لا. لا . كورونا

محمد أبو كويك

كعادته انتفض من فراشه فزِعاً، فَرَك عينيه بيديه الصغيرتين، أبصر حوله في أرجاء الغرفة لم يجدها، صرخ باكيا، نهض على قدميه، تقدم بخطوات متأرجحة لها صوت كصوت المطرقة حتى وصل إلى سريرها، ألقى بنفسه عليها وارتمى في حضنها، والتصق بها شَعَر بالاطمئنان وغطّ في نوم عميق.

يهمس الزوج في أذنيها بصوت خافت حتى لا يفقده الطمأنينة التي هرول باحثا عنها.

تفزع من نومها تلتفت يمنة ويسرة ، تضع يدها تحت الوسادة فلا تجدها، تفتش في درج السرير فلا تعثر عليها، تعاود البحث مرة أخرى تحت الوسادة فتدركها، وعلى عجلة من أمرها وقبل أن تفرك عينيها الذابلتين ترتدي الكمامة، تلملم نفسها وتستجمع عقلها، ويطير النوم من عينيها، تحاول جاهدة ابعاده عنها فلا تستطيع كأنه وضع مادة صمغية بينه وبينها حتى لا ينفك عنها.

وتبدأ معركة جديدة بينها وبين النوم الذي غالبا ما ينتصر عليها تقاوم بقدر استطاعتها حتى تختلس منه سويعات قليلة.

عندما يتأكد الأب أن الطفل قد سبح في نوم عميق، يضع شيئا من الكحول على يديه، ويتفحص كمامته التي باتت جزءا منه ولا تفارقه صباحا أو مساء بأنها تغطي أنفه وفمه بشكل جيد، ثم يتقدم نحوه خِلسة ويطير به إلى الغرفة المجاورة.

لا وقت محدد لشروق الشمس، ولم يعد أحدهم يعرف ليلا من نهار، ولا شتاء من صيف، ولا ربيعا من خريف، ولا سبتا من خميس، تغيرت تفاصيل الحياة وانقلبت رأسا على عقب حتى الساعة التي تدور من اليمين إلى اليسار أصبحت تدور من اليسار إلى اليمين.

ليته اكتفى بواحد منهم هذا الوباء، لكنه أصاب أبا وأما وبنتا وترك ثلاثة من الأولاد، أكبرهم لا يتجاوز العشر سنوات وأصغرهم لم يطوي عامه الثالث بعد.

الألم الجسدي لا معنى له أمام طفل يفتح ذراعيه وينطلق كالبرق ليحتضن أباه وأمه، فيصدانه عنهما، فيصاب بوباء الحسرة والانكسار، تجعل كل من يتفكر في هذا المشهد يعرف ما هو معنى الألم.

هو تعود دائما على أن يطبع قبلته البريئة على خد والده ووالدته، ويبادلانه نفس الشعور لكن نظام الكون تغير، ينادي الأب على ابنه قائلا : بني امنحني قبلة الحياة التي عودتني عليها.

بصوته الطفولي مبتسما تارة وضاحكا تارة أخرى : لا. لا. كرونا .

فيعاود الطلب منه مرة أخرى، عله يتذكر الدفء والحنان الذي كانا يمنحانه لبعضهما قبل أن يصيبهم هذا الوباء، فعندما تيقن الطفل أن والده لم يفهم اللغة التي أجابه بها، فيجيبه مرة ثانيةً ولكن بلغة أخرى هي الإنجليزية : No, No, Corona

فتختلط مشاعر الاعجاب بالضحك بالبكاء بالأمل والألم، وبينما هو في هذا الحال إذا بطبول الحرب تُقرع، ويشتعل فتيل المعركة، ويشتبك الطرفان اللذان لم يراعيا تواجد الوسطاء بالقرب منهما، ولم يحترما اتفاقيات دولية أو محلية، حتى تلك المعاهدة التي تم اقناعهما بها والتي لن تتجاوز الأربعة عشر يوما وتنص بألا يعتدي أي طرف على الآخر، وأن يلتزم كل طرف بحدوده، وأن يتركا مسافة فاصلة مترا أو مترين بينهما، وألا يلمس أحدهما مقتنيات الآخر لم يحترماها.

يتوجه الأب سريعا إلى الغرفة المجاورة ليُبصر ما حدث، فيجدها مقلوبة رأسا على عقب، لم يبق شيئا في مكانه ولا شيء إلا في غير مكانه، يتدخل كونه أحد الوسطاء يفرقهما عن بعض يهدئ من روعهما.

يحاورهما ويصغى إليهما، يعلو صوتهما تارة ويهدأ أخرى، يحاول إقناع الطرفين بأنه عليهما ألا يتشابكا مرة أخرى حتى لا تنتقل العدوى من الطفلة المصابة إلى الطفل السليم، ولكن يتشبث كل طرف بموقفه ويرفض التنازل والتوقيع على ورقة صلح لمدة أسبوعين فقط.

فقط أسبوعين وبعدها عودا لحربكما وصلحكما وافعلا ما شئتما، يخطب فيهما واعظا وناصحا وموجها : ألستما أخوة؟ ألستما توأم؟ ألستما روحا في جسدين؟ فيتذكران اللحظات الجميلة التي قضياها في بطن أمهما سويا، فيقتنعان بأن يلتزما باتفاقية الصلح ويمضون بعدها الوقت بين نقض وصلح.

على الجانب الآخر تضع الأم المصابة الكحول على يديها، تفركهما جيدا، تُطهّرهما، وزيادة في التأكيد تغسلهما بالماء والصابون، تمسحهما بورق جاف، تلبس كمامتها، وتشرع في إعداد الطعام لأفراد أسرتها جميعا المصابين والغير مصابين، وتعد سفرتين منفصلتين بمكانين مختلفين، وتكلف ابنها الذي لم يتجاوز العشر سنوات بمهمة الاهتمام بأخويه، وأن يملأ معدة أخيه الصغير بالطعام والشراب.

ينظر أحدهم من النافذة، ينتظرُ سطوع الشمس بعد أن غابت خمسةٌ وعشرون يوما، لكنها لم تشرق بعد أو أن الغيوم قد سرقت أشعتها، متى ستشرق الشمس وتنشر أشعتها في هذا الكون وتعطيه الدفء والأمان؟ هل ستشرق الشمس من جديد؟ وتدور عقارب الساعة من اليمين إلى اليسار كسابق عهدها؟.

وسوم: العدد 907