ومن الرصيف ... إلى الرصيف ..!

د. أسعد بن أحمد السعود

 بدأ الجو يميل نحو البرودة قليلاً داخل الحظيرة العفنة ، إن هذه الحالة تشعرنا بأن الصيف

وغبقة الحر الشديد ، بدأت ترحل مثل كل سنة نؤرخها على الجدار هنا ، والملاحظة هذه

أصبحت أحد العلامات الفيزيائية بيننا لمعرفة تراكم السنين علينا .. والجو البارد بطبيعته

 يخفف علينا خنقة الرطوبة والعفونة ورائحة الأجساد سوية مع بعضها ، بالرغم من أن ازدياد

حدة البرد تعني دخول الشتاء ، ويعني بدء برودة الأرض والجدران معاً ، وتعني بالوقت نفسه

ازدياد وتيرة الأوجاع بالعظام وآلام الروماتيزم ، وتشنج مفاصل الارجل .. وهذه بالنسبة لي

خاصة كارثة بكل ما تعني الكلمة ..!

عندما تأكدت من أن الهدوء والصمت خيّما بين الأصحاب الأعزاء ، وأخذت نوبات الشخير

والكوابيس تتزاحم من هنا وهناك ، وحركة الذهاب والإياب في الخارج كادت هي الأخرى أن

تختفي ، تناولت (الحصى القلم التاريخية )، وبدأت أحفر بعض الكلمات وبعض الاحرف من

 بعض الأسماء الذين تركواعلامات وأثر في نفسي أولاً، وعلى بقية الأعزاء ثانياً ،لم استدرك

 ما الذي دفعني إلى أن أقوم بهذا النشاط الغريب ، لعلها دفقة شجون ، أولعله الحنين ،وربما

الوداع الابدي الذي كتبه القدر من غير علم لنا به ، كم من دمعة تذرف وكم من نحيب مخنوق

، وكم من حرف يكتب ولا شيء منها يكافيء، ولا شيء منها يوازي حق أولئك ، ولا يملأ

موازين ساعة ظلم وقهر، تبدد بدقيقة صداقة وأخوة ورابطة إنسانية عقدت هنا أبداً ... وقد

أحسست أن الحصى تتحرك وتحفر وتكتب من دون دافع قوة من يدي الضعيفة .. لم أعد أتحكم

بها ، إذ أخذت تتجاوز المحذور بسرية ورموز المعلومات ، إلى ألاسماء والألقاب بلا ضابط

ولا رقيب ....وختمتها وبصعوبة بالغة والنعاس يغالبني بعبارة : أبو إسماعيل وكلمات الله

التامات .. وانطفأ كل شيء بعدها ..

لم يتح لي بعدها أن أعود إلى الجدار أبداً .. بل إن (القلم الحصى) ظل في غمده مخفيّاً

وحيل بيني وبينه ولم أعود إليه لآخذه ،كما وعدت نفسي يوم أن استلمت المهمة من أبي الجود

.. أحسست أن قوة ما تبعدني عنه .. وكذلك حدث لي مع أبو إسماعيل ، فقد رمقته عن بعد ، و

 هو ينظر إلي ويبتعد باستغراب أيضاً ..

أدخلت في غرفة شبه مظلمة ، تلقاني شخص من الباب وأخذني لشخص آخر يقف خلف طاولة

 كبيرة ، أمرني أن أخلع لباس السجن على عجل ، وأرتدي لباس غيره لا أعلم كيف شكله ،

ثم تناولني ثالث فأخذ كفي اليمين كله ووضعها على قماش بارد فيه ماء داكناً أوحبر، ثم

ضغطها بأكملها على سجل كبير، وفعل بكفّي الأيسر مثلما فعل بالأيمن ، وبعدها أخرجني

الشخص الأول وقال لي أدخل ذلك الباب ...!!!

ومن ذاك الباب تلقفني اثنان وحملاني إلى باص كان موجوداً غريب الشكل ، وصوت محركه

يصمّ الآذان ، جاءني صوت .. أدخل وأجلس على أي مقعد..! طبعاً كان الشبك الحديدي يفصل

بين المقعد والآخر،والمقاعد عبارة عن صفائح من الحديد أيضاً ، وما أظن أن ساعة من

الزمان قد انقضت أوأكثر قليلاً ، حتى امتلأت أقفاص الشبك ونصفهم رأيتهم من الذين كانوا

معي في الحظيرة وربما صار اختلاط بين سكان الحظائر فهذا على ما يبدو هو الحاصل .

الباص عبارة عن صندوق كبيرمن الحديد المصفح أبيض اللون، له أربع نوافذ صغيرة جداً

من جانب السقف ، وكم تذكرت وشبهته وهو يسيربنا بتلك الطاولة الكريهة العجيبة ، التي

نقلوني بها بين البنائين قبل سنين طويلة ..!!

طال وقت صخب المحرك الذي يشبه صوت محرك طائرة الهيلوكبتر وربما هو فعلاً هيلوكبتر

وهو يسير كالبهلوان تارة، وتارة كلاعب الجنباز ، مضى وقت طويل ، لا أعلم ما القصة وما

العملية أو المهمة التي ذاهبون إليها ، ربما إلى مقابر جماعية ، ستة عشرسنة تعبوا في رعايتنا

وأصابهم الملل ، وربما إلى سجن آخر لأكمل فيه بقية سنين الحكم، وربما إلى شيء آخر لا

نعلم عنه شيء ..

