كاميرا...لقطات طائشة

عادل اضريسي

رن هاتف سوزان مجددا وهي في غرفة الماكياج تستعد لتصوير المشهد الأخير من فيلم" نفرتيتي ". رنين الهاتف كان مختلفا عن سابقيه في هذه الفترة، هي على علم أن أمها مريضة جدا وتخشى في كل مرة ترفع فيها السماعة أن تسمع خبرا يقطع حبال الأحلام كلها ويحيل نيران شوق النجاح في داخلها إلى رماد تذروه الرياح أيَّا شاءت أو الى نسخة من سفينة تزينت وأبحرت ثم رقصت على إيقاع الموج لتصطدم على حين غرة بجبل يُصَيِّرُها و الماء سواء. قبل أن تجيب هذه المرة، كانت خبيرة الماكياج على بعد لمسات من تحضيرها لتكون حبة كرز الختام، نسخة طبق الأصل من "نفرتيتي" أو الجمال المجسد والحاضر بعينه ليرقص على شرف نجاح الفيلم. كان إحساسها بالفخر لكونها بطلة الفيلم يفوق إحساس المخرج وإحساس  كل طاقم التصوير، فأن تكون "نفرتيتي" في أول عمل سينمائي لها شرف عظيم لا يناله إلا ذو حظ عظيم. تسلل الفخر و الفرح  ليراقص كيانها و يُزَيِّنَ تجاعيد السنين على شفتيها الرقيقتين.  قربت سوزان سماعة الهاتف من عيونها لتتخيل تفاصيل المتصل  قبل أن تتجرع مرارة الخبر، تركته يرن بضع ثوان أخرى و الدمع طبعا لم يستأذنها كما لم يستأذن عاملة الماكياج ليبدأ بالنزول ممتزجا بالكحل باردا على خذها، بضع ثوان كانت كافية لتحول أحاسيس الفخر كلها إلى سلسلة من هلوسات  المنفى الجمالي في عوالم الفيلم.

- كنا على بضع لمسات و دمعك هذا سيؤخرنا أكثر ، قالت خبيرة التزيين.

- دعيني وحدي لبرهة أرجوك ، ردت سوزان

غادرت خبيرة الماكياج الغرفة و أوصدت الباب بهدوء خلفها. أصبحت سوزان و حتى قبل أن تجيب على المكالمة  بوجه غير وجهها الأول وبتقاسيم حزن مفاجئ، بدأت ترتجف و حرارة جسمها تنخفض و كأنها تخشى خبر موت الحبيب بل و كأنها هي من ستموت هذه الليلة، وكأن اقتراب الحلم من نهايته وفكرة اليوم الأخير من التصوير جعلها تشعر برعشة البداية من جديد، جعل أحاسيسها تختلط  و أفكارها تسافر ذهابا و إيابا في دوامة من القلق الوجودي . بدأت كل مشاهد الفيلم السابقة تتصارع في مخيلتها، تنتظم في حبل مفتول ظاهره التمويه و الخدع السينمائية وباطنه الواقعية المتوترة و الحضارة المنسية تحت الرمال، بل بدأت صور الفيلم تتسابق لتنال شرف الهجرة الزمنية عبر عيون سوزان و وسام الحلول الصوفي في دواخلها و أشواقها. كانت جدائل شعرها تتمايل في الغرفة تحت تأثير الرياح القوية المنسلة عبر نافذة الغرفة  كرؤوس الثعابين على رأس ميدوسا، وعيونها ملتصقة بشاشة الهاتف تماما كعيون أبي الهول إذ تحرس المعبد  من أيادي أعداء حورس حتى نسيت أن تحرس الأنف من همجية نابليون. جُدِع الأنف وخدع أبو الهول  لتتآكل جنبات الحضارة وتتساقط أركانها على مَهل كندى الصباح. غير أن سوزان وهي الآن جاهزة  لتكون فعلا 'نفرتيتي'  لا زالت تنظر إلى الهاتف نظر المغشي عليه من الموت، عيون على الرقم المتصل وفكر سابح في عالمين، عالم سوزان الذي منعته العقود و الالتزامات الإدارية من مغادرة بلاتو التصوير لزيارة الأم المريضة،  وعالم نفرتيتي، الجميلة الآتية لتنير شوارع مصر القديمة بسحر بشرتها ، وهي الآن جاهزة لعبادة الإله آتون، بل هي في الحقيقة جاهزة من أجل تصوير السجود الأخير للإله رفقة الملك أخناتون. تفاصيل السيناريو واضحة تماما وهي تعيدها في ذهنها كل لحظة حتى لا يستغرق التصوير مدة أطول،  تلتقي بالملك على البساط الأحمر وهي تنظر مباشرة إلى عيونه، تبتسم بحب، تمسك يده وتقبلها أمام الجميع، تسجد مع الملك للإله 'آتون' ثم يسجد الجميع من خلفهم، ترتفع الكاميرا في لقطة شاملة على الجميع، يصيح المخرج ' نهاية التصوير' ،  يحتفل الجميع بنهاية التصوير بعد عدة شهور من التعب لتخرج سوزان من هذا الكابوس و تركض بكل سرعتها صوب أمها. كانت تحفظه جيدا و يبدوا أكثر بساطة وهي تتدرب عليه ذهنيا. الكل جاهز لتصوير المشهد، المخرج على أحر من الجمر لتخرج البطلة من حجرة التزيين، غير أن سوزان التصقت بالكرسي عاجزة عن الحركة، تزاحمت صور الحضارة الفرعونية لتسجنها في حجرة الماكياج، يخيل إليها أن المكان مليء بأشكال المومياوات المرصعة بالذهب والأحجار الكريمة. غادرت خبيرة التزيين الغرفة و تمنت سوزان لو لم تفعل و ظلت بجانبها لتخرجها من هذا السجن. غادرت لتكلها لنفسها  لحظات من أجل  الاسترخاء و الاستعداد النفسي للتصوير كما جرت العادة بالنسبة للمثلين.

