لآ للإشاعة

إيمان قاسم

ليس بمقدورنا الالتفات إلى الوراء دائما ، إلا إذا باغتنا الحنين   ،  ومرَّت أطياف الأماكن التي سكنها آخرون ، فأصبحت خاوية بعد رحيلهم ، ومَن وافاها فإنه يشعر بالرهبة والوحشة ، وربما انهمرت عيناه لسبب أو لآخر . فالذكريات في هذا المطاف متنوعة متعددة وذات أثر  فاعل في النفس . لن أفيض في السرد عمَّا حدَّثتني به صديقتي عفراء عن ذكرى خاصة بها ، ولكنني أقتطف ملامح تلك المشاهد التي كانت أكثر من رائعة لدى صديقتي هذه ، فغياب مَن عاشت معه أجمل أيام عمرها ... هاهو قد غاب ،  وغيابه جعلها تشعر بمعاني تلك الكلمات بغير معاني ماجاء في المعجم ، الآن  باتت تشكل لها شيئا من الألم ، فكم تمثل لها الصباح حين لم يحمل لها بحة صوته : (صباح الخير يا... ) ، وهي تحمل له فنجان قهوة ربما كان باردا ،  فيضمه بيديه فيسخن ، فيعبق المكان بنشوة كلمات أخرى جميلة رائقة ، إنها الحياة التي باركها الله منذ أن خلق آدم عليه السلام  وأكرمه بزوجته حواء . فكانت المودة والرحمة التي ذكرهما الله في كتابه الكريم لها أثرها في نفس الزوجة : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) 30/ الروم . ولربما كانت عفراء تدعو ربَّها أن تجعل النهايات أقل قسوة ولتمنح وجعها الكثير من الصبر الجميل . وإنه الشهر الأخير من سنة كئيبة لم تحمل في طيّاتها إلاّ عثرات متتالية وانكسارات وخذلان . لا بأس فلا بد لذاك الغد الذي ننتظره أن يأتِي ولو بعد حين ، تقول عفراء : أجهشُ بالبكاء كلما لاحت بمخيلتي ذكريات جمعتني بزوجي البار لسنوات طويلة ، فأجلس بين صغاري أداري طفولتهم ولا أريد أن أحرمهم من تلك الابتسامات ، ولا من تلك العبارات التي أشعر بأنهم يتلقونها كحلوى لذيذة يفرح بها الأطفال . كان سبب غيابه العمل خارج قطرنا طلبا لحياة أفضل ، وقد مضت بضعة أشهر إليَّ وسيقت إليَّ الأخبار بأنه يريد الزواج هناك ، وقد بدأت الأخرى تخطط لحياتها الجديدة معه ، وعلى ما يبدو ترك أثرا داخلها لم تستطع محوه  ، تقول عفراء : إنها كانت تستقبل تلك الأخبار على أنها مجرد إشاعات يصوغها الحسد والحقد عند بعض الناس من حولنا ، وتردف قائلة : كنت أتملص من دائرة الحزن إلى أفق أجد فيه السلوى والطمأنينة ،  وقد بقي ظلّ زوجي في عيني يشعرني بالطمأنينة  ، وكأنني أراه كما هو لم تبهت ملامحه ، ولم تشحب وجنتاه على اثر غيابه الذي طال . لازلت أنتظر الفرج من ربي سبحانه وتعالى ، وأسأله بعد كل صلاة أن يجمعني به مع أطفالنا ، لازلت أرجو ساعة وصوله إلى باب دارنا التي تتلهف إلى لقياه . هي هكذا كانت تتحدث ، وقليلا ماتذكر تلك الإشاعة التي تتلقفها القريبات من أرحامها  أو الجارات على اختلاف مشاعرهن وهن يتناقلن الخبر . الأمر فيه غموض والاتصال فيه صعوبة وإن حصل فليس فيه مايشفي الغليل إلا من عبارات اعتاد الناس النطق بها بمثل هذه المناسبة .

كان والداه  يخففان عنها وطأة مايصيب المرأة إذا تزوج زوجها امرأة ثانية ويعللان ذلك بأن الله أباح تعدد الزوجات ، وكانت تجيب بأن زواجه من ثانية من حقه حتى ولو لم يكن من أسباب ، فما بيننا ولله الحمد على مايرام في حياتنا الزوجية ، ولكن أن يقدم على هذا إن فعل فهو استخفاف بي . فيرد عليها الوالد الحكيم : يابنتي ربما كانت مجرد إشاعة من بعض مَن يحسدنك من الجارات أو حتى من القريبات ، وأرى أن تصبري ولا بد من حضوره إن شاء الله . ويخرج الوالدان إلى بيتهما المجاور لبيت ابنهما ، وتبقى عفراء مع أولادها ، ومع ذكرياتها ، وكانت إحدى جاراتها على موعد مع إقامة حفل لولدها الذي تخرج من الجامعة ، وقد دعت الأقارب  وجميع الجارات ،  ومنهن عفراء التي لبَّت دعوتها ، واشترت لها هدية ثمينة بهذه المناسبة . وبدأ الحفل ، وبدأت النساء الحاضرات يتناولن الحلوى ، التي أعدتها صاحبة المناسبة ، ومن خلال الجلبة وتداخل أصوات الحاضرات ، جاء صوت إحدى قريبات عفراء تنادى بفرح وبهجة باديتين عليها : عفراء ... عفراء ... وصل زوجك ... هيَّا ... هيَّا ، نزل الصوت على عفراء وكأنه غيمة  أفرغت كلَّ ودقها دفعة واحدة ، ولوقع المفاجأة ماكانت لتستطيع القيام من الكرسي التي تجلس عليه إلا بمساعدة تلك القريبة الوفية المخلصة ، واقتادتها إلى بيت زوجها الذي ينتظرها بكل المودة والرحمة والشوق ، وهب مستقبلا زوجته وأولاده بعد غياب تسعة أشهر ، وجاء والداه فاحتضنهما وقبَّل أياديهما ، وجلست الأسرة الكبيرة تتجاذب أطراف الحديث ، قالت أمه وهي تبتسم  : أين زوجتك الثانية ياولدي ؟ فأجابها الأولى والثانية والثالثة والرابعة ها هي بين أياديكم ، وهل عندي غير عفراء !

في تلك اللحظات خرج النساء اللواتي حضرن الحفل ، وهن يتحدثن عما أصاب صاحبة الحفل ، فوقعت على الأرض مغشيا عليها ، ونُقلت إلى المستشفى للعلاج ، ولمعرفة سبب هذه الصدمة القاسية يوم فرح ولدها . همست أم زوج عفراء في أذن عفراء قائلة : لم تتحمل وقع الصدمة بحضور زوجك من غير زوجة ثانية ، فهي التي أخبرت بقية الجارات بهذه الإشاعة الكاذبة . ولله در الحسد ما أعدله ، بدأ بصاحبه فقتله .

وسوم: العدد 909