العقاب

مصطفى عاصم

clip_image002_a8cd9.jpg

هل جعتم؟

هل افتقرتم؟ .. مرضتم؟

وذللتم؟

هل شق العطش حلوقكم؟

ألم تهلكوا بعد؟

هل أقررتم بجرمكم؟

هل أسمع "لا" .. تغلف إنكاركم؟

إذن

موتوا .. إهلكوا .. إختفوا

كلوا أنفسكم

فلن يجدي بعد الذبح والدم

عقابكم

فوجئ بصوت مذيع التليفزيون يعلن في خبر عاجل عن حدوث الحالة رقم خمسة وثلاثون, مع بعض الصور والمشاهد المتحركة الحصرية.

إهتزت يده بعض الشيء من هول المشاهد المرئية, كاد أن يسقط المزهرية الزجاجية الموضوعة بأناقة على الطاولة, وهو يحاول تنظيفها بلا انتباه, وبداخلها زهرة ذابلة ماتت .. كما مات, وكما يموت البشر والأشياء في هذه الأيام

لعل هذه الزهرة أوفر حظا، فقد ماتت موتة الإله، بدون أن يقضمها أو أن يغرس في جوانبها أحد .. بأسنانه وجوعه.

خمس وثلاثون حالة حتى اليوم, وربما أكثر من هذا بكثير, هذا الرقم الرسمي لا يعلن عن كل الحقيقة

خمس وثلاثون حالة رسمية عن بشر يأكلون أمثالهم من البشر, وعن آخرين يؤكلون بأفواه أقرانهم, ويقضمون بأسنانهم, وينهشون نهشا .. عسى أن يسد هذا رمق الجائعين، فيشبع الجائع ويستكمل تقطيع جسد الضحية، ليُطهى ويؤكل .. هنيئا مريئا .. لكل جائع مسكين

المسألة أصبحت جد خطيرة, فالعالم يظن .. لا ليس العالم .. بل هم أنفسهم من يأكلون ويستحلون نهش أجساد غيرهم من البشر .. كل الناس, كل الإنسانية ستتيقن وتتأكد أن شعبه, أهله وعشيرته .. هم ليسوا إلا مصاصو دماء

أسطورة دراكولا وهانيبال, التي كان يتابعها في أفلام الخيال .. تتحقق أمامه وتنتشر كظاهرة مستعصية الحل ولن يجرؤ أحد على إيقافها

إنه الجوع .. إنها المجاعة

ثلاث سنوات حتى الآن, أكلوا فيها كل شيء .. ولم يبق شيء

أكلوا القطط والكلاب والحمير, وكل ما وقع تحت أيديهم, وجوعهم يشتد .. المجاعة تكبر وتتضخم

~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

يعيد ترتيب الطاولة حتى لا تسقط المزهرية, حتى لا يترك أي حجة لصاحب هذا المطعم الذي يعمل به

رجل مستغل, وضيع .. أنذره أكثر من مرة أن وظيفته على المحك وأن أي شيء يفقد أو يتكسر فسيخصم فورا من راتبه

وما هو راتبه؟ .. ثلاث وجبات غذائية متواضعة .. يتناولها كعبيد العصور الوسطى, فقط لكي يستمر في التنفس والحركة ليخدم من يملكه

عقوبة الخصم هي إلغاء وجبة أو اثنتان, على قدر الخطأ وتقدير مالك المطعم .. الرجل الجشع, المستعبد, السمين ذو البطن المترهلة

~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

فوجئ بصوت مذيع التليفزيون بخبر عاجل آخر, يعلن عن هبوط آخر في منسوب النيل .. للمستوى الثاني من أصل عشرة تبعا للطريقة الفرعونية القديمة لقياس منسوب النيل بشكل دوري, وهذا ما يزيد البلاء .. بلاءا آخر

ثلاث سنوات من البلاء والقحط, موت الزروع واختفاء كل نبات مأكول .. الأرض تتشقق وتتصحر

ومع انعدام المطر واستمرار انخفاض منسوب النيل, تتلاشى الآمال .. وتتبخر رويدا رويدا أي بارقة إنقاذ من هذا الهلاك الحتمي

ومازال البحث جاريا عن أي بارقة أمل تظهر, ولو حتى بصيص خافت ضعيف يكاد يظهر من ثقب إبرة في مستنقع الظلام هذا الذي يلف البلاد والعباد

~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

الشده المستنصريه

هو... دارس التاريخ، والحاصل فيه على درجة الماجيستير فى بحثه التاريخى الجامعى القيّم، يعرف جيداً ماذا يعنى هذا الإسم.

مجاعه شديده ضربت أرض مصر فى نهاية عصر المستنصر بالله الفاطمى.. وامتدت لسبع سنوات، غاب فيها نهل النيل وكانت الظروف شديده الشبه بما تمر به البلاد الآن.

مجاعه... وجفاف وقحط، الناس أكلت الحيوانات، فلما انتهت الحيوانات بدأوا يأكلون بعضهم البعض.

الشده المستنصريه تناسخت وعادت لوقته هذا اكثر شراسه وضراوه... مع توافر كل التكنولوجيا والمقومات العلميه لتلاشيها والإبتعاد عنها.

شت خياله وتقافزت افكاره، بعيداً عن سيطرة اطرافه، بدأ يستعيد مشاهدا اجتررها وربما اقتحمت عالم ذاكرته فى هذه اللحظات تحديداً.

