وعد المدينة

د. سامي الكيلاني

استيقظ من النوم، دفع اللحاف بقدمه وبقي لوقت قصير مستلقياً على ظهره فوق الفرشة الرقيقة يحاول بعينيه أن يتفقد جو البيت. أجال نظره في السقف الخشبي، ثم انتقل إلى الشباك الشرقي الذي تتسلل من فتحته المواربة أشعة الشمس، ثم نهض وفتح النملية* الموضوعة في الزاوية الشمالية وتفحص ما فيها، لم يعجبه أي شيء. لا أحد غيره في البيت، شعر أنه قد تأخر في النوم، فاتجه نحو الباب ووقف على العتبة يتأمل الساحة الفارغة. نادى بأعلى صوته على أمه، جاءه صوتها من الحاكورة خلف البيت، وقالت إنها قادمة حالاً.

حين وصلته، سألها عن والده، قالت له إنه قد ذهب إلى المدينة ليستصدر له شهادة ميلاد، وحضنته "عشان تروح ع المدرسة، صرت كبير"، وأضافت "تعال غسّل عشان تفطر". غضب غضباً شديداً، ثار، بكى، عاتب، وتساءل بحرقة لماذا لم يأخذه معه، فقد وعده أن يأخذه إلى المدينة هذه المرة. ذكّرها بأن الوالد قد وعده في المرة السابقة أن يأخذه إلى المدينة حين طلب منه أن يذهب معه، لقد قال له بشكل واضح أنه سيأخذه معه في المرة القادمة، وأكد له أن هناك مرة قادمة قريباً. قال له الوالد يومها بأنهما سيذهبان معاً حين يذهب للحصول على شهادة ميلاد له. بكى بشدة، حاولت أمه مراضاته، أعطته قرشاً، سكت وأظهر رضاه، لكنه كان قد أعد خطته للرد على ما حصل، لقد اتخذ قراره: سيذهب إلى المدينة مهما حصل.

ترك البيت، ما دام الوالد قد أخلف وعده فإن الذهاب إلى المدينة بمفرده هو الرد، قرر اللحاق به إلى المدينة، وأقنع نفسه بالخطة، إن استمر بالسير نحو الشرق سيصل المدينة. خرج من البيت دون أن يخبر والدته التي تركته وذهبت للانشغال بشيء ما داخل البيت. بعد مغادرته البيت فكّر أن يعرج على دكان الحي ليشتري شيئاً بالقرش الذي حظي به، لكنه غيّر رأيه، فالأفضل أن يشتري به "هريسة" من المدينة، فما زال يتذكر طعمها حين رافق العائلة إلى المدينة في مرة سابقة. غادر الحي مسرعاً باتجاه وسط القرية، وصل موقف السيارات التي تنقل الركاب إلى المدينة، تمنى لو يملك الأجرة ليسافر راكباً، ورغم أنه لا يملك الأجرة، سرح في خياله كيف يمكن أن يقنع السائق بأنه سيلحق بوالده إلى المدينة إن رفض السائق قبوله راكباً دون شخص كبير يرافقه، رتّب أجوبة مقنعة ليرد بها على السائق، فقط لو كان يمتلك الأجرة لفعل ذلك. أكمل طريقه باتجاه المدخل الشرقي للقرية مصمماً على أن ينفذ ما قرره: الوصول إلى المدينة مشياً.

سلك الشارع الإسفلتي المعبد المتعرج الذي يخترق الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون، سار بحذر على جانب الشارع مقترباً من الأشجار قدر الإمكان، مستظلاً بالظل الذي تلقيه الأغصان القريبة ليحمي نفسه من حرارة الشمس التي بدأت تشتد. عندما شاهد عدداً من العمال قادمين من الجهة المقابلة لم ينظر باتجاههم، خشي أن يسألوه لماذا يسير وحيداً هنا.

انتهى جزء الطريق الذي تحيط به أشجار الزيتون، وابتدأ الشارع يخترق السهل الممتد لمسافة طويلة، افتقد الظلال التي كانت تطرحها أشجار الزيتون، مسح قطرات عرق تجمعت على جبهته، وحدق في الجزء الظاهر من الطريق قبل أن ينعطف الشارع ليخترق مجدداً أراضٍ مشجرة بالزيتون، تضاعف شعوره بالمسافة الظاهرة لافتقاده الظل، ولكنه استمر في السير عندما تذكر وعد المدينة الذي ضاع.

كلما مضى في الطريق وتعمّق في السير شرقاً وزاد بعداً عن القرية تزايد الخوف والشك عنده وبرزت أسئلة لم يفكر بها عندما بدأ رحلته "هل سيلتقي بوالده، كيف سيلتقي به في هذه المدينة الواسعة؟" أجاب نفسه ليعزز تصميمه على تنفيذ خطته "سأسأل الناس عن مكان شهادات الميلاد"، ثم غزاه شك أكبر، ولكن المدينة بعيدة، إن لم يجد والده، كيف سيعود؟ تباطأت خطواته، لكنه قرر الاستمرار نكاية بالوعد الذي لم يتم الوفاء به. أصبح أكثر بعداً عن القرية، وجد نفسه في نهاية الطريق الذي يخترق السهل، ويقترب من بداية الجزء الذي سيخترق الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون. خوف مضاعف بدأ يغزو قلبه فأخذ يكرر النظر إلى الوراء نحو القرية. اطمئن قليلاً عندما رأى رجلاً يركب حماراً، قادماً من المنعطف القادم. توقف الرجل وسأله ماذا يفعل هنا في هذا الوقت؟ ولماذا يمشي بمفرده؟ وابن من هو؟ أجاب بأنه يلحق بأبيه إلى المدينة. قال الرجل إن المدينة بعيدة ولا يمكنه وصولها مشياً، وإن الطريق مخيف، هناك أشرار، وهناك أفاعِ. سكت منتظراً مبادرة الرجل. مدّ الرجل يده وسحبه ليركبه خلفه على الحمار. بعد مسافة بدأ الرجل يحدثه حديثاً لطيفاً، قال له بأنه يعرف أباه، وأنهما أصدقاء، وبأنه يسكن في الحي نفسه، وله حفيد بعمره، وسيدخل المدرسة مثله في السنة القادمة. شعر بالأمان وفرح بكلام الرجل ولطف حديثه، تجرأ وسأله إن كانوا قد أحضروا شهادة ميلاد لحفيده من المدينة ليدخل المدرسة، أجابه الرجل بأنهم لم يفعلوا حتى الآن، ولكن والد الصبي سيفعل ذلك قريباً. صمت، ثم سأل الرجل إن كان الأب سيأخذ ابنه معه إلى المدينة عندما يذهب من أجل ذلك، رد عليه الرجل بأنه لا يعرف وربما سيأخذه، ثم غير الحديث وسأله إن كان يستطيع العودة إلى البيت إن تركه عندما يصلون بيت الرجل، أجاب مؤكداً أنه يستطيع ذلك.

 وصلا عند بوابة كبيرة، أمر الرجل الحمار بالتوقف، ونزل ثم مد يديه وأنزله بحنان، وقال له أن يسلم على والده، تجرأ وسأل الرجل عن اسمه حتى ينقل السلام، وانطلق إلى البيت.

لم يدخل البيت عند عودته، جلس على العتبة موزعاً تفكيره بين احتجاجه الذي سيعلنه في وجه والده عندما يعود من المدينة، والسلام الذي سينقله من الرجل الطيب، والقصص التي سيرويها لأصدقائه في الحي عن رحلته في الطريق إلى المدينة التي كان سيصلها لولا ما قاله الرجل الطيب عن الأشرار والأفاعي.

*النملية: خزانة صغيرة تستعمل عادة لوضع الطعام وبعض الأغراض الأخرى.

وسوم: العدد 932