التنور

إيمان قاسم

تعيش أسرة أبي نبيل عيشة هادئة ، ملؤُهـا الرضا بما قسم الله ،يملكون مايكفيهم من متطلبات البيت ، ولا يحتاجون إلى الاستدانة من أحد ، أولاد الأسرة يشعرون بالمزيد من الطمأنينة في بيتهم المتواضع ، حيث يجتمعون صباح كلِّ يوم في زاويته الشمالية حول التَّنُّور الذي شيدته أم نبيل منذ عشرين عاما وما زالت تجدده على مر السنين ،وحيث الخبز الطازج الساخن ( والمقرمش ) ، وحوله إبريق الشاي والجبن والزيت والزعتر ، وأحيانا يجدون أمهم الحنون طبخت لهم شوربة العدس أو بعض المأكولات الشعبية التي تشتهر بها مدينتهم الوادعة الجميلة . وبعد تناول الإفطار ينصرف كل منهم إلى جهته التي اعتاد الذهاب إليها منذ أمد . الأولاد والبنات إلى مدارسهم ، وأبو نبيل إلى بقالته المتواضعة في وسط الحي الذي يسكنونه . وأما نبيل الذي ترك المدرسة وهو في المرحلة الإعدادية ، فيعمل مع أحد أقربائه في مصنع للأبواب ، براتب زهيد ثم زاد المبلغ ، لأن نبيلا أراد الزواج ، ولم يقصر قريبه بل أعطاه ضعف ماكان يأخذ من قبل . مضت بضعة أشهر ، وتزوج نبيل وسكن  وزوجته مع أهله في غرفة بناها من رواتبه ، وكانت زوجته ذات أدب جم وخدمة للبيت ومَن فيه ، وقد أحبها جميع أفراد الأسرة .

وأما نبيل فيبدو أحيانا شارد الفكر ، مشغول البال ،ولكن لايمنعه ذلك من التحدث مع أفراد أسرته ويمازحهم ، ويشاركهم  بمستلزمات البيت ، وما إلى ذلك من أمور عائلية . سأله أبوه عن هذا الشرود في بعض الأحيان ، وقال له : إن كان لديك مشكلة يابني فأنا والدك ، ونستطيع حلَّها بإذن الله تعالى . وكان الجواب حاضرا : ابتسامة حانية تحمل جملة لطيفة : لا يا أبي مافي شيء يستحق الذكر ، الأمور طبيعية ولله الحمد ، يجيب والده : الحمد لله . ماكان نبيل يتأخر عن الحضور إلى البيت بعد انهاء عمله ،وكانت زوجته في غاية السعادة على ماتجد من زوجها وأهله من المودة والتقدير ، وهي لاتقصر في أداء الكثير من مهمات العمل داخل البيت ، ويدها بيد عمتها أم نبيل في الطبخ وفي نظافة المنزل وفي إنجاز كل مايحتاجه أفراد الأسرة على مدار اليوم .

اليوم يوم جمعة عطلة جميع أفراد الأسرة ، اقترح الأبناء على الوالد أن يذهبوا في رحلة إلى دار خالهم الكائنة في قرية قريبة من المدينة ، وتمت الموافقة ، وأعدوا العدة لهذه الرحلة الجميلة ، والتي اعتادوا على القيام بها كل فترة . وصلت الأسرة إلى مزرعة واسعة ، وولجوا من بابها الكبير بالسيارة التي أقلتهم ، وترجلوا حيث وجدوا الخال الكريم وزوجته المباركة وبعض أولاد الخال في استقبالهم ، ومشوا جميعا إلى صالة كبيرة في صدر البستان ، فُرشَتْ بالسجاد وبالوسائد ، وجلسوا فرحين بهذه الزيارة  التي تخللتها الأحاديث الودية ، وليقضوا نهارهم تحت الأشجار المثمرة ، وحول سواقي المياه التي تنساب تسقي الزرع ، وراح الأولاد يجمعون بعض الفاكهة ، ويضعونها في سلة خاصة لهذه الغاية ، ثم انطلقوا هنا وهناك يمرحون ويسرحون ...