 أرادت سوزان بكل طاقتها أن تتجه نحو الباب لتخرج، لكن سِتْ ظهر على الباب ممسكا صولجانه، وقف جامدا ينظر إلى سوزان بغضب شديد، نظراته توحي أنه عاد لتشكيل الفوضى في المكان، أو هي الغيرة من 'أخناتون ' وجمال زوجته 'نفرتيتي' التي أعادته من عالمه المحنط إلى الحياة. بدأ يحرك صولجانه ليهم بتصويب لعناته على سوزان و يرسلها في رحلة النفي الأبدي إلى عالم الأموات في الأرض السفلى ، نظرت إليه سوزان واثقة و دون خوف هذه المرة ، ثم حولت عيونها مباشرة إلى المرآة بعدما  انتصبت أمامها صورة أوزيريس. بدأت سوزان تعتقد أنها فعلا غادرت إلى أرض الموتى و أن أوزيريس وقف أمامها رئيسا لمحكمة الموتى ليحاسبها على كل  الأخطاء التاريخية في الفيلم. فجأة امتلأت غرفة سوزان بكل الأساطير، على الباب ست و أمام المرآة أوزيريس وفي جوانب مختلفة من الغرفة وقفت نفتيس و إيزيس ، بل حتى عين حورس و كل النقوش القديمة بدأت تزين جنبات الغرفة،  و وقف أنوبيس مستعدا لتحنيط ضحايا هذه المعركة التي على وشك أن تبدأ.

بدأت سوزان بالركض بينهم كالمجنونة ، تطرح الأسئلة كالمجنونة ، تتحرك نحو الباب ، لكن ست لا يتحرك من أمامه ، بل حتى انها توجهت إلى عين حورس و سجدت تستنجد الخروج ذاكرة كل ما ينتظرها خارج الغرفة من عمل إضافة إلى أمها المريضة التي تنتظر بفارغ الصبر عودتها. لم يجبها أحد ولم يكلمها أحد، في الحقيقة كان الجميع لا ينظر إليها أصلا، كانوا ينظرون إلى بعضهم بعضا بغضب شديد ويتبادلون  النظرات في ما بينهم باهتمام أشد.  بدأت سوزان بالصراخ بأعلى صوتها و بكل قوتها ' أنا سوزان أيها المخرج ، لا استطيع الخروج من الغرفة ، أنا محتجزة في كومة من الأساطير، أنا معتقلة في كل العناوين التاريخية التي لا طالما كذبتها و أهنتها ، أيها المخرج المسرحي ، إن ما نصوره حقيقي و الدليل هنا في الغرفة'، لكن الصوت لم يكن يتجاوز حنجرتها في الحقيقة ، وحتى لو تجاوز الجدران ليصل إلى الخارج، كان الجميع ليعتقد أنه محض تركيز من سوزان و دخول في الشخصية التي تؤديها وما كان أحد ليتجرأ على اقتحام الغرفة و تشويش تركيزها، فهذه ثقافة الاشتغال المهني في عالم السينما الحقيقية. فجأة تحرك أوزيريس صوب ست، تشابكا بالأيادي وبدأت بينهما معركة اللانهاية ، اقتسم الجميع إلى فريقين، فريق يهتف باسم ست و فريق يقول ' النصر لأوزيريس المظلوم'، بل إن الغرفة امتلأت فجأة بمئات الرجال و النساء بملابسهم المصرية القديمة، ازدحمت الغرفة لتحتملهم جميعا و سوزان محاصرة بين الحشد تكاد تختنق، علت الهتافات أكثر بين مشجع لهذا الطرف و مشجع للطرف الآخر، أما سوزان فكانت تصرخ باسم نفسها مشجعة لأحلامها ، تصرخ " أنا سوزان، لست نفرتيتي ، لست منكم ولا حاجة لي بصراعاتكم" ، وطبعا كان صوتها يتكسر تحت قوة الأصوات الاخرى " النصر لست"، " النصر لأوزيريس".

 تحولت سوزان إلى أشبه بفتاة مجنونة ، تتدافع هنا وهناك ، بل وحتى تشجع ، نعم بدأت تارة تصيح " النصر لست" ثم تخشى أن تنقلب المعركة ليفوز الفريق الآخر لتصيح " النصر لأوزيريس" وهكذا في معركة تكاد لا تنتهي. كان الطرفان متعادلان في القوة والعزيمة، الكل يقاتل بكل قوته من أجل تسلم الحكم وبناء الحضارة. نظرت سوزان إلى الخصمين بإمعان ثم فكرت في نفسها أن كلاهما حريص على الكرسي حد التضحية بدمه، لا يدور في رأس الخصمين المختصمين إلا جملة واحدة ،أنا من سيفوز ، و أنا من سيستلم الحكم، لكن لا أعتقد أن كليهما يفكر في مصير المئات من المشجعين لهما أو في الذي سيقدمه للأنصار بعدما قدموه من تحفيز ورفع للمعنويات، ولابد أن الأنانية ستستمر إلى أجيال من أبنائهم و ذريتهم. الكل يهتف و يشجع  والكل ينتظر الإعلان عن اسم الفائز ، إلا انوبيس كان جامدا في مكانه مهتما أكثر باسم الخاسر ، كان ينتظر الساقط أرضا ليحنطه و يرسله إلى الأرض السفلى. قالت سوزان وهي تحذق في وجه أنوبيس ' لا عليك أصبح الكثير في زماننا نسخا منك ، ينتظرون سقوطنا ولا يهتمون أبدا بنجاحاتنا'.

انغمست سوزان في هذه الحوارات الداخلية متناسية حجم التدافع و حجم العنف الذي تتعرض له جراء ازدحام الغرفة بمئات الوجوه المتشابهة، لتنتبه فجأة إلى صمت رهيب خيم في الغرفة. انتبهت جهة المتخاصمين لترى أوزيريس واضعا يده على قلبه و الدماء تسيل بقوة بعدما تلقى طعنة قوية من ست. تهاوت جثثه على الأرض ، رفع ست يده إلى السماء محتفلا بنصره ، ثم هتف الجميع من خلف " النصر لست ، النصر لست" هتفت سوزان بصوت خائف و متردد " النصر لست، النصر لست ". حرك ست صولجانه لينتصب على  أمامه  التابوت ، و بإشارة من أصبعه ، تحرك أنوبيس ليباشر التحنيط و يضع الجثة في التابوت. يكاد قلب سوزان ينفطر من الهلع ، تدور الصور في ذهنها لترفعها عنان السماء تم تلقيها إلى أسفل كنسر جارح بكل قوة ، تسقط على الأرض وهي و كل ذكرياتها ثم لا تموت ، ترتفع مجددا لتعيد الكرة كل حين. لم ترى في حياتها جريمة أمام عينيها، ثم إنها لم تتخيل أن تكون الجريمة قديمة لهذا الحد وفي غرفة تزيين مجهزة بأحدث التقنيات من أجل فيلم سينمائي محترف في عصر الخدع،  ثم إنها لم تفهم كيف تحولت الخدع إلى كابوس حقيقي. شرعت سوزان في بكاء هستيري وهي تنتقل بين الحشود الخائفة ، الخاشعة ، الراكع و الساجدة للمنتصر. وضع أوزيريس في التابوت لتحمله أياد سحرية حلت بحركة واحدة من صولجان ست ، بدأ التابوت يشق طريقه إلى أسفل لم فتحت الأرض و بدى منه درج سري و سوزان لا تكاد تصدق عينيها. عاد الجميع يهتف لست و التابوت يغيب عن الأنظار شيئا فشيئا ، سجد الجميع ، ثم سجدت سوزان دون شعور خوفا و هلعا من ست ، و فجأة تذكرت أن الهاتف يرن و أنها لم تجب على المكالمة بعد. رفعت رأسها و تحركت بسرعة صوب المرأة ، رفعت سماعة الهاتف وهي ترتجف ثم ضغطت على سر الإجابة بكل قوة ، آلووووو آلووووو  ، صرخت بكل قوتها ، آلووو أنا سوزان، لست نفرتيتي.

-       مقلب سينمائي لسوزان الجميلة بمناسبة نهاية الفيلم

ضربت سوزان الهاتف على الحائط بكل قوتها و جلست تتحسس قلبها و دقاته المتسارعة، ثم انتبهت للباب يفتح متبوعا بوابل من التصفيق من كل العاملين في الفيلم و فريق العمل، كان الجميع يصفق و يعتذر ، و سوزان تنظر إليهم بتعابير جامدة دون حراك، تعالى التصفيق في الغرفة ، أغمي على سوزان في لحظة ثم انخفض صوت التصفيق حد الصمت المميت على إيقاع صافرات الإسعاف.

وسوم: العدد 874