وفاء أم الطيور

محمد علي شاهين

بدأت كثبان الرمال تحاصر قريتنا الساحلية من جديد بعد توقف دام عدة شهور، استغرق فصل شتاء مكفهر، ضنت السماء خلاله بالمطر، وأجدبت الحمى، وجفت حويصلات العصافير حتى عافت أعشاشها الآمنة الدافئة، ولم تكن قريتنا في الأعوام التالية أوفر حظاً، حتى فقد الأمل، وذهب المتشائمون منا والشامتون بنا مذاهب شتى، وعجزت الآبار الغائرة عن سد حاجة البيوت من المياه العذبة، بعد أن تسربت المياه المالحة إلى الآبار الموازية للشاطئ، وتحولت البساتين الوارفة الظلال، والخمائل المورقة المزهرة إلى أكوام من الحطب الجاف.

لكن مسجد قريتنا ظل عامراً بالمصلين، لم ينقطع فيه قنوت فجر، وبقي سراج منارته الحجرية مضيئاً في ليالي الصيادين الحالكة دون توقف.

وكان شيخ سبعيني شديد الالتصاق بقريتنا، أمضى سنوات عمره المديد في القرية، مؤرقاً بما آلت إليه أحوال القرية.

جلس الشيخ كعادته يقص على أبنائه ذكريات رجل أشقاه البحر وأسعده، ويحدثهم عن أم الطيور قبل رحيله عنها.

وكنت صغيراً أجلس بين الرجال، ألمح لحيته البيضاء تارة ويده المرتجفة تارة أخرى وهو يشير بها إلى الشاطئ، إلا أنني ما زلت أذكر صوته الجهوري وسيطرته على مستمعيه وهو يقول:

قبل أن تندثر أحواض الملح وتسوى بالأرض وتتحطم مراوح الهواء كان آباؤكم ينعمون بغلة وافرة وأموال طائلة، لكنهم هجروا القرية دون مقاومة مستسلمين، فهلا كشفتم عنها وأزلتم ما لحق بها من إهمال وخراب.

نظر أهل القرية إلى عيني الشيخ الغائرتين في دهشة واستغراب بين مصدق لأوهامه ومكذب، قبل أن ينصرفوا إلى بيوتهم فرادى يقلبون هذه الفكرة المدهشة.

بعد فجر اليوم التالي، خرج الرجال ومعهم أبناؤهم ونساؤهم يتقدمهم الشيخ الهرم بمعوله إلى الشاطئ، وهواء البحر البارد يلامس وجوههم، فكشطت الأرض، واقتلعت الصخور الناتئة، وأزيلت القواقع البحرية، وأعيدت الأجنحة الصدئة بقليل من الجهد الجماعي، وكثير من العناية، فأخذت تدور فرحة بعد توقف دام عدة عقود، وبدأت الأحواض الجافة تروى بماء البحر من جديد، وتغمر على أصداء ما تحفظه ذاكرة الشيخ من أهازيج البحارة وأغانيهم المتميزة.

حتى إذا جف الماء، واستقرت طبقات المسحوق الأبيض ولمعت بلوراته تحت وهج الشمس، غدا الملح شغلنا الشاغل وحديثنا اليومي، وتدفقت الدراهم إلى جيوب القرويين، وغدت النساء يضفن الطعام إلى الملح، وكن من قبل يضفن الملح إلى الطعام، لكثرة ولعن بهذا المسحوق العجيب، الذي يتحول في نهاية كل موسم إلى حلي وثياب حريرية. ازدهرت أم الطيور، وزاد الإقبال على إنتاجها الذي أنضجته الشمس، فهبط عليها التجار والوسطاء، ونشطت في أزقتها العربات وجماعات الحمالين، وتحول سوق الخميس الأسبوعي إلى سوق مدينة صغيرة عامرة، حرص أهل القرى المجاورة على التزود من أطعمته وأكسيته.

وظلت أم الطيور على عهدها وفية معطاءة للذين آثروا العيش على ثراها الطيب مؤمنين بعدل السماء.

وسوم: العدد 843