حان وقت الغداء الذي أعدته زوجة الخال وأم نبيل مع بعض بناتهما ، وأعدوا ( السُّفرة ) في الصالة ، وقالت زوجة الخال لزوجها : الغذاء جاهز . ففاجأها زوجها بأن يضعوا طعام النساء في الغرقة المجاورة ، لأن ضيفا سوف يحضر الآن ويتناول طعام الغداء معنا . لبَّت الزوجة ما وجه به زوجها ، وهم بانتظار حضور الضيف الذي لم يتأخر ، وحيث استقبله الخال وأبو نبيل ونبيل عند باب المزرعة ، ودخلوا جميعا إلى الصالة محمولا على عبارات الترحيب ، واستراحوا قليلا ، وقام الخال ونبيل وأحضرا الطعام ، ورحب الخال بالجميع قائلا : حياكم الله ويامرحبا ، تفضلوا على بركة الله : بسم الله الرحمن الرحيم ...أكلوا ، شبعوا من طعام لذيذ ، حمدوا الله على نعمه وفضله ، أُعدَّت الصالة من جديد ، وجيء بالفاكهة ثم الشاي ، وكانت جلسة ممتعة بين الأهل والأحباب امتدت إلى صلاة العصر ، الضيف استأذن الخال ليذهب مع نبيل ليمشيا في أرجاء البستان ، وبقي الخال و والد نبيل في الصالة يتحدثان ، لمح الخال علامات اكتئاب بادية على وجه أبي نبيل ، فحاول مباسطته والاستفسار عما تغيَّر من حاله ، فقال أبو نبيل ، هذا الرجل جاءنا عدة مرات يريد نبيلا ، وكانا يذهبان ثم يعود نبيل متأخرا في بعض الأيام إلى آخر الليل ، قال الخال : ألم تسألْهُ : أين ذهب ، وما علاقته بهذا الرجل ، فأنا تعرفت عليه عن طريق ابنك نبيل ، وعرض علي مرة رغبته في شراء البستان ، ولكن ما كنت لأبيع البستان رغم أنه زارني عدة مرات متتاليات لهذا الغرض . وهو من الأغنياء المعروفين ، قال أبو نبيل : إلى هنا والأمر عادي ولا يدعو للقلق ، ولكن الصورة التي بدت عليه وعلى ولدي حين قاما الآن أكَّدت ظني بأن الأمر فيه مافيه !!!

وأنا والله قلق من هذه الصداقة بينهما .

كان ظنُّ أبي نبيل في مكانه ، وكما قيل : ( اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله ) . أنهى الضيف مشواره مع نبيل بعد أكثر من نصف ساعة ، وعادا إلى الصالة وأمارات السرور بادية على وجهيهما . أمضيا بعض الوقت ، ثم استأذن الضيف بالانصراف ، وألقى تحية الوداع وخرج ممتطيا سيارته الفارهة ... وعادت أسرة أبي نبيل إلى منزلهما ‘ ليُطرق باب دارهم باكرا في صباح اليوم التالي ، خرج أبو نبيل وفتح الباب وإذا بضيف الأمس يلقي عليه تحية الصباح ، ويطلب نبيلا . قال أبو نبيل : إنه يذهب إلى عمله مبكرا ، وأظنه قد خرج منذ ساعة ، وإذا بنبيل يخرج من غرقته ، مرحبا بالضيف ، ومودعا لوالده ، ليرافق الضيف إلى مكان يجهله الوالد ، ويبقى الوالد في حيرة من الأمر ، نبيل لم يذهب إلى عمله كعادته ، كان ينتظر قدوم هذا الرجل الذي رافقه ، ولكن إلى أين ؟  لم يرجع نبيل إلى البيت ، قلقت على غيبته الأسرة ، سأل الوالد قريبهم صاحب المصنع فأخبره بأن نبيلا لم يحضر اليوم ، واتصل بالخال صاحب البستان يخبره بما كان ، فأصيب الخال بالصدمة ،وراح الوالد يسأل هنا وهناك ، واضطر للذهاب إلى المستشفى ثم إلى مركز للشرطة يسأل عن ولده ، فربما ... وربما . فتفاجأ الوالد المكلوم بأن ولده مع فلان ( ضيف أمس ) موقوفان للتحقيق في قضية التجارة بالمخدرات . ذُهل الوالد وكاد أن يقع على الأرض لهول الصدمة ، واستطاع بعد بضعة أيام من مقابلة ولده بعد أن حُكِم عليه بالسجن . ولزميله ( ضيف البستان ) ضعف المدة لأنه العنصر الرئيس في الجريمة وهو صاحب المال . 

