتها، و كأنه طبيب يقوم بعملية جراحية،  يعرف تفاصيل كل عضلة، و يتحاشى جرحها أو خدشها،  فيخرج اللحم قطعة كاملة بدون تمزيق ، لم يكن الشاب السوري قصاباً بقدر ما كان فناناً يرسم بسكينه لوحة إبداعية ، لم يكن يترك أي شائبة عالقة باللحم أو نقطة دم متجمد أو حتى لون ختم البلدية.

رغم أني أتحاشى النظر إلى لحم الذبيحة النيىء، لكني كنت مستمتعاً بحركة سكين الشاب المبدع، فلم يكن أمامي جزاراً بقدر ما كان فناناً يحمل ريشة يرسم لوحة فنية رائعة بسكينه.

على الرغم من طلبي له بفرم اللحم على الماكينة إلا أن ذلك لم يمنعه من إستخدام أناقته و فنه في كل لمسه عمل بها، فبعد أن إنتهى من فصل اللحم عن العظم، قام بتقطيعه على شكل مكعبات بحجم و مقاس واحد،  ثم بدأ بفرمه بالماكينة، لم يتوقف الإبداع عند ذلك، و إنما جاء بأكياس صغيرة ثم وضع في كل كيس قليلاً من اللحم و و بشكل متساوي  ثم طبقها بطريقة هندسية بديعة . و من ثم أعطاني اللحم مع فنجان قهوة ثاني و ترحاب و إبتسامة.

هذا هو شعب سوريا العظيم، مبدع في كل شيء، حتى باستخدام السكين.

يستخدم سكينه في خدمة الناس، يبدع في كل ما بين يديه منفعة و فناً للحياة، و شتان شتان ما بينه و بين نظام مجرم لا يعرف من إستخدام السكين إلا بجز رقاب الأبرياء من الأطفال و النساء و الشيوخ .

شعب سوريا المبدع العظيم، لا يستحق أن يحكم من عصابة سرقت منه كل شيء  و حرمته من أدنى حقوقه في الحياة و العيش الكريم، على مدى ما يقارب خمسة عقود من الزمن.

هذا  الشعب العظيم لا بد إلا و أن ينتصر مهما طال الزمن بإذن الله .

وسوم: العدد 809