قصص قصيرة 882

عبد الرزاق اسطيطو

حكايات مجنون

"أي تشابه أو تطابق بين  أسماء شخصيات القصة، وأسماء الأشخاص في الواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع"

الحكاية الثانية

 كن يأتين مشيا على الأقدام مباشرة بعد صلاة الفجر من القرى الفقيرة القريبة من الحقول، والبساتين المطلة على النهرأو من الأحياء الهامشية التي يسكنها النازحون من القرى والجبال المحيطة بالمدينة ..وكالنمل بلا كلل يمضين كل صباح في صف طويل أسفل الجسر بين ضفاف، ومنعرجات النهر، تحت زقزقة العصافير، وهدير محركات السيارات، والحافلات العابرة للجسر باتجاه العاصمة ... جلهن قرويات في مقتبل العمر؛ متشابهات في كل شيء في القهر، وفي المظهر، والملامح والبشرة، والضحكات، وأشياء أخرى لا يكشفن عنها إلا وهن منهمكات في جني المحصول لأنها تتعلق بأسرار غرف النوم....لا يظهر من وجوههن وأجسادهن التي أخفينها غير العيون المتعبة من قلة النوم والراحة، والأيادي الخشنة المتشققة التي تحمل صرة، أو قفة صغيرة ... كل ما يوجد بداخلها كسرة خبز حاف أو قطعة من رغيف وزجاجة الشاي البارد، وقنينة الماء، وحفنة زيتون، وتلك كانت وجبة غذائهم المعتادة.....ولأنه خبر مسالك النهر، وأشجاره، وبساتينه، وعسسه مثلما خبرمن قبل دروب، وأزقة المدينة، وأهلها، وذاع صيته بها، تحين الفرصة، ودرس المكان بدقة بعيدا عن عيون العسس المتلصصة، وضيعة خوسيه، وشجرة التوت، وعيشة التي تركته وذهبت للنوم، في انتظار مرور القرويات الذي يشبه مرور الغزلان بنهر تعيش فيه التماسيح ...كان غبش الصباح مازال طريا نديا منعشا، والعشب مبللا تحت سحب خفيفة مترددة، وخجولة تحركها ريح باردة، تهز معها أحيانا أوراق أغصان الأشجار فتحدث خشخشة. بقدر ماتضفي على النهر رهبة بقدر ما تزيده سحرا وجمالا.. وقف الفلاقي منتصبا متخفيا حذرا كثعلب ماكر ينتظر فرصة انقضاضه على فريسته. يراقب بعيونه اللامعة المشعة المتوثبة من بين الأغصان المتشابكة مع الأشواك، والقصب اقتراب القرويات منه... كان يعرف زمن نزولهن إلى النهر في اتجاه البساتين، والحقول لجني البرتقال أو السفرجل والنعناع ....ولأن مدينة"أبيدوم نوفوم" بحقولها وقراهاعرف عنها الأمن والسكينة، وغاب عنها لسنوات قطاع الطرق  لم تكن النسوة القرويات في حاجة لرجال أوفتيان أثناء نزولهن للنهر ...ترك الفلاقي الصف الطويل للقرويات ينساب بجانبه انسياب ماء النهرمن غير أن يحدث حركة أو خشخشة تنبئ بوجوده وتدل عليه...ثم بهدوء تقدم خطوتين ووضع كف يده المزغبة بقوة على فم آخر واحدة تنزل المنحدر لكي تصعد من جديد عبر القصب إلى مدخل البستان ...

أمسك بخناقها واعتصر رقبتها كثعبان، وأزال الفولارالأسود الذي يغطي وجهها، ولفه على عينيها وشده من الخلف بقوة، فلم تعد ترى شيئا من ضوء النهار ..تحول كل شيء بداخلها دفعة واحدة إلى ليل هلامي شديد الظلمة والقسوة.. ظلت يده اليمنى تغلق فم القروية قاطعةأنفاسها..فيماالأخريات لم يشعرن بشيء ولم ينتبهن للأمر في البداية ...وضع رأس السكينة الحادة على عنقها حتى كاد يمزق شرايينها ودفعها بعنف إلى الأمام ...وسار بها بين الأشجار والقصب والبساتين لمسافة طويلة لا يسمع منها غير أنفاسها الملتهبة، وارتفاع صدرها، وانخفاضه كموج البحر، ودقات قلبها تكاد تتوقف من شدة النبض والهلع والخوف... كانت تستنشق هواء النهر، وتتحسس عشبه، وشجره وقصبه، وتنصت الى خرير المياه، وزقزقة العصافيربألم وحزن كما لوأنها تودعهم وداعا أبديا لا لقاء بعده... وبعد ساعة من المشي لم تعد تشعربالعشب تحت قدميها. كانت تمشي كما لو أنها تمشي في فراغ مهول أوتسقط من قمة جبل إلى هاوية لا قرار لها ...