عاد أبو نبيل إلى البيت ، وكانت الأسرة قد ذاقت مرارة الصدمة الأولى ، فأخبرهم الوالد بأن الحكم قد صدر بسجن ولدهم مع مَن استدرجه للعمل معه في تجارة المخدرات . وتمضي الليالي طويلة ثقيلة على أم نبيل ، وعلى زوجته ، وعلى بقية أفراد الأسرة ، ويمتدالأسى إلى قلوب الأقارب والأصدقاء ، ويالها من مصيبة ، وياله من ابتلاء ؟ ومع مرور الأيام يخف أثر الصدمة ، ويتدرع الأهل بالصبر ، ويسألون الله الفرج وقبول توبة نبيل ، وتمضي الأيام ، وكانت زوجة نبيل حاملا ،وكانوا يتجمعون حول التنور لتناول طعام الإفطار ، ولكن ينغص عليهم فرحتهم غيابُ نبيل ، كانوا يزورونه في السجن ، ويتحدثون معه وهو يشعر بالخجل منهم ، ويبرر جريمته بأنه يريد أن يشتري لهم بستانا وارف الظلال ، ويمتلك سيارة فارهة تقلهم إلى أي مكان يريدون ولكن ...ولا تستطيع الأم أن تحبس دموعها السخينة على حال ولدها ، وكانت الزوجة كذلك تخقي أدمعها في ابتسامة وضيئة حزينة ، معزية إياه بمجيء المولود الذي يأتي معه الفرج والخلاص إن شاء الله .وأما نبيل فقد وجد في السجن رجلا سُجن لحسن سجاياه ، وكان يدعو للمعروف وللخير وينهى  عن  المنكرات ، وقد سُجن لأنه أنكر بعض المنكرات على مَن اقترفوهـا ، وكانا يلتقيان معظم ساعات اليوم ، فهدى الله نبيلا على يد هذا الشيخ الجليل وتاب وعاهد الله على اجتناب جميع الموبقات والمحرمات . وتمر الليالي رغم بطءِ سيرها وتنقضى الأيام والشهور ، ويزداد نبيل إيمانا وعلما وإشراقا في قلبه ، ورب ضارة نافعة لقد كان له السجن باب فتح جديد على الحياة الطاهرة السامية .

وما زالت الأسرة تجتمع حول التَّنُّور ، تتناول طعام الفطور ، ولا زالت أنفس أفرادها تتطلع إلى مشاركة نبيل طعام الإفطار الذي سيكون أشهى وأكثر لذة بحضوره . وأشرق صباح يوم الجمعة ، وبعد أن صلى أبو نبيل صلاة الفجر في مسجد الحي كعادته كلَّ يوم ، ورجع إلى بيته وجد زوجته تحضر العجين  ، وتوقد التنور استعدادا لخبزه ،كما وجد زوجة ابنه نبيل معها تشاركها جهودهـا . وأشرقت الشمس ، واكتمل اجتماع الأسرة حول ( سُفرة ) عامرة بمأكولات الصباح اللذيذة ، وإذا بالباب يُطرق ، فانطلق الابن الأصغر نحو الباب ففتحه ، وإذْ بــه يصرخ بصوت عالٍ : نبيل نبيل نبيل أجل خرج نبيل من السجن ، وعاد إلى أهله ، احتضنوه ـ قبَّلوه ، سالت دموع الفرح ، وانطلقت الألسنة تحمد الله وتثني عليه ، كانوا جميعا واقفين يحيطون بغائبهم العائد ، قال نبيل اجلسوا إلى طعام إفطاركم حول هذا التنور المبارك ، فوالله إنها لجلسةُ فيها سعادة العمر التي لايجدها غني في بستان ولا في سيارة فارهة ...  هنا خبز هذا التنور ، ولذة هذا الجبن والزعتر ، وشوربة العدس من يد أم نبيل خيرٌ من كل ما كنت أسعى لتأمينه لكم من متاع الحياة . سامحوني ، سامحوني ، سامحوني .

وسوم: العدد 885