مَجْــــد

إيمان قاسم

نظر مجد للرجل الذي اقترب نحوه مندهشا ، فلم يشاهد على مرّ  ست سنوات عجاف قضاها داخل الزنزانة مع والدته رجلا بزيّ مدني! ابتسم الرجل لمجد وربت على رأسه ، وسأله الرجل الغريب : ما اسمك  ؟ قال : مجد . قال الرجل : اسم جميل . أجاب مجد : أخبرتني أمي أن والدي يحمل نفس الاسم.  وصمت مجدٌ قليلا ، ثم قال : أنا أنتظر الوقت الذي تحدّثني عنه أمي دائما لأخرج من هذه الزنزانة وألتقي والدي . سأله الرجل : هل تشتاق إليه؟ أجاب مجد: لستُ أعرفه إلاّ من خلال الصور التي ترسمها لي أمي بمخيلتي تصفه لي فأتخيله كما ترسم أمي وتقول .

ابتسم الرجل لحديث مجد . وقال:ذات يوم ستشرق شمس الأمل لتملأ حياتك نورا يُبدد ظلام هذه الزنزانة . وتلتقي بأبيك ــ إن شاء الله ــ  الذي لابد أنه متشوّق للقائك كثيرا . اندهش مجد من حديث الرجل وقال: شمس!!! أمي ترسمها لي على الجدار هكذا بيدهـا ، وترسم لي بعض الأشياء أيضا وتقول لي سوف تراهـا . فغر الرجل فاه متعجبا ،وسأل مجدا  ألم تر الشمس يابني؟! أجاب مجد :تعال وانظر هنا ... أمسك مجد يد الرجل داخل الزنزانة المعتمة ، ونظر إلى الجدار الذي رُسم عليه رسومات عديدة

قال مجد:انظر هذه الشمس أمي تقول إن لونها أصفر ، ولكن أنا لا أعرف ماذا تعني باللون الأصفر هي أخبرتني أنه لون قشرة الموز ، ولون قشرة الليمون ، ولكنّي أيضا لا لم أرَ الموز ولا الليمون. أمي رسمت هنا شكل كل منهما ، وأنا أحاول أن أتخيّل اللون الأصفر . تقول أمي إن الشجرة مثبتة في الأرض (وأشار مجد إلى الأرض بإصبعه) وإن أغصانها ترتفع نحو السماء ... والسماء لونها أزرق ، وأوراق الأشجار لونها أخضر ، يتحدث مجد ببراءة جذابة ، ويبتسم ببراءة يعلوها اصفرار خديه الذابلين ، كاصفرار  قشر الموز أو سطح الليمون . ويتابع مجد حديثه الساحر البريء من كل التشوهات التي تغشى حديث المتنطعين والأفاكين ، وما زال منطلقا في حديثه الممتع وهو يقول :

وأنا أعرف ألوانا أخرى كاللون الأحمر أمي أخبرتني حين جُرحتْ  يدُها وخرج منها سائل أخبرتني أن الأحمر لونه كلون هذا السائل . ازداد اندهاش الرجل من حديث مجد ابن هذه السنوات ، وقد انجبته أمه داخل هذه الزنزانة بعد أن دخلتها بلا سبب وجيه ، ونظر مجد إلى أمه حيث تشير نظرته إليها بأنها هي التي علمته شكل الشمس واللون الأصفر والأحمر ، والتفت الرجل الغريب إلى أم مجد فإذا عيناهـا تذرفان دمعا سخينا ، ولسانها يتحرك بكلمات غير مسموعة وهي تنظر إلى أعلى ، ليس إلى سقف الزنزانة ، ولكن إلى أبعد منه بكثير .

      اغرورقت عينا الرجل بالدموع وهو يراقب طريقة حديث الطفل الذي لم يتعرّف على أبسط مافي الحياة من مشاهد ، لم يشاهد شمس هذه الدنيا ولا نورها ، ولا النعم التي خلقها الله لينعم به الناس ، ولا الحدائق الغناء المبهجة التي يلهو في أفياء أشجارها الأطفال ، مجد لم يــر سوى هذه العتمة الحالكة التي يغرق بها منذ ولادته مع أمه ، ولايعرف شيئا من صخب الحياة الذي يصنعه الأطفال في شوارع المدن ، ولم يأنس مع زملاء له في المدارس ، ولم يذهب برفقة أبيه إلى الأسواق ... وقف الرجل الزائر على رجليه وكأنه يحمل أثقال الأرض على كتفيه ، وحمل مجدا بين ذراعيه ، وما زالت عيناه تذرفا من دمعها ، وقال يامجد انتهت مدة زيارتي الخاصة جدا لكما ، وأعد بأنني سأحمل شكواكما على كفِّ مشاعري التي تتوهج اليوم كما تتوهج الشمس التي ستراها غــدا بإذن الله تعالى ثم حيَّاهما وخرج وهو يتكئُ بيده اليمنى على جدران الممر الطويل لسجن الأبرياء .           

    خرج مثقلا بالهم ، يغشى وجهه الأسى ، تأكل سعادته الآهات والحسرات ، ليجد مَن أوصله إلى السجن بانتظاره في سيارته حول الرصيف القريب من بوابة السجن ، حيث فاجأه بأن اجتماع الندوة المقرر أن يحضره قد بدأ ، فالساعة الآن تشير إلى الحادية عشرة ، استجمع الرجل قواه ، وقال لصاحبه : تأخرت رغما عني ، فقد رأيت بعيني وسمعت بأذني مالم أسمعه من قبل . سأحدثك فيما بعد ، أما الآن فأسرع لندرك الاجتماع ...

دخل قاعة الندوة التي عُقدت منذ نصف ساعة ، و أحد المتكلمين مازال على منبر القاعة وما أن أتم كلمته حتى قدَّم مدير الندوة  الرجل الذي كان في زيارة للسجن ، صعد الرجل إلى المنصة ، وجلس على الكرسي ، وألقى التحية على الحاضرين ــــ ولكن شكله وصوته يختلفان عن شكله وصوته قبل ذهابه إلى السجن ــــ وقال أيها الإخوة المجتمون في هذه القاعة التي تتلألأ فيها الأنوار ، وترون من نوافذها الجميلة نور الشمس ، جئتكم من زنزانة مظلمة لم يشاهد سكانها ماتشاهدون ، رأيت طفلا لم يتجاوز السادسة من عمره لم ير الشمس ، ولا يعرف اللون الأصفر ولا الأحمر وهو في أحضان أم بريئة جاءها المخاض وهي في الزنزانة ، وولدت فيها ... ثم أجهش بالبكاء ، وبدا عليه التأثر الذي يفت في الأكباد ، فجاشت عيون الحاضرين بالبكاء  ، ولم يستطع إتمام حديثه ، فأخذ مدير الندوة لاقط الصوت ، وقال : أيها الإخوة أظن أنكم استوعبتم كامل القصة ، وأما الآن فترفع الجلسة !!!

وسوم: العدد 916