منذ ثلاث سنوات ونصف تقريباً... كان هو... الباحث الأكاديمى للتاريخ، الذى لا يؤمن بأى معتقدات دينيه أو روحيه.. هو الذى يؤمن بالواقع والوقائع التى ترسم احداث التاريخ وتلون احداثه.. ليكون التاريخ، ولتولد نتائجه.

هو الذى كان يعمل فى احد المراكز السياسيه للبحث والإحصاء والتقديرات الاستراتيجيه، التى تمول دائما من دول اجنبيه قويه مسيطره.. تسعى من خلال هذه المراكز لزيادة السيطره والهيمنه.

وهو الذى خطط وشارك ودبر بكل ما أوتى من قوة لمظاهرات مصطنعه، يعرف جيداً أن فكرة التخطيط لها كانت فى المركز الذى كان يعمل به... على مستويات عليا.. لأعلى وأعلى، حتى وصلت لأصابع من يحكمون سياسة العالم ويسطرون تاريخه غصباً.

هو الذى شارك بملء عقيدته، الذى تبين له فسادها، شارك فى إجهاض أول تجربه ديموقراطيه فى بلاده، وإسقاط الرئيس، ولعن كل من ينتمى ولو من بعيد لكلمة الدين، ولكن... أى دين؟... الإسلام فقط الذى بغضه وكرهه رغم انه ولد مسلماً.

وهو الذى سمع أيضاً ساعتها هذه الجمله الشهيره المأثوره بعد نجاحه ونجاحهم فى هذه المهمة القذره.

                                                ( انتظروا عقاب الله).

لم يصدق يومها، أن ما قيل وتردد امامه عن عقاب يأتى من الله.. أو أن هذه الميتافيزيقيا التى كان يرفضها دوماً لم يع ويصدق أنها ستتحقق امامه.

إنقلب كل شئ وبسرعه وبدون مقدمات منطقيه واقعيه... انخفض منسوب النيل او كاد يجف.

اصابت كل الأمراض كل البلاد بدون توقف أو رحمه... هلك الحرث والزرع والدواب... ساد الفقر والجوع... وانهارت البلاد.

وبالطبع اغلق المركز الذى كان يعمل به، تركوه وحيداً فى هذا الخضم رغم كل خدماته لهم.

هؤلاء الأجانب القوه كما يلقون المناديل الورقية المستخدمة بعد قضاء حاجتهم فى دورات المياه.

صار كالآخرين، يعانى الفقر والجوع والمرض... والذل... ليرى ما كان ينكره دوماً .. عقاب الله.

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

أفاق من شططه وانحراف تفكيره على كف يده يرتطم بالمزهريه الزجاجيه ذات الزهرة الذابلة الميته، تسقط من على الطاوله... تنكسر وتتناثر شظاياها على البساط الأحمر.

صاحب المطعم البدين، عديم المبادئ والشرف... يهرول ناحيته كأنه كان ينتظر هذه اللحظة منذ زمن، رأى ما حدث واستوعبه، ونطق بحكمه الجاهز على طرف لسانه، فقط كان ينتظر سقوط المزهريه ليخرج ويتحرر:

                    ·بسبب اهمالك هذا الذي كنت اتوقع حدوثه، تخصم منك ثلاث وجبات، أربع وعشرون ساعة بدون طعام... إلى الغد فى مثل هذه الساعة.

ياللمصيبة.. ياللكارثة الماحقه، عليه أن يتحمل الجوع أربع وعشرون ساعة كاملة، عليه أن يرى عقاب الله في ذاته دون غيرها.

هذا العقاب هيّن إذا قورن بحالة من هم خارج المطعم... يراهم يومياً من نوافذ المطعم الزجاجية، يأكلون أى شئ يجدونه على أرض الطريق من حشرات وهوام... ولولا خجل اكثرهم لهجم كل منهم على الآخر ليأكله، الجوع.... الجوع أقوى من الكفر.

الجوع هو عقاب الله الحقيقى الذى يؤدى الى الكفر... العقاب الأكبر والأوحد... الذى ليس بعده عقاب.

ولكى يستعيد وعيه.. وينشّط عزيمته.. لابد أن يكب على رأسه بعض الماء.. وأن يروى ظمأه.. وأن يستعد لأربع وعشرين ساعه من عقاب الله.

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

ذهب مغاضباً منفعلاً الى دورة المياه.. تذكر أنه لا يجب أن يظهر غضبه وأن يظل سراً فى سريرته حتى لا تزيد العقوبه... حتى لا يسوق نفسه الى الهلاك بغضب أحمق... حتى لا يلاحظ صاحب المطعم تأففه من قرار العقوبة، فيزيدها إلى اكثر من ثلاث وجبات... أكثر من ثمان وأربعين ساعه فيكون الهلاك ذاته....

حتى لا تصير قصته اضحوكه للتندر...

رجل يهلك من الجوع، داخل مطعم وفير بكل انواع الطعام.

نظر إلى وجهه فى المرآة، وجهه شاحب هزيل... يشى بالعقاب الذى حل به، اياً كان مصدره، مازال فى قرارة نفسه ينكر العقوبة الإلهيه، يتنكر للقدرة الإلهيه... وللمصيبه التى تمكنت منه.. وجاءت من عند الإله، وأظهرت على وجهه بكل وضوح.. فقدانه لثلث وزنه على الأقل.

خطر بباله خاطر سريع عندما صدم بمشهد عينيه يغوصان داخل عمق محجريهما بسبب هزاله وانحسار شحم وجهه.

ايكون هذا العقاب الذى حل به شخصياً دون كل الناس، هو بسبب انكاره لفكرة الإله والدين؟.

