قبل أن يرتج عليه

محمد علي شاهين

مثل قوس قزح تنسكب أشعة الصباح من كوى درب القناطر، فتلون درب الفتى شهاب، وهو يحث الخطى نحو مدرسته التي عشقها في حي القلعة، المطل مثل عقاب على ربض المدينة، وأحيائها العريقة.

يغز شهاب السير أمام مصطبة أبي سعيد الحداد، الذي يملأ الدرب الحجري بالضجيج والصخب منذ ساعات الصباح الأولى، تحت سحابة من الدخان الكثيف، وهو يضرب بعضلاته المفتولة حديدته الحمراء على سندانه الذي لا ينكسر أبداً، أو يقلب رؤوس الثيران ومقادم الخراف على ناره المتأججة، متلهفاً للقاء صديقه حازم، ورفيق دربه الدائم على مقاعد الدرس.

وكعادة أبناء التجار درج شهاب على تبادل التحية وعبارات الثناء مع أصدقاء والده من أهل الأسواق، والابتسام في وجوههم المشرقة كأنه بائع حرير، والعودة إلى البيت قبل حلول الظلام، محدقاً في الأقواس الحجرية المملوكية، والمقرنصات الأيوبية، وبوابات منازل التجار المتجددة، ولمس نافذة صاحب الضريج المسجى تحت السنام القماشي الأحمر، الذي نذرته آخر عانس تزوجت.

وسماع قصائد ابن الوردي والحلاج على إيقاع الدفوف، وعبارات الصوفية العجيبة، وحركاتهم المتناسقة المريبة، وكانت أجمل ساعات فراغه، زيارة شيخه الذي لا ينفك عن تعليم أحكام النون الساكنة والتنوين، والافتخار بنفائس المخطوطات التي ورثها عن جده، تلك الكنوز التي تباع على الأرصفة وتحفل بها المكتبات الشعبية التي تشكو الكساد والإرضة.

وكم سعد الفتى شهاب بطواف مؤذن المسجد الكبير حول قبة المنارة والسراج في يده، وافتتن بهيئة أهل الأسواق، وعمائمهم الأسطوانية الأنيقة، وأحذيتهم الحمراء المدببة.

وتمر الأيام السعيدة مثل حلم جميل بين حجرات المدرسة.. حتى إذا بلغ الفتى سن الرجال، أطبقت الهموم على صدره مثل الرحى، وتناولته السنون العجاف بأنيابها الزرق، تخطف أحب الناس إلى قلبه.. انكفأ شهاب على نفسه بعد أن شغلها بعشق النفائس والطرائف دهراً، أيامه سريعة الانقضاء.

ثم خرج من عزلته يتحسس أوابد حيه من جديد، ويتساءل عن بناء يتميز ببوابته المحدبة، ونوافذه الصغيرة المظلمة، وحجارته المنحوتة مثل حصن صغير، طمست الإضافات الكثيرة، والترميمات الرخيصة قيمته الفنية.. ويفاجأ شهاب قبل زيارته برجال مظاهر الوجوم والقلق على وجوههم مطبوعة، يجلسون القرفصاء، وحولهم نساء وأطفال وآخرون قد تسلقوا الجدران أو وقفوا بجوار بابه الخشبي الكبير الموصود دائماً بعيون الريبة والشك.

وفي مقهى السوق يلتقي الصديقان القديمان: شهاب، وحازم، وكأن أيام الفراق يوم عطلة مدرسية منقضية، وعلى صوت نرجيلته الراقصة ووهجها يسترجعان شريط الذكريات بكل خشوع.

كان حازم على حداثته يتقن الخطابة، ويرتجل في السياسة، ويخوض في الدين الأدب مع زملائه مناظرات، ولا يسأم المناقشات الحزبية مع ضآلة حظه من العلم والاطلاع، وكان يشعر بالغبطة والسرور، وهو يقف أمام جمهوره من الطلبة المعجبين بجرأته، كان الفتى شهاب يحسده عليها في المناسبات الوطنية، وما أكثرها في بلدنا، ويتشدق بعبارات مكررة في غير مناسباتها، حتى ارتج عليه في حفل مدرسي، فظل مكانه شاغراً.

يقهقه الصديقان بصوت مرتفع ويرتشفان بقايا قطرات الشاي بهدوء، فقد اعترف حازم هذه المرة أنه قفز على السلم الوظيفي مع بعض الوصوليين قفزات كاد ظهره منها ينقصم، وينكسر عجزه.

ويحلق حازم بحديث الذكريات إلى حصن القلعة الذي حظي باهتمام شهاب، وما أجمل الذكريات المرة إذا كان مضى عليها الزمان، وكساها حلة النسيان في هذا البناء اللغز.

قال حازم: كنت أحجز في كل مناسبة سعيدة إحدى غرفه، حتى أصبحت خبيراً بالمكان وأهله، وأحفظ حتى الآن عدد درجات السلم الطالع والنازل، وأنواع الوجبات الساخنة، وتوقيت التنفس اليومي.

يتنحنح حازم في سعادة، مثل مدخن أنيق، ويعتدل في جلسته، ويثني على أصدقائه القدامى الذين أشرفوا على التقاعد في حفظ البناء وسلب زواره بعض أطايب الطعام بحجة الحفاظ على صحة النزلاء، وهم يضحكون، وكيف كان الزائر الجديد كل مرة يلقي الترحيب مع ابتسامة الشماتة.

يرمق شهاب خلال حديثه الدافئ شارب صديقه الأبيض الطويل، وهو يرقص فوق أسنانه المطعمة بالفضة، وبقايا سحب دخان غليونه الداكن بعد كل قهقهة طويلة، ويتخيله على منصة الخطابة في مدرسة القلعة يتشدق في السياسة والوطنية، بينما يقف مدرس التاريخ متجهماً إلى جواره يعض على شفته، قبل أن يرتج عليه.

وسوم: العدد 842