ضياع

نسرين صالح جرار

توقفت الحافلة فجأة، وأعلن سائقها أن الرحلة طويلة؛ لذا قررنا أخذ قسط من الراحة في هذه الاستراحة، واستأنف قائلا لا تتجاوزوا حدود هذه الباحة، تناولوا  ما تحتاجون إليه من طعام وشراب في هذا المكان، وخلال  ساعة من الزمان عليكم العودة للحافلة كي نواصل الرحلة بأمان.

   كان نبض قلبها كطبول تقرع في جوف ليل ساكنٍ بَهيم، عبث الهواء بخصلات شعرها التي تراكضت خلفها وكأنها تسابقها وهي تجري في كل اتجاه، و تخلى شالها القرمزي عن كتفيها وطار محلقا في الهواء، روت دموعها وجنتيها بعد أن بحثت في كل اتجاه ولم تجد الحافلة ولا الركاب، كيف غلبها الكرى وأطبق جفنيها حين استظلت بشجرة الجميز؟

لقد انطلق الرفاق ونسوها مستسلمة للنوم في هذا المكان المنقطع.....

    في طرف الباحة الكبيرة لمحت مدخل نفق ضيق بعرض كتفي رجل، يخترق الجبل الذي يلتف حوله الطريق التي سلكتها الحافلة، وفي آخر النفق بقعة ضوء، مما يدل على فتحته المقابلة التي لا تبعد عن بابه سوى بضع مئات من الأمتار.

ققرت أن تقتحم النفق علها تصل جانب الجبل الآخر وتجد الحافلة.

فأطلقت للريح ساقيها، وتعلقت حدقاتها ببقعة الضوء، فهي المخرج من قلب هذا الضيق،  وفي عمق هذا النفق لم تكن تسمع سوى صدى لهاثها، ودويّ نبضات قلبها، ووقع أقدامها،.... وازداد النفق حُلكة... لكن أملها متعلق ببقعة الضوء التي تراءت لها آخر النفق، جف حلقها وشقق العطش شفاهها... وظلت تجري إلى أن وصلت بقعة دائرية مظلمة موحشة، وفي حر المكان وحلكته ذابت كل آمالها كما يذوب جبلٍ جليدي ضخم، وتصبب العرق من كل جسمها كأنه شلال.... لقد كانت بقعة الضوء مجرد مرآة عكست الضوء... ولم تكن المخرج...

قررت العودة إلى الباحة التي قدمت منها، فالعتمة ليست كالنور، والسعة أفضل من الضيق، ولعل نسمات الهواء هناك تدخل رئتيها ويتدفق الأوكسجين إلى دماغها جيدا فتستطيع التفكير والوصول إلى حل.. 

تلفتت حولها حتى ترى نور المدخل وتتمسك بأشعته لتهديها الطريق... وكانت المفاجأة حين رأت نفسها في مركز دائرة نهايات كل أقطارها بقع ضوء صغيرة... فأين المخرج الحقيقي؟ وهل هي وهم وسراب أم هي مخارج متعددة من قلب الضيق..!

بدأ اليأس يتسلل إلى قلبها، وصارت معاوله تهدم كل أمل فيها... فأي الطرق هي المنجية؟

وبدأت رحلة المحاولة، وتعلقت بإحدى بقع الضوء التي ظنتها قشة النجاة، وصارت تركض من جديد باتجاه النورِ... ظلت كذلك حتى وصلتها فإذا هي مرآة أخرى تعكس مرارتها وسوء حالها، ودب الرعب في أوصالها... لكنها مالبثت أن أعادت المحاولة من جديد.... فجرت نحو بقعة ضوء علّ فيها الأمل هذه المرة..... لكنه السراب في كل مرة.. ... لم تعد تدري أين المخرج وإلى أين المآل...  

ووسط كل هذا البؤس ومرراة الحال، أحست بيد تربت على كتفها ففتحت عينيها فإذا هي امرأة عجوز توقظها قائلة :هيا يا ابنتي سنستأنف الرحلة، يبدو أن نسمات الهواء العليلة جعلتك تغفين تحت شجرة الجميز...

وسوم: العدد887