 صعد بها إلى بستان مهمل موحش تركه صاحبه منذ فترة طويلة، ولأنه لم يكن له أبناء ظل البستان على حاله. يتوسطه بيت مهجور تهدمت أركانه، ونوافذه، وصار أشبه بالطلل، تحيط به شجرة التوت، ودالية العنب، وبعض أشجار التين، والبرقوق... لا أحد يقربها، غيرعصافيرالدوري والحسون، والثعابين، والكلاب المتشردة ...تتدلى فروعها بأغصانها المورقة، والمثمرةعلى منحدرات النهر، والقصب بشكل موحش يزيد من رهبة المكان وسطوته..دفعها بقوة من الخلف فانبطحت على العشب مستسلمة لقدرها، وقد تغيرلون وجهها، وطعم الهواء في أنفها ورئتيها، وازداد الفراغ في عقلها، وروحها اتساعا، وبدت وكأنها تعيش كابوسا حقيقيا في واضحة النهاريشع من عينيها رجاء مكتوم وأمل في أن ينزل من السماء من يخلصها من هذا الكابوس... لوكانت لها القدرة على مواجهته لواجهته... لو كانت لها القدرة على أن تصرخ لصرخت بقوة ..لكن هيهات ! ..فقد خانها القدر، ومعه القدرة، حيث تركها وحيدة منذ ولادتها بلا أم، وبلا سند ، وبلا حيلة تواجه مصيرا محتوما لا مفر منه...عراها من كل شيء، وألقى بثيابها إلى البئر المهجورة مباشرة من غير أن يفتشها... ارتجف جسدها كورقة في مهب الريح، واجتاحها الخوف اجتياح مياه النهر للمدينة ساعة فيضه وتدفقه في فصل الشتاء، وتشنجت عضلات فخذيها، وتجمدت الدماء في عروقها، وجف ريقها، وتوقف عقلها عن التفكير...  صارت قطعة من خشب بلاروح ولانبض ولا حركة...بدت في عريها مابين براءة الطفولة وسحر النساء بصدر عامر، وجسد منحوت وعيون عسلية واسعة، وشعر أسود طويل يخفي ظهرها كله ....حاولت أن تنهض وتتكوم على نفسها خوفا على شرفها ونهديها، لكن صفعته القوية على وجهها جعلتها تستسلم له مخافة قتلها.. وتجلت صورة عيشة بجمالها وفتنتها فيها واضحة ونابضة بالحيوية والجسارة، فقد صار يرى في كل امرأة صورتها ... كيف تتجلى عيشة بجمالها الخارق في وجوه نساء القرية والمدينة تجلي الصور في المرآة؟ هو نفسه لايدري متى وكيف يحدث ذلك !!..غير أنه ينساق خلف عريها، وسحرها كالمجنون... واشتعلت نيران الشهوة بداخله كبركان فزادته جنونا وجموحا لجسد عيشة، تلك الجنية التي تزوجته في لحظة جنون عارمة، فخلع ثيابه، ومضى بمحراثه بقوة بين تلالها وهضابها ووديانها، كما تمضي الخيول الجامحة بمحراث يحرث الأرض ويثير الغبار، والصخب حولها في انتظارالأمطار..انتبهت العاملات القرويات أثناء شروعهن في جني السفرجل إلى عدم وجود حياة بينهن فعدن بسرعة للبحث عنها عند مدخل  البستان ...وانضم إليهن العسس، وامتد الخبر إلى رجال القرية، وفتيانها فنزلواجميعا إلى النهر بعصيهم تسبقهم كلابهم، وهم ينادون بكل مافيهم من قوة حياااة ..حيااااة ..حياااااة.. حتى بحت حناجرهم، وخارت قواهم، وتسلل اليأس إلى قلوبهم، وغابت أصواتهم في مياه النهرغياب قرص الشمس ساعة الغروب.. ولم يجدوا لها أثرا، ولا خبرا طوال النهار.. تركها الفلاقي عند العصر مغمى عليها بجانب البئرعارية كما ولدتها أمها بعد أن التهم طعامها الذي كانت تحمله معها، مثلما التهم جسدها برمانتيه، وصب الشاي الأسود البارد في حلقه دفعة واحدة من غير أن يتذوق طعمه أو يتنفس.. ونزل إلى النهرمنتشيا ليستحم كعادته كأن شيئا لم يحدث ...تمرغ في الطين، والرمل أكثر من مرة ثم غطس في الماء كسمكة البوري ليصعد في النهاية إلى تلة صغيرة مرتديا ثيابه.. ثم عاد من جديد فخلعها وارتمى عاريا في المياه الباردة المتدفقة... يسبح تارة ويجمع عيدان الأشجار، وأغصانها تارة أخرى، ويدفعها فوق الماء في طقوس أسطورية غريبة ظل كل من رآه يجهل أسرارها، لكي يجعل منها في النهاية حطبا للتدفئة ... مر العسس، والفلاحون بصبيانهم وكلابهم بجانبه، ولم يشكوا لحظة واحدة بأنه صاحب الفعلة...وعند نهاية المساء مع آذان المغرب وبداية نزول الليل وجدوا حياة تلك الفتاة القروية الفقيرة المليحة الوجه، والقد تحت أغصان وأوراق شجرة التين بالقرب من البئر عارية، وباردة كقطعة الثلج. فاقدة للنطق، والقدرة ،والوعي ...وهكذا ضاعت حياة بعد أن ضاع صوتها، وجمالها، وشرفها، وعرسها الذي كانت تشتغل من أجله.. ومنذ ذلك الوقت أصيبت حياة بالجنون والخرس، وأصبحت ترمي أهل القرية بالحجارة، والطوب وتجري خلف الصبيان...وشاع خبر جنونها، واختطافها، وانتشركالنار في كل القرى، والبيوت، وأزقة المدينة وحقولها، وتداولته الألسن بالليل والنهار، ونسجت حوله الأساطير، والحكايات فمنهم من قال:" سرقها جن النهر أخو عيشة الذي يسكن بئرالبيت المهجور، وهو من فعل بها وبغيرها من القرويات ذلك"...ولم يعد أحد منذ ذلك الوقت يذهب إلى النهر بالليل، أويقرب البيت المهجور ...وظل الفاعل مجهولا عند الكل رغم أنه كان يستحم بالقرب منهم بمياه وطين ورمل نفس النهر .وتلك حكاية أخرى.

 (يتبع)

وسوم: العدد 882