دمعة على أطلال ذي عين

محمد علي شاهين

عندما تعبر شمس تشرين إلى البحر الأحمر بعد عصر كل يوم، تصوب أشعتها الفضية إلى (ذي عين) تاركة جبال السروات تتلفع بضباب كثيف، تشتعل تحته قرى (غامد) و(زهران) بالحب والوفاء، كخيمة بيضاء استظل العشاق بها أول النهار، وطاب لهم النوم على سريرها السندسي الأخضر بعد الغروب.

وما علمت أن أهل القرية بعالم الجن إيمان أهل (ذي عين) رغم اختلاف رواياتهم العجيبة عن مخلوقات تحدثوا عن أحوالها الغريبة بإسهاب، وشاهدوها رؤى العين، وصار لهم فيها مذهب يعرفه أهل القرى المجاورة، ولقد سعدت بهذه اللطائف النادرة من صديق قديم كنت أحرص على زيارته بها ملبياً دعواته المتكررة في المناسبات والأعياد، ونعمت بهذه الغرائب المتواترة في أحاديث القوم، ولكنني ما كنت أحملها محمل الجد.

انقضت عدة سنوات لم تنمحِ لوحة ذي عين بجدرانها العالية وشرفاتها المعلقة ودروبها الملتوية، وسلالمها الحجرية التي تربط البيوت المتعددة الطبقات بمداخل القرية.

ولطالما كنت أصفها لأقراني بأنها قلعة رعاة كانوا يعتصمون بها من غارات اللصوص في الليالي الظلام، ويستبردون بلذيذ مائها المتدفق بغزارة مع ماشيتهم العطشى بعد طول عناء خلال تجوالهم في تهامة الملتهبة على مدار العام، فلقد كانت كما وصفت شديدة الالتصاق في خيالي، وكان كل شيء متصل بحادثة غريبة رويت على مسمعي، راسخاً في ذاكرة زادها سن الصبا توقداً.

وكيف ينسى الصبي لون الستائر الزاهية التي كانت تكلل النوافذ الخشبية وأضواء السرج التي تشع من شقوق الحجرات، ومشاعل الرعاة وأصواتهم المميزة، وثغاء الماعز ورائحة جرار الحليب مختلطة بعبق البخور اليماني، الذي كان يهدر قسماً كبيراً من ميزانية القرية، وتشغل أدواته حيزاً هاماً في صدر كل منزل.

انقضت سنوات الصبا الجميل، أحالني الدهر بعدها رجلاً مترهلاً كثير العيال يحمل على كتفيه هم السنين، وتنطبع على تقاطيع وجهه صور المعاناة، ولكنه يحمل بين جنبيه قلباً مفعماً بالحنان نابضاً بحب الإله والناس، عاد يبحث عن أترابه وأصدقاء طفولته، وأنى يجد مثل سالم صدقاً، وصفاءً، ووفاءً، ومثل أهله وأبناء قريته، كرماً، وطيب عشرة. وصل إلى (ذي عين) وهو يظن أنه مقبل على قرية تمتلئ حيوية ونشاطاً وتنعم بالسعادة وهي تغفو حالمة على صدر السروات الغربي الشديد الانحدار، ووسط استغراب رفاق الرحلة الذين تابعوا مسيرهم، نزل عبد الرحمن – وهو الاسم الذي أطلقه علي أبو سالم – يحث الخطى بحثاً عن منزل صديقه القديم.

كان كل شيء في القرية ساكناً موحشاً، والشرفات خالية من الستائر والأزهار، وبدت الدروب مغطاة بالتراب والأدراج الحجرية مهشمة بشكل يدعو للقلق، وتدلت الأعشاب من شقوق الجدران، وتساقطت معظم خشبات السقوف الترابية، وتكسرت عتبات البوابات الحجرية، والكوى التي كانت تعشعش الحمائم فيها بسلام، وتناثرت الأرحية خارج الأفنية.

لم يشاهد هذه المرة جمرات البخور الملتهبة في صفائح النحاس وهي تطلق سحب دخانها الكثيف الطيب الرائحة ممزوجاً بدخان مواقد الطهي والشواء.

ويستدير عبد الرحمن في التفاتة خاطفة حول الأطلال الموحشة، وقد عصفت بها الأيام وأحالتها مرتعاً للحشرات والهوام، متنقلاً بين أحيائها الخالية ومستودعاتها الخاوية، ثم ينعطف نحو الجهة اليمانية المنخفضة متوغلاً بيني صفين من أشجار الطلح البرية يشكلان ممراً مسقوفاً يفضي إلى درج متهدم، تسبح درجاته الدنيا في ماء غزير سريع الجريان، في أخدود يزداد عمقاً بتجاه أرض ضحلة، موحلة، شديدة الاتساع، تضج بنقيق الضفادع، وتغريد العصافير التي أطفأت حرارة حوصلتها الملتهبة بقطرات سائغة قبل حلول الظلام.

ويلمح خلف المستنقع المعشب بقايا أشجار الموز الباسقة، وقد انحنت على أقراطها انحناء امرأة حجازية على رضيعها.

ويسأل عبد الرحمن نفسه في دهشة واستغراب عن حقيقة هذه القرية التي لا يضاء بها قنديل، ولا يوقد بها تنور، ولا تملأ صبية جرتها، من النبع الوحيد قبل المغيب، ولا يتناجى في عشياتها المقمرة عاشقان.

- هل أصاب أهلها العقوق؟!

- أم أهل أصابتها الجن بمكروه؟!

- أم أنه الزلزال قد صرع أهلها؟!

وتأتي سحابة باردة من الجبال الشرقية العالية تتبعها موجات أخرى من الضباب الكثيف، تسرع في عودة عبد الرحمن مبكراً من حيث أتى قبل حلول الظلام والضباب معاً، فعاد أدراجه دون أن يرتشف فنجاناً واحداً من قشر البن اليماني الذي كانت أم سالم تعدها فور وصوله، وتقدمها ساخنة في وعائها النحاسي البراق، بكل تواضع وترحيب، مع قليل من التمر، واللوز الجاف أو يشرب كأساً مترعة من حليب الماعز المحلى بعسل الطلح بعد صلاة كل فجر في ضيافة الأسرة.

كان الرجل الأول الذي التقى به عجوزاً تسعينياً زاده الجبل صلابة وقوة حجة في صوت جهوري واضح النبرات، أجاب عن السؤال الذي يجول في خاطر محدثه دون مقدمات قائلاً:

- يا بني لقد بهرتهم أنوار المدن فسقطوا على أبوابها كالفراشات وخطفهم بريق الذهب، وغرقوا في زحام الشوارع وأزقة المدن الشرقية التي رحلوا إليها أفراداً وجماعات.

ونظر عبد الرحمن إلى وجه العجوز، وقد امتلأت عيناه بالدموع، وهو يقول: إنه الذهب الأسود يا ولدي.. نعم.. إنه الذهب الأسود..

وسوم: العدد 842