عودة في الشفق

محمد علي شاهين

كانت عودتي المفاجئة إلى أرض الوطن بعد سبع سنوات من النفي الاختياري كغيري من الشباب المتحمس لقضيته الوطنية، حيث كنت أطالب نفسي بموقف جريء يضع حداً للتحديات الفكرية التي عجز البعض عن قهرها بالسلاح واستخدام العنف، ولم يحرمنا البعد عن الأهل لذة الاستماع إلى أخبارهم من القادمين والمسافرين إلى المدينة الساحلية الوادعة التي فجرتها الأحداث فكادت تحيلها إلى أتون مضطرم، فنلتقط أنفاسنا بين فرحة غامرة وحزن عميق، حتى انقضت تلك السنون العجاف، ولا أخفي أنني عدت ببعض تجاعيد الوجه، ومساحة خالية من الشعر الفاحم الذي كان يتدلى فوق جبيني، وبعض شيب الفؤاد الذي أحاله إلى لون رمادي.

لم يكن أحد في المطار باستقبالنا والترحيب بنا رغم أن عدداً كبيراً من أنصارنا يتشوقون للقائنا، وأكثر الجيل الثاني من أسرنا المنكوبة نشأ على أمل عودتنا، بسبب حظر التجول الذي فرض على المدن.

كان الجو بارداً ملبداً بالغيوم، وكانت أغصان الأشجار على حافتي الشارع المستقيم تهتز بشدة، تودع عاصفة بحرية مرت بسلام.

وقفنا عدة مرات أمام الحواجز التي أقامها الجيش والمجاهدون، رحبوا بنا بالعناق والقبلات، وقدمت زوجتي لهم ما حملته من هدايا وبعض الحلوى.

كانت شوارع المدينة خالية من المارة رغم أن الشفق الأحمر لم يغب، ولم أشاهد سوى بعض عمال النظافة يزيلون بقايا الزجاج المتناثر أمام واجهات المحلات التجارية والأسواق ونوافذ المنازل المطلة، وعدداً من رجال المطافئ يغسلون بعض البقع الحمراء، ويبدو أن الهواء الذي لمسناه قد أعقب عاصفة هوجاء.

لم يتوقف مذياع السيارة عن دعوة الجمهور إلى الهدوء والسكينة والحذر من الإشاعات الكاذبة، ويؤكد السيطرة على الموقف، وإذاعة برقيات التأييد من القطاعات العسكرية ووجه البلاد وزعمائها، تتخللها مقطوعات عسكرية وأناشيد إسلامية وطنية.

توجهت بنا السيارة عبر دروب المدينة الخلفية وأزقتها، قطع خلالها السائق مسافة المنزل بسرعة وئيدة على أنوار خافتة، بينما كانت مصابيح الدروب الملتوية ترقص مع حركة الرياح، فتحرك الظلال كالأشباح، مما جعل صاحبنا يحبس أنفاسه، ويضغط بأصابعه على عجلة القيادة.

وتنفرج الأزقة على ساحات خالية أذكر أنها بعض أسواق الباعة المتجولين وألمح على ناصية شارعها إحدى عربات الجيش وبجانبها عدد من الرجال في حالة تأهب واستعداد.

وصلنا إلى المنزل فألقيت الحقائب الخفيفة على الرصيف ونقدت السائق نوعين من العملات كنت أحتفظ بها في سترتي ودعوت له بالسلامة.

كان الأطفال يبتسمون، ترتسم على محياهم علامات الفرحة، فقد قاموا اليوم بمغامرة تستحق الرواية على مسامع الآخرين، وأحست زوجتي بالأمان بعد سنوات طويلة من العناء.

انظروا أيها الأولاد إلى الأشجار التي زرعتها لكم في الحديقة، لقد أصبحت عملاقة متشابكة الأغصان، سنعمل في الغد على تشذيبها، وعلينا أن نزيل الصدأ الذي حل بالنوافذ والأسوار ونعيد طلاء الأبواب والجدران.

قالت الأم ونحن على عتبة الدار: علينا في الغد واجبات كثيرة، سنتعاون على إنجازها قبل طلوع الشفق.

وسوم: العدد 843