الضحية الوحيدة

حماد صبح

تعالى دخان سيجارتيهما ، والتحم في ظل الخروبة ، ورنا عساف صوب الشرق ،

وتنهد وقال : تظن يا راشد أنني هاجرت من العراق بخاطري ؟

فسأله راشد متهكما مستخفا بكلامه : من غصبك ؟

_ من غصبني ؟ نحن ضحايا مثلكم .

_ لا ، لستم ضحايا . نحن الضحايا الوحيدون . أخذتم بلادنا بالقوة ، وطردتمونا ، كيف تكونون مثلنا ؟!

_ المؤامرة كانت كبيرة ، علينا نحن اليهود العرب ، وعليكم يا شعب فلسطين . صدقني يا أخي ، أنا أكلمكم بما في ضميري وفي ضمير يهود عراقيين كثيرين نادمين على الهجرة إلى هذه البلاد .

_ بلادنا .

_ بلادكم .

وأشرق وجه راشد ، هاهو يسمع إقرارا من يهودي بأن فلسطين بلاد الفلسطينيين ، ومنع نفسه من تفجير سر في صدره ، تصيد سانحة مناسبة لتفجيره  منذ أن بدأ يشتغل عند عساف  في جني الخضراوات قبل ثلاثة أسابيع ، وأوقد سيجارة وقدمها إليه بعد أن رمى بقية سيجارته الأولى .

ورنا عساف إلى الشرق ، وقال : سأحكي لك حكاية تشرح  موقف اليهود العراقيين الذين هاجروا إلى هذه البلاد . لي خال اسمه إبراهيم . إبراهيم أبو داود . كان لخالي _ رحمه الله _  أربعة محلات تجارية كبيرة  في بغداد ، يشتغل فيها أكثر من ثلاثين عاملا ، وفي مساء يوم ، جاءنا يبكي ، وقال لأخته ، أمي ، إنه نوى الهجرة إلى إسرائيل . السنة كانت 1951 .

سأله أبي عندما بكت أمي : لماذا يا إبراهيم ؟!

فانصرف دون إجابة ، وعرفنا بعد هجرته بيومين أن جهة غامضة اتصلت به ، وأمرته بالهحرة وإلا فإنها ستنسف محلاته . وهاجرنا  بعده بشهر . كانوا يستقبلون المهاجرين في أماكن اسمها المعابر ، يقيمون فيها ويأكلون على حساب الدولة إلى أن تهيء  لهم  سكنا دائما . وفي يوم ، وقت الغداء ، صف خالي مع الناس لاستلام وجبة طعام عائلته . الملل والضيق على الوجوه ، والتأففات واللعنات شرر يتطاير من الأفواه . كان بيني وبين خالي في الصف اثنان . قفز في الهواء ، ولطم خديه بكفيه ، وصرخ : يا رب !

وسقط على وجهه . أسرعوا به إلى عيادة ، وطلعت روحه عند بابها . قتله الحزن والهم . غني كبير يصير شحاذا بائسا ! ما رأيك في هذه الحكاية يا راشد ؟!

_ محزنة .

_ وتبين أننا هُجٍرنا ، ولم نهاجر .

_ لكن يا عساف نحن الضحايا الوحيدون لتهجيركم . لا أعرف عدد الفلسطينيين الذين قتلهم الحزن بعد طردهم من بلادهم ، وأعرف وتعرف أنكم قتلتم منا الآلاف ، وتحتلون الآن الضفة وغزة . لا حقتمونا في لجوئنا .

_ أتمنى ويتمنى يهود كثيرون العودة إلى بلادهم الأولى ، وترك بلادكم لكم .

وشعر راشد بحينونة تفجير السر ، فقال : هل تعلم يا عساف لمن هذه الخروبة والأرض التي تزرعها مستأجرا من حكومتكم ؟!

وظهر في وجه عساف أنه حدس الجواب ، فسأل : لعائلتك ؟

_ لعائلتي . كنت ابن خمس سنين عندما طردتمونا منها . قعدنا في ظلها ، ولعبت مع أولاد عمي تحتها ، وأكلنا من خروبها ، والآن أعمل أجيرا عندك في أرضنا . من الضحية ؟!

لن نموت مثلما مات خالك . سيأتي يوم نعود فيه إلى هذه الأرض ، إن لم يعد جيلي سيعود جيل أولادي . لم أتزوج حتى الآن .

_ أتمنى أن أعود إلى العراق . لو عدت إليه سأحمل عظام خالي إلى بغداد .

_ متى تعطيني أجري ؟

_ غدا .

_ حاول اليوم !

_ مستعجل ؟!

_ هذا آخر يوم لعملي  أجيرا  في أرضي .

وسوم: العدد 847