أم انه بسبب موقفه الفكرى والسياسى، او فكرة الحق والباطل كما سمع ومازال يسمع من كثير ممن ينتقدوه؟

حاول أن يحدد ولكن قدرة عقله فى الثبات.... او الإستمرار فى العمل... تغيم وتتلاشى.

قلة الطعام، وانعدام السكريات فى دمه يعطلان كل اجهزته، ولكن عليه أن يعمل ويستمر حتى لا يخصم منه الرجل البدين القميئ وجبات اخرى، عليه أن يتحمل مرور تلك الأربع وعشرين ساعه، ليعتبر نفسه صائماً كما كان يفعل فى صدر شبابه، قبل أن ينسلخ من عبادة الله والدين، قبل أن يأتى عقاب الله كما يرددون.

أمسك بمقبض صنبور المياة وبملء عزيمته الواهنه يفتحه رويداً رويداً... لا مياه، يفتح أكثر وأكثر... لا مياه، يفتح المقبض إلى منتهاه... ولا مياه... ولا أمل فى أى بارقه لأى قطرة مياه.

بدأ يفقد اعصابه، يضرب بيده رأس الصنبور عدة ضربات، عله يستيقظ، عله يستعيد ضميره ويأتى بالمياه، اعصابه تنفلت وتتبخر... يزيد ضرباته للصنبور، يبرحه ضرباً... ولا مياه.

يحنى رأسه ويلويها لينظر بنفسه لثقب الأنبوب الذى تأتى منه المياه... يلصق رأسه... يقترب بحدقة عينيه من الفوهة السوداء... أكثر، وأكثر، وأكثر....

ويذهب تماما... ينجذب كإبرة حديديه تهرول إلى مغناطيس.... ويختفى.

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

ينزلق بكل جسده... يتدحرج ويتقلب فى انبوب طويل مظلم... ليس له قرار أو نهاية، كأنه حجر صغير فى مجرى منحدر ضيق، لا بد له أن يسقط، ويستمر فى السقوط والتدحرج حتى يظهر للمنحنى سفح فسيح.

تذكر عندما كان صغيراً، حتى اواسط صباه عندما كان يذهب مع عائلته واقاربه من نفس عمره، لمدينة الملاهى المائية... كان ينزلق داخل انابيب تقارب ماهو فيه الآن، حتى يسقط في حوض سباحه كبير... يلهو فيه كل من كان يريد اللهو، ولكن سقوطه الحالي لا يوحى بأي سمة لهو.

هذا السقوط السريع فى هذا الأنبوب المظلم، ينبئ بنهاية كئيبه ومكان يثير فى خياله الرعب... ولن يكون بأى حال من الأحوال حوض سباحه ... او سفح فسيح.

الإيقاع يسرع ويتسارع، كأنه ينتقل بسرعه ضوئيه من زمنه لوقت آخر، الصدمات فى اطرافه وعظامه لم تعد تؤلمه عندما لاح فى ذهنه السؤال:

                    ·أيكون حقيقه؟ ... هل أنا ذاهب إلى زمن آخر، بعيداً عن الجوع والهم واليأس؟.

لم يسعفه الوقت لمجرد التفكير فى الإجابة على تساؤله، ايقاع سقوط وانزلاق جسده يسرع ويسرع.. بصيص ضوء يظهر من بعيد كأنه علامه لإقتراب نهاية الأنبوب... اللانهائى، الذى ظن أنه سرمدى ينتهى فى زمن آخر.

الضوء يزيد... يقوى ويشتد كلما اقترب من نهاية الأنبوب، حتى ظهر ثقب الأنبوب الذى ما لبث أن بدأ ينمو ويكبر حتى بان كبوابه لكهف يفضى الى النور، او.....النيران.

يتخطى حاجز بوابة الأنبوب، يهوى بجسده ويسقط على لوح من الألومنيوم الفضى اللامح... اللين، يتدحرج بجسده عدة مرات من اثر سرعه... ويتوقف.

يتحسس جسده... هل اصيب بشئ؟ .... كدمات أو رضوض أو ما شابه؟.... جسده سليم، هذا القعر ... صاج الألومنيوم اللين حمى جسده من مصيبة الكسر بعد السقوط.

يبدأ فى فتح عينيه، المكان ليس مضيئاً كما تخيل، هو أشبه بإشعاعات ضوء الشموع الخافت داخل الكهوف والمغارات.... خيل إليه أنه ضوء قوى بسبب سواد ظلمة الأنبوب، والوقت الذى مضاه داخله، أيكون دهوراً أو قروناً؟....

 هل فر من زمنه كما تمنى؟.....

هل إستأثر بالنجاة وترك الهلاك لكل أهله ووطنه؟....

هل استحق الحياة، بعد أن قاد شعب وطنه للعقاب وأفلت هو منه بقدرة الله... أو أياً كان، من يملك العقاب ويعاقب، سيعرف...حتماً سيعرف بعد قليل.

بدأ فى النهوض مستنداً على ذراعيه وركبتيه... يعتدل ويجلس ليرى المكان من حوله، يمنى نفسه.. أن يجد عالماً آخر... بدون عقاب.. بدون احساس الجوع الذى بدأ يهاجم امعائه... كأنه بالفعل كان فى رحله طويله... مسافر عبر الزمن.

يمسح ببصره كل المكان..... جميع الأركان...

ماهذا ؟؟ !! ....

يبدو أن ما تمناه قد تحقق مع اختلاف المكان الذى ارسل اليه....

