نهفة في سيارة أجرة بين حماة وحلب

نور الدين منى

بعد عودتي من الإيفاد بفترة قصيرة (بداية ١٩٨٧)؛ كنتُ مسافراً إلى حلب. ركبتُ سيارة أجرة (خمس ركاب) من ساحة العاصي بحماة ..جلسَ رجلٌ وزوجته بجانب السائق، ومن الخلف ركبتُ بجانب الباب على اليمين؛ ثم شاب وفتاة. ومن معالمهما واحاديثهما؛ تعرف أنهما يدرسان بالجامعة .

ما أن انطلقت السيارة، حتى أخذتُ أقرأ في رواية أمريكية بالانكليزية، فبادرني الشاب: هل الأخ طالب جامعي(آداب)؟ ابتمست :لا لست طالباً. سألته: يبدو أن الأخ طالبٌ، أجابني بسرعة أنه وزميلته طالبان في كلية الزراعة جامعة حلب، وأن اسميهما حسني وشذى، وأنا قلت لهم اسمي نور الدين. وقالا  أنهما ذاهبان لتقديم مادة قد حملاها من العام المنصرم. وتمنيتُ لهما النجاح والتوفيق.  

ما أن وصلت السيارة إلى محاذاة جبل زين العابدين، حتى فتحَ الشاب محفظة جلدية صغيرة، وتناولَ باكيت دخان مالبورو وولاعة أنيقة تعكس أنه ابن عائلة ميسورة..إضافة إلى لباسه..الخ

مدَّ يده ليقدمَ السيجارة، شكرتُ مع ابتسامة قائلاً : أنا لا أدخن سجائر ..!! استغربَ، وأصرَّ أن آخذ سيجارة. أجبتُه : أنا أدخن غليون (بايب)؛ لكن ليس في السيارة والأماكن المغلقة؛ احتراماً للآخرين و مراعاة لصحتهم ..!! حاولتُ  أن أرسلَ له رسالة عدم رضائي على تدخينه بالسيارة؛ لكن دون جدوى .

أُعطيَ السائق سيجارة، فتلقفها بنهمٍ، وأشعلها فوراً من ولاعة السيارة. ثم أشعلَ حسني سيجارته، وتابعَ حديثه مع زميلته شذى.. توقفتُ عن الكلام.. وسادَ صمتٌ. 

سألني: الأخ نور الدين من أين ؟ ابتسمتُ: أنا من ضيعة صغيرة على الطريق الواصل بين حماة وسلمية، اسمها تلدرة. هل تعرفها؟! 

أجاب :لا. أضافت شذى: أن خالها دكتور بالجامعة، ويعرف دكتوراً من تلك الضيعة، وأنه سيدرِّسُ في كلية الزراعة.. وعاد حديثا ً من أمريكا.. (طبعاً ذَكرتْ اسم خالها.. وأعرفُه ). ونَقلتْ نعوتاً وكلماتٍ جيدة تسرُّ الخاطر بحقِّ الدكتور الضيعجي، وأنه سيدرِّسُنا مقرراً الفصل القادم بعد الامتحان. 

حسني: لماذا لم تدرسْ جامعة يا أخ نور الدين؟! استنتجَ ذلك من تلقاء نفسه. ابتسمتُ، وأجبتُه: لغايةٍ في نفسي .. لأن علاماتي بالثانوية لم تساعدني .. فقدَّمَ لي نصيحةً سريعة، أن أعيدَ الثانوية، وأسجِّلَ فرعاً يقبل به جميع المتقدمين؛ مثل الشريعة أو الحقوق ..!! ابتسمتُ..

وسألتُه أن يحدِّثَني عن الحياة الجامعية..والعلاقات بين الطلبة والطالبات .. ودكاترة الكلية.. والحياة الاجتماعية..الخ. ورحتُ أسأله أسئلة الجاهل أو اللا عارف، حول أن الطلاب من الجنسين يجلسون جنباً إلى جنب في قاعة التدريس، ويجلسون سويَّةً في كافتريا الكلية. وكانا مبتهجَين في إعطائي معلومات عن حياة الجامعة، لدرجة أنه تعاطفَ معي فعلياً.. كما لو أنني محروم وبشغف لحياة الجامعة ..!!

أراد أن يدخِّنَ سيجارة أخرى، وحاول ثانيةً إعطائي واحدة؛ قائلاً وبطريقة مزاح: اشرب (دخن) سيجارة شو نحن في أوروبا أو أمريكا أو سويسرا..!! عَدَّلتُ من جلستي قليلاً، وقلتُ له: قبل أن تشعلَ السيجارة الثانية،  يا أخ حسني؛ هل تعلم كم مخالفة وتناقض ارتكبتَ؛ بتدخين سيجارتك الأولى ؟.. استغرب ..! كيف ؟ 

- تدخينُك السيجارة دون أذن من الركاب جميعاً؛ ودون احترام رأي الآخرين وحالتهم الصحية.. فهذا يعكس أنانية مفرطة  في ظل غياب قانون رادع ..كما في الغرب..!!

- هل تقبل، أن أرسمَ وألوِّنَ قميصَك الجميل بحبر قلمي؟!. بالطبع؛ لا تقبل .. لكن أنتَ لوَّثتَ ثيابي وشعري بدخانك، وجعلتَني أستنشق مضطرَّاً دخان سيجارتك. هذا يعني،  أنك لا تقيم لجارك أيَّ أهمية، وإنما على ما أظن، تدخينك ضرب من مباهاة أمام زميلتك، وهذا تناقض آخر. 

- دعني أسألك : لو كان والدك يجلس مكاني، هل كنت ستدخن ؟ تلعثم ..!! قلِ الحقيقة، قال: لا !! قلتُ: هذا يعني أنك متناقض مع ذاتك. ولو سألك والدك: هل تدخن؟ هل تقول له الحقيقة، أم تصمت!! أجابَ: صعبٌ أن أقول له؛ أنني أدخِّن !! قلت له: إذن أنت لا تنطق صدقاً. 

بقيَ سؤالي الأخير: لنفترض أن أستاذ المادة او المقرر الذي ستمتحنون به غداً .. مسافرٌ إلى حلب وجالسٌ إلى جانبك، وتعرفُه، هل ستدخن بحضرته؟ أجابَ :بالطبع لا. قلتُ له : هذا يعكس أن قرارتك وسلوكك ينمُّ عن تناقض في المنطق والسلوك عندك، أليس كذلك ..!! ضحكَ،

وقال: لن أدخِّنَ، حتى نصلَ إلى حلب، قلتُ له : شكراً لك لأنك قبلت الرأي الآخر. غيرُك يزداد عناداً مع المنطق . قال : أستغربُ ثقافتك العالية؛ رغم تحصيلك فقط للثانوية ..

وصلنا إلى حلب .. ونزلتُ في ساحة الكرة الأرضية أيام زمان؛ متمنياً لهما النجاح بالمقرر ..

وفي صباح اليوم التالي؛ وجدتُ شذى وحسني في القاعة التي أشرفُ عليها، وانتبهت أنهما يتحدثان مع بعضهما، وينظران إليّ.

وبعد الانتهاء من الامتحان؛ تقدَّما مني باستحياء،

ونطقا معاً: أنتَ الدكتور نور الدين ...!!! وضحكنا...!!

ملاحظة : ما زال الدكتورحسني وزوجته المهندسة الرائعة شذى على تواصل معي ..وفي كل مرة يذكران أهمية الحوار البليغ في أدب الحياة  في الطريق من حماة إلى حلب.. !!

وسوم: العدد 813