مرّ وقت تقلبت بنا جهات الباص يمنة ويسرى ، كأن به يهدينا وجبة تعذيب مطوّلة مهذبة ، ثم

انعطف بقسوة ، ثم تباطأت سرعته وظلّت تتباطأ إلى أن توقف ، سكت صخب المحرك بنفس

القسوة والفجأة مما أحدث لي صمماً فجائياً وصفيراً حاداً في أذني ..!

..انفتح الباب على عجل وصعد شخص أمرنا بالنزول ، وفي الخارج تناولني شخص من يدي

، فلم أستطيع الوقوف فجلست على الأرض ، كان ظلاماً لا إنارة في المكان ، ويبدو أن الوقت

ليلاً والجو بارد ، وما شعرت إلّا وشخص ما حملني من الخلف إلى سيارة صغيرة كانت

مفتوحة الباب الخلفي ، رماني بها وكأنه يرمي شيء لا أهمية له ، شغّلها وانطلق بسرعة وأخذ

يتقلب بها مثل الباص يمنة ويسرى ، ولم أشاء إلّا أن أسأله بصوت لا أعرف كيف سمعني به :

-        أنا وحدي معك إلى أين ذاهب بي ..؟

-        لاتخف أنت الآن في أمان ..أنت في الشام ..!!

-        وما يعني أنا في الشام ..؟

ضحك ضحكة .. جعلتني أبكي ..وقد لسعني البرد بشدة فأصبحت أرجف ثم تابع :

-        لا أعلم ما يعني ، ولكن الذي أعلمه أنك الآن طليق وتستطيع الذهاب إلى أهلك ..!

قلت له متسائلاً وأنا أرجف :

-        منذ سنتين اختفوا الجلادين ولم أعد أراهم ، هل أنت واحد منهم ,,؟.

-        قلت لك أنت الآن في أمان .

وسكت الرجل ولم يعد يكلمني ، وهو يردد لاحول ولا قوة إلّا بالله ..!!

وبعد زمن أوقف السيارة وجاء إلي وفتح لي الباب وقال :

-        تفضل أخرج من السيارة ، وفعلا ساعدني وأنا أتكىء عليه حتى أجلسني على الرصيف

ثم كرر جملته ظننت أنه لا يجيد غيرها :

-        أنت الآن في أمان ..تستطيع الذهاب إلى أهلك ..!! .

ثم أدار محرك سيارته وانطلق مختفياً عن ناظري ، الوقت لازال فيه ظلمة ، لكن لما نظرت

إلى السماء تذكرت أيام طفولتنا عندما كنا ننام على سطح بيتنا في أيام الصيف ،أن الوقت مقبلاً

إلى الفجر من لونها ، ولا أحد من الناس موجود هنا، فتكورت على نفسي والرجفة زادت من

البرد والخوف والحيرة يسيطران علي ، لا أعلم ما حلّ بي ..الأرض باردة جداً ، وأنا ممدد

على ظهري ولا أدري ما أفعل ..! .

كأني سمعت صوت رجل ، لم أتبينه من أي جهة ، ثم تكرر ثانية .. اقترب مني بحذر شديد ،

تبينت أنه يكلمني ويسألني :

-        ما بك يا أخ ..هل تشتكي من شيء ..لقد رأيتك من بعد والسائق يخرجك ويلقي بك

على الرصيف : هل تسمعني .. هل تفهم ما أسألك ، هل أنت سكران أو مصاب بشيء..؟

أشرت إليه بيدي ، أن أمهلني قليلاً ، ثم بإشارة ثانية أن اقترب مني أكثر، والرجل يقترب حذراً ..

سألني وكأنه يحاول التقاط رائحة الكحول تخرج مني ، ولمّا أقترب أكثر وتفرّس فيّ ، صاح

من كل عزمه : أعوذ بالله ..! وكأن صاعقة أصابته ..وظلّ جامداً يتفرّس بي ..إلى أن نقضت

صدمته ، بطلبي أن يرفعني لأستقيم .. تقدم ولازال بصدمته وحذره ، ساعدني حتى وقفت

واعتدلت جيداً ، وهنا طلبت منه بلغة واضحة ماء للشرب ..!! .

نظر إلي مبعداً ثانية رأسه عني وأخذ يتفحصني لما سمع كلامي ، أخذته حيرة لحظات ..ثم

أجابني بارتياح :

-        تكرم عينك .

وقبل أن يذهب أو يتحرك قلت له أرجوك أيها الأخ الكريم أن تسندني إلى الجدار

-        هل تستطيع المشي ..؟

-        نعم أستطيع

-        إذاً هل تستطيع أن تأتي معي إلى المسجد هنا قريب في ذاك الشارع قبل أن يرفع أذان

الفجر..!!.

ضحكت وبكيت وانفرجت أساريري ، وقلت وأنا غير مصدق :

-        هل حقاً المسجد قريب ..؟

-       نعم ..نعم تعال لتراه بعينيك ..واشرب منه ما شئت من الماء ..!!.

وسوم: العدد 876