كائنات شفافه كبيره تساوى حجمه تقريباً... أشبه بالقطرات البلوريه، تقف مصطفه وتهتز فى هدوء ورقه كأنها أكياس مائيه ... ناعمة الملمس بدون تجاعيد.

يدقق نظره ويحدّب عدسات عينيه ليجمع تفصيلات أكثر وأدق..

إنها فعلاً كائنات مائيه... إنها قطرات مائيه كبيره بحجم جسده !!

أو أنه هو الذى تصاغر وصار مثلهن.

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

                    ·إممممممم.. إمممممممم .......

صوت يزوم... أم موجات صوتيه تتدفق وتعوم، تسبح فى فضاء مجهول المكان.. تصطدم وتصطك.... وتصل منهكه لأعتاب حاسته بهذه النغمه، المتناغمه مع حركة هذه الكائنات البلوريه الشبيهه بالقطرات.

القطرات تتمايل مع وخز صوتهم الغريب كأنها فقاعات مائية متصلة ذابت حدودها ولم يبق لها إلا دفعه هزيله لتنفجر فى وجهه وتغرقه

                    ·اممممممم.... اممممممممم..... رحماك.... رحماك يا قدير... ارحمنا

الصوت الناشز يتحول ويتغير بطفره عجيبه، ليصل إلى اذنيه بكلمات واضحه يفهمها، إذن هذه القطرات تتحدث لغته وتفهم بيانه

                    ·سبحانك... رحماك...عفوك.... يامالك الملك

فى صدر شبابه كان يسمع كثيراً مايرددونه أن كل الجماد يسبح ولكن الإنسان لا يفقه تسبيحه، وكان ينكر بشدة ما يسمع ويصّر إنه موروث شعبى لا علاقة له بالواقع أو الحقيقة.

الآن ... فى هذ الزمن المفقود بين الأزمان... وهذا المكان المتناثر خارج كل أماكن الأوطان... يسمع تسابيح القطرات.... يتنصت... يطرق سمعه.... يرهفه....

                    ·رحماك يا قدير... إرفع مقتك وسخطك عنا... حَلَّ علينا سخطك فانسخطنا... تحولنا كلنا مياه النيل التي تجرى وتتدفق وتنتشر فى اعالى الأرض واسفلها... تحولنا وعوقبنا وانسخطنا الى قطرات مائية معدودة، مقذوفة معزولة... فى قبو خزان مظلم، بكل الهوان والضعف والخزى... رحماك... رحماك.... يامن يُغيِّر ولا يتغير...ندعوك أن تغفر لنا وألاَّ تؤاخذنا بما فعل السفهاء من بنى الإنسان... من هم فوق الأرض ولا يستحقون وجودهم عليها... اللهم اعد الينا طبيعتنا... اعدنا لمجرانا... اسخطنا مره اخرى حتى نعود نهراً بموجاته الغزيرة العذبة.... شلالات تسقط فترفع كل ميت ليحيا... إجعلنا سبباً فى إحياء خلقك.... يا قدير... ارحمنا ولا تؤاخذنا بجرم بنى الإنسان.... لا تهلكنا بفسق وفجور والحاد بنى الإنسان... ارحمنا... ارحمنا.

لوهله ظن أنه منكوب مثلهم وأنه مسخ قطره مائيه، بطعم النيل او أى نهر قدر له المسخ..

لا توجد مرآة ينظر فيها إلى نفسه ليتحقق....

نظر إلى كف يده واصابع يديه ، وجدها كما هى... بشريه ملعونه فى تلك اللحظات المنكوبه التى تكوَّن خلائق مرصوصه امامه تتحدث... كان لابد له أن يقاطعهم، ان يوقف تسابيحهم... وحدث :-

                    ·اسمحوا لى... هل تقصدون اننى انا المتسبب فى نكبتكم، هل ترونى من بنى الإنسان... ام اننى مثلكم الآن... لا أدرى... لا اتيقن... لقد وصلت هنا للتو... افيدونى.

وتتلوى رؤوس القطرات كأنها بشريه لبنى الإنسان... بدون أعين، بدون حدود لوجه أو قسمات... يتحركن جميعاً فى ايقاع واحد كأنهن سطر مائى متحد، شفاف... ترى ذرات مياهه تتحرك يميناً ويساراً وترسم إلى حد ما... ما ظنه هو انفعالات وجوههن، .... تلك المخلوقات... توقفت عن التسبيح وبدأن كلامهن :-

                    ·انت من بنى الإنسان... انت منهم هؤلاء الملاعين... كيف جئت إلى هنا؟

وتتحرك القطرات ككتيبه فى جيش نظامى يسمع وقع تحركاتهم.. يترقرق ويلقى بنفسه ويضغط على لوح الألومنيوم الفضى.. برقه... ليسمع صوتاً كصوت انسياب المياه في النوافير الصغيرة .. خاف.... ارتعد.... تكور جسده وانكمش... خاف أن يلقين بأنفسهن عليه فيغرق:

                    ·ارحمونى.... انا لست هنا لأؤذيكن... انا مسكين من بنى الإنسان، أُلقى بى فى قبوكم هذا بالخطأ... ارحمونى ارجوكم.                    ·كيف نرحم من هو سبب بلائنا... مصيبتنا... نكبتنا وشر حالنا، انت ومن مثلك ممن هم فوق الأرض تسببتم فى جفاف النيل... إنقضى الأمر... تشققت الأرض... فوالقها الميته تفضح جرمكم... فسادكم...عهركم... تدليسكم... قذارة فطرتكم... تم تطلب منا أن نرحمك... هيهات.                    ·ارحمونى ارجوكم... انا عبد لكم... أسير لديكم... ربما للأبد، لم ارد ابداً نبش هدوء وقدسية لقائكم .. انا جئت هنا بلا ارادة، ارحمونى لا تقتلونى.

كان صوت القطرات يأتى منهن مجتمعات... ولكن بدا له ان قطره كبيره فى مقدمة صفوفهن المرصوصه هى التى تتحدث اليه..

التوت بجزئها الأعلى كأن رأسها تتحرك بدون قسمات اكيده ولكنها تكلمت وبدا له ان الصوت يأتى منها وحدها هذه المره.

                    ·أنا اعرفك... الست انت دارس التاريخ الذى يعمل بالأعلى هنا فى هذا المطعم... الست انت الوضيع خصيم الحق والعدل، منكر وجود الله ربك وربنا.

فغر فاه فى دهشه ماحقه وخوف بيّن كأنه ادرك انه بعد ما أيقن أنهن يعرفنه جيدأ ... هالك بين ايديهن لا محاله

                    ·وكيف عرفتى كل هذا؟                    ·أتظن أنك وحدك من تعرف... مشكلتك أنت ومن على شاكلتك ممن نصروا الباطل ورفعوه فوق الحق، أنكم تظنون أنكم وحدكم الذين تعرفون وتدركون... انتم فقط من تقرأون وتخططون... وفى حقيقة الأمر انتم فى مؤخرة الصفوف...

وعندما يأتى وقت البأس والشدة تتماوتون وتتذللون وتطلبون الرحمة ممن تجرأتم عليهم وسخرتم منهم... أما نحن فنطلب الرحمة فقط من الرحمن الرحيم

                    ·هل ستقتلونى... هل ستعدمونى لأنى لست مثلكم... ارحمونى... اناشدكم الرحمه... المغفرة، دعونى أعيش بينكم كخادم ذليل... ارحمونى ودعونى اتعايش معكم                    ·انت تتكلم عن التعايش؟!.. وماذا عن تعايشكم قبل الكارثة، قبل حلول غضب الله المستحق... لماذا لم تتعايش مع اهل الحق؟.... نعتهم بكل الرذائل حتى صدقك الاراذل، ثم حرضتهم على قتل كل من تحرك لسانه بشهادة حق...

وقتلوهم بأمرك... بمشورتك، ورقصتم كلكم فوق جثامينهم... هؤلاء الابرياء ضحاياكم... واستحللتم واستحممتم بدمائهم الزكية...خضتم في برك دمائهم الطاهرة.

وعندما تلوث أغلب المجتمع بسببك وأمثالك، عندما تمكنتم من تلويث الفطرة إلى منتهى العفن وأقصى المسخ... عندها حل غضب الله عليك وعلينا وعلى الجميع...

مُسخنا.... أمر الله بكن فكنا....

جفت المياه... وأختزلنا لقطرات معدوده متناثره وملقاه ها هنا... جفت الحلوق وتشققت.

وبعد كل تلك المصائب والنوائب تطلب منا الرحمة !!!... تطلب منا أن تعيش بيننا ونتعايش... يالك من وقح.

                    ·ارحمونى ارجوكم... امنحونى الحياة... اعطونى شيئاً آكله.... انا جوعان... انا لست مثلكم من ماء... انا مازلت على هيئتى البشرية، مازالت فى جوفى أمعاء تئن وتصرخ... اعطونى شيئاً آكله... اعطونى حياة... لنحيا جميعاً                    ·الآن تصرخ.. لأن امعائك تصرخ.. هل تتذكر كم سحقت من معىَّ لمساكين ممن نطقوا بالحق وأبو إلا أن يلفظوا الباطل... هل تذكر كم منهم مات جوعاً أو هلك بأيدى اقرانك الزبانية...

تعذيبهم الذى فاق الوصف والخيال.

هل تعرف كم منهم مات قهراً على ابيه أو اخيه او ابنه او حتى زوجته او ابنته ممن ذبحوا ذبحا وحرقوا حرقاً بايدى اراذلك من عصبة الباطل الذى زرعته ورويته بكذبك ... وضلاك وإضلاك.

                    ·انا جوعان... أريد طعاماً... أريد ان آكل اى شئ... اى شئ                    ·الآن تطالب حياتك وقد تسببت فى موت الآلاف وربما اكثر... ماذا تظن انك تستحق؟؟

رفع رأسه ليمسحن كلهن ببصره

لحظات استفاقه أخيره للكرامة برقبه ممدوده... مرتعشه لكنها مصطنعه، فقط ليائس من الرحمه يعرف حتمية هلاكه.

قال وصوته تكسوه نبرة استعطاف أخير

                    ·ماذا أنتم فاعلون بى؟... انا أستحق الحياة... ولا استحق غير الحياة                    ·بل ما تستحقه فعلاً ويقيناً وقصاصاً عادلاً هو الموت

وبدأت القطرات فى التجمع والإلتفاف حوله فى دائره كبيره، سرعان ما بدأت تضيق، وتأكد له أنه لا فائده من المقاومه، فالقطرات اكثر كثيرا مما كان يتصور...

الدائرة تضيق وتضيق....

القطرات يطبقن عليه...تغشاه كل واحده منهم بكتلتها فيغمره الماء... يحس أنه يغوص فى بئر عميق لمياه عذبه، عزمت فى قرار بئرها ان تعذبه حتى الموت

الماء يغمره، يصل إلى ذقنه... يكسو فمه ويغلق فتحتى أنفه ويطيح ببصر عينيه كالطوفان...

إنه .... إنه يغرق.... يغرق....

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

شلال مياه يندفع فجأة وبقوه من فوهه انبوب صنبور المياه، بعد غياب طويل لأكثر من عشر دقائق، بعد أن أوسعه ضرباً وكاد أن يرفع قدمه إلى حوض الصنبور ليوسعه ركلاً.

ولأن وضع جسده كان شاذاً بعض الشئ، منحنياً برأس ملتوية ورقبه معقوصه، ناظراً إلى فوهة الصنبور... اندفع الماء الى وجهه ليغمر عينيه ويتدفق الى فتحتى انفه ليغزو قصبته، فيفتح فمه، ليتسرب اليه أيضاً شلال المياه هذا... يسعل ويعطس ويغلبه يقين متأرجح أنه يموت... أنه يغرق.

بأصابع يده المستفيقه وبجهد جهيد، يغلق مفتاح صنبور المياه... فيتوقف الشلال المتدفق... ولُعٌشر ثانيه من الوقت الفارق بين الاحساس بحتمية الهلاك والرغبة فى النجاة...

فى هذا الجزء من الوقت، ادرك أن رغبته غلبت قدرته بأى حال من الأحوال، وأنه اخيراً نجا، وأن كل ما رآه منذ دقائق معدوده، كانت كلها خيالات لرجل بائس.

رفع رأسه وجسده ونظر إلى المرآة، كان الماء يغمر كل رأسه ويتهادى بقطرات جاريه صغيره وكثيره، كعروق نبتت للتو من اعلى رأسه لأسفل رقبته.

اخذ يمسح الماء المتعرق على وجهه ويجفف ما تبقى وتسرب وهو فى داخله يشعر بفخر دفين، انه استطاع أن ينجو وأنه تخلص من خيال كئيب ملك زمام رأسه لبعض الوقت، ولو لدقائق معدوده.

والأهم من هذا كله، ان نجاته من هلاكه اكدت له ان ليس هناك ما يسمى بعقاب الله.

نظر الى المرآة... أحس بهزال وجهه... قرصه جوع معدته... هذا الإحساس المؤلم ليس وليد تلك اللحظة بذاتها بعد استفاقته من كوابيس خيالاته ونجاته بحياته من الخيال والواقع معاً.

احساسه بمرارة الجوع قد سبق دخوله حمام المطعم، وحتى اثناء خيالاته المريضه مع القطرات اللعينه

قرر أن يخرج... ان يعود لعمله وان يعتذر لصاحب المطعم.. ان يطلب العفو... المغفره... السماح، لكى يسمح له بالطعام، ولو بنصف او ثلث وجبه... المهم الاً يترك امعاءه تعوى وتتألم هكذا.... وخرج.

ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ~ْ

عندما دلف الى بهو قاعة المطعم بطاولاته الكثيره، تاركاً دهليز الحمام المظلم، قابله احد زملاؤه من نادلي المطعم... جائع آخر يعانى بشكل آخر من قرص امعائه، قال له بوجه متجهم:

                    ·أين كنت... هناك من يبحث عنك

ظن على الفور انه صاحب المطعم، استأخر ظهوره واراد ان يزيد من عقابه فيطرده نهائياً من العمل وبذلك تزيد مصيبته، عقابه، ولكن هذا من المستحيلات فعلا، على حسب ما عرف ويعرف عن شخصية صاحب المطعم من دناءة وخسه... إنتبه لتجهم زميله وسأله :

                    ·من يبحث عنى؟                    ·إنه يجلس هناك... بالقرب من الباب، اعتقد انه ابوك... فهو يشبهك كثيراً... او انت تشبهه                    ·أبى؟؟

تجهم فور ذكر ابيه....

ثقل لسانه... اطبق على صدره فتجهم وعبس، وبدأ يخاطب نفسه الجائعه بحديث صامت اخرس :-

                    ·( ما الذى اتى به... من المؤكد أنه جاء ليطلب شيئاً ما... طعام أو ما شابه... الم يدرك بعد أننى القم امعائى بالكاد... مايقيم اودى ويجعلنى اتنفس واتحرك ).

على الفور، بدأ عقله... متأبطاً ذاكرته، بدأ فى اجترار كل مشاهد الماضى السحيق والطازج بكل تفاصيله.

أبوه كان رجلاً شديداً... عنيفاً، يظهر عنفه وصرامته للعامه ليضفى هالة التمكن والرجوله... كذلك داخل بيته مع أسرته، كانوا ينادونه ( يا حاج) رغم انه لم يحج، ذهب مره واحده لزيارة الأماكن المقدسه فى عمره سريعه.

يعرف عنه الناس كما اراد هو ورغب، انه رجل جاد صارم.... متدين، ولكن عندما بدأ هو فى النمو... واشتداد العود، اكتشف ان تدين أبيه ليس الا قشره سطحيه هشه، تتفتق فى انفراده وخلوته.

اكثر من مره، رآه خلسه فى البيت يشرب النبيذ الذى يحتفظ به فى غرفته، فى خزانته الخاصه.

وكذلك المخدرات الذى كان يدخنها من وقت لآخر ويخلطها بمعسل الأرجيله، استطاع أن يميز رائحتها النفاذه التى قلما تخطئها الأنوف... تعود على تذوق رائحتها... دوماً بغير رغبه

لعل ابوه هو احد اسباب بغضه لفكرة الدين، والاله وكل ما يهب من ناحيتهما من رياح ميتافيزيقيه كرهها ومازال يكرهها.

وعندما صار شاباً يافعاً وبدأ العمل فيما كان يعمل فيه من مراكز، ظاهرها النقاء، وباطنها .. هدم وتقويض وقتل الدين... ووأد العدالة واعلاء الباطل.

لم يرفض ابوه المبدأ بل شجعه ان يمضى فى هذا الطريق الغارق فى التلوث، المشبع بالدنس، مادام يجنى المال الوفير... ومادام يعطى ابيه ما يريد كلما طلب.

وعندما بدأت الفتنه، واشتعلت الأزمه، وصار واجباً على كل انسان ان يلزم جانباً، اما جانب الحق بتبعاته من الإضطهاد... واما جانب الباطل بعلوه وسموه وجبروته...

ساعتها لم يدخر ابوه وسعا فى دعم الباطل المتجلى بوضوح، كما طلب منه ابنه... وكما هو سمتهما

وعندما بدأ الجوع... عندما نُخر عظام المجتمع... ونحر رقاب البشر... واهلكت النفوس وتجلت مظاهر العقاب، تغيرت الأوضاع... لا طعام... لا ماء... لا مال.

ولا أى امل فى النجاة عن قريب مع ايقاع الزمن المتسارع.

ذهب إلى حيث ينتظره ابوه بجسد متثاقل وجسد خائر ورفض ساخن حار ينفث بخاره وحممه من اعماق داخله، ليتمرد فى خجل خفى على الوضع برمته... وعلى العقاب، اى عقاب كان... مهما كان مصدره.

رأى ظهر ابيه، جالسا منحنياً كالأحدب فى روايات الكتاب القدماء وافلام مخرجى الخيال العلمى...

لطالما ارتعد فى صغره من مشهد ظهر ابيه... فقط عندما كان يلمحه من ظهره، اما مواجهته... ومجابهة وجهه فكانت اقسى من معنى الصعوبة والمستحيل ذاته.

بدأ فى الالتفاف حول ابيه الجالس مكسوراً، ليرى وجهه، كم هو سهل هذه المره... لم يعد اباه ذا هيبه او صرامه مرعبه تفرض الخوف واتقاء اللقاء... نال العقاب منه كما نال من الجميع.

وعندما اصبح فى مواجهته تماماً، رفع ابوه رأسه... رأى وجهه، كانت عيونه كسيره بملامح ذابله مريضه... ممصوص الوجنتين... هو العقاب بجوعه وعطشه... جبروته وغطرسته... وعنفوان قدرته.

كأنه مرآه شاخت بعجز بيّن وشيخوخه شاطحه، سائده... يرى وجه أبيه وكأنه وجهه هو... هو نفسه بعد سنين، ان قدر له الحياة فى عز العقاب.

ابوه ينظر اليه بوجه مستجد ذليل، كأنه شحاذ يطلب صدقه أو ما يسد به رمقه.

لأول مره يرى وجه ابيه على هذه الصورة... ضعف اقرب الى الذل... المهانة اللاحقة بالعقاب.

جلس امام والده بدون أن ينطق بكلمه، احسن بأنفاس أبيه الثقيله تدفع نفسها لكى يتحدث وينطق بحال وجهه البائس..... ونطق :-

                    ·سأهلك يا ولدى... أنا جائع.... أمك فى البيت على وشك الهلاك... وأختك..... اختك الجميله الفاتنة التى رقصت فى عرض الطريق لأجلك، كما طلبت منها... تأييداً للحاكم الأوحد المتغلب الذى جئتم به، أختك الآن هى أقرب للشبح... لهيكل انسان متآكل ويتأكل.

لم يرد... ربما لا يريد... أو لا يستطيع الرد، اطال التحديق والنظر الى ابيه بوجه بارد اقرب لوجه الموت

عاود ابوه الكلام

                    ·اعطنى اى شئ نأكله.... اى شئ، نحن نهلك يا ولدى... اسرتك تتلاشى... اعطنا اى فضلات من طعام هذا المطعم... اى شئ تجود به يا ولدى... انقدنا من هلاك هذا العقاب المرير...

وعلى ذكر الطعام الشحيح المطلوب والجوع المذل، انكسر صمته وتقوقع تحديق بصره.... ونطق لسانه :-

                    ·ما الذى أتى بك يا أبى؟                    ·الجوع يقرص امعائى... وامعاء امك واختك، نحن نموت... نهلك... نحن فى ذروة عقاب الله... نحن نستحق عقاب الله... ليغفر لنا ان اراد...ليرحمنا.... الباطل كسانا وأغرقنا وأوصلنا لهلاك الجوع.... اعطنى أى شئ نأكله لنحيا                    ·هل جئت لتوبخنى وتلقى علىَّ مسئولية هذا الوضع الغريب الذى تسميه العقاب... من الرب كما تسميه أنت ايضاً.

هل جئت تتهمنى بأننى السبب فى الجوع والجفاف بسبب الباطل... كما تسميه انت....باطل.

                    ·ألست انت من طلبت منا ان نساندك، وان نساند هذا الحاكم المتغلب وعصبته، الم تأمرنا بأن نصفق للقبل وسفك الدماء.... واعلاء الباطل وطمس الحق.... وأد الاشراف ورفع كل الاراذل.... الم تحثنا على سب كل شريفه طاهره واكرام كل عاهره تترزق بالعهر وتبيع شرفها بأبخس رخيصه                    ·على رسلك... انتبه لما تقول واحذر نتائجه.. انا لم اغصبكم على فعل أى شئ مما تقول، بل كنتم أنتم أدعياؤه، رقصتم وفرحتم وهللتم، وعندما قرصكم الجوع والعطش سميتموه باطلاً... والآن تتهمونى باطلاً بأننى سببه، جالبه ومُحضره... كأنه عفريت الشر الذى استحضرته ليأتى بالهلاك الذى يفضح كل نفوسكم التى تنضح بالفساد القابع فى كل خلاياكم... ويكسوكم بذراته من قمة شعور رؤوسكم لأسفل أخمص قدم كل منكم... لوموا انفسكم اولاً ولا تلومونى.

نظر اليه ابوه بوجه اكثر انكساراً وذله ممصمصاً شفتيه كأنه يجتر ما جف من لعابه، أو كأنه يزيح عن أمعائه وخز جوعها الأليم.

                    ·يا ولدى... انا لم آت اليك الآن لالومك او لتلومنى... جئت اليك لتنقذني من الهلاك... اعطنى اى شئ آكله... انا جائع... جائع

وعلى وقع ترديد كلمات استجداء ابيه الجائعه المتضخمه فى سمعه كلما رددها.. استحضرت نفسه ومعدته احساس الجوع، احس بقرسه والمه بعد ان كان قد نسيه لأكثر من ساعه من الزمن...

( جائع...جائع).... مع تكرار الكلمه، كانت امعاؤه تصرخ وتعلى صراخها... شاكيه جوعه وجوعها... ومذكره اياه بعقابه الذى سيمتد لعدة ساعات اخرى.

نظر إلى ابيه وقد اكتست ملامح وجهه بهدوء وصفاء طبيعى، ولد للحظه بدون انتظار... غير متوقعه، حتى من ابيه الذى لاحظ سكون ملامح ابنه فظن ان قلبه قد رق وأنه آتيه بالطعام لا محاله.

ملامح ابيه تزداد ذلا، انكساراً واستجداء، اما هو فكان قد دخل عالما آخر لا رجوع منه.

جوعه الشديد المتصاعد سيطر على ملكاته، وشهوة الجوع فى تلافيف مخه جعلته ينظر إلى ابيه على انه فريسه تؤكل، لحم وجنتيه الضامر مازال يبقى شيئاً من شحم واوردة عنقه يتصاعد منها رائحة فوران دم ابيه الجائع المذعور فتصل إلى انفه، لتفتح شهيته اكثر واكثر.

يرى اباه الآن كقطعة لحم على اسياخ الشواء الحديديه...

سال لعابه اكثر واكثر...وتبسمت ملامحه، فلقد وجد اخيراً وجبته.

ظن ابوه ان ابنه قد لان واستكان... مد يَدَهُ إلى يَدِهِ ليمسح على اصابعه، التى طالمها نظفها ومسح عليها فى طفولة ابنه، بينما رائحة لحم ابيه تتصاعد داخل انفه وتدفعه لأقصى سقف الجوع... لم ولن ينتظر اكثر من ذلك.

قبض على رقبة ابيه... وعضه عضه مميته لأسد جائع.. لم يأكل لايام متتاليه.... انفجر الدم من رقبة ابيه... وسقط الرجل مضرجاً فى دمائه.. وفى فم ابنه قطعه من لحم رقبته... يلوكها مره... واخرى... واخرى.... وابوه راقد بنزفه فى آخر لحظات حياته، لم يستسغ طعم اللحم.... حاول ان يبتلعه فلم يقدر... بصقه... لحم ابيه محرم عليه على ما يبدو كجسد امه واخته.

استفاق للحظات معدودة ليكتشف معالم المشهد... ابوه يرقد ميتاً وسط بركه دمائه، منزوع لحم الرقبه... وكل من هم داخل المطعم... ومن خارجه ايضاً، مجتمعين حوله... يراقبون هذا المشهد العجيب الذي طالما سمعوا عنه فى التلفاز فى الأيام الأخيره... والآن يروه رأى العين... على الهواء مباشرة.

رائحة الدم وطعم اللحم فى فمه حتى وإن لم يأكله والدماء التى تقطر من اسنانه، كل هذا ينضح برغبته الحاليه المجنونه فى ان يأكل اكثر واكثر ولا ينتهى من افتراس اللحم.

نظر الى المتاح... جسده... يديه... وذراعيه...

لم ينتظر ولم يصبر ولو لجزء من الثانيه على جوعه الذى فاق كل الحدود المعقوله والمجنونه.... رفع يده اليسرى عند انفه متشمماً رائحة دمه... فتح فمه كقرش مفترس وقضم رسغ يده... انفجر الدم وتطاير.. بينما عضلات فكِه تلوك لحد يده الذي استساغه وبدأ يمضغه بتلذذ ملعون.

عضلات فكه تتراخى شيئاً فشيئاً مع استمرار نزفه وانسياب روحه خارج جسده.

وفى اللحظات الأخيره... فيما تبقى له من وعى، رأى شاشة التليفزيون فى صدر بهو المطعم تذيع خبراً عاجلاً....

حالتان جديدتان لاكل اللحوم البشريه

ابن يأكل ابيه ويقتله ثم يأكل يده ويموت هو الآخر.....

ولم يذكر الخبر العاجل ان ما حدث وسيحدث....هو العقاب

من الله..... من البشر...... من اى كائن كان

أنهوا الخبر قائلين إنهم فى انتظار حدوث حالات اخرى مشابهه.

وسوم: العدد 883