لا يثمن الشيء سوى من يعرف قيمته

أدباء الشام

قبل حوالي ثمانين سنة مضت، كانت مدينة سامراء في شمال بغداد مدينة علم.. فيها جامعة دينية كبيرة، وعلى رأس هذه الجامعة الدينية رجل دين يسمى أبو الحسن، كان من ألمع رجالات الفكر في العراق، ولديه عدد كبير من الطلاب من شتى أنحاء العالم الإسلامي.

وكان من أنبغ تلامذته تلميذ فقير الحال، ولكنه يحمل ذهنا متقداً. وكانت معيشته عن طريق راتب يأخذه من أستاذه الكبير أبو الحسن.. راتب بالكاد يقضي له طعامه ومسكنه، راتب ضئيل ولكن طموح التلميذ كان هو أن يصبح في يوم من الأيام مرجعاً كبيراً.

في يوم ظهيرةٍ وحار جداً، خرج التلميذ الفقير من الدرس، وكان جائعاً ويحمل في جبيه فلساً ونصف الفلس، وكانت الوجبة من الخبز والفجل تكلف فلسين، المهم اشترى بفلس واحد خبزة واحدة وذهب الى صاحب محل الحضروات وطلب منه باقة فجل، وقال للبائع أحمل نصف فلس فقط، رد عليه البائع ولكن الباقة بفلسٍ واحد، فرد عليه التلميذ لا شيء عندي أعطيك سوى علمي.. سوف أفيدك في مسألة فقهية معينة، فرد عليه بائع الفجل:

لو كان علمك ينفع لكسبت نصف فلس من أجل إكمال سعر باقة فجل واحدة، اذهب سود الله وجهك!

كانت صدمة للتلميذ.. فخرج من محل البائع وهو يجر أذيال الخيبة وفي رأسه الكثير من الأسئلة وهو يقول: صحيح لو كان علمي ينفع لكنت أكملت سعر باقة الفجل الواحدة نصف فلس..!؟؟ علم عشر سنين لم يأت لي بنصف فلس! كم غبي أنا.. كل عمري راح هدر على شيء لم يجلب لي نصف فلس.. والله لأترك الدرس وأبحث عن عمل يليق بي، وأقدر أن أشتري به ما أشتهي وأعيش عيشة رجل محترم.

بعد أيام افتقد الأستاذ الكبير تلميذه النجيب..

وفي قاعة الدرس سأل الطلاب: أين فلان؟ فرد عليه الطلاب أنه يعمل وترك الدرس والعلم، استغرب الأستاذ الكبير، وقال: أين بيته؟ أريد أن أذهب إليه، قالوا له: أستاذنا أنت أعظم من أن تذهب لهذا التلميذ وقد ترك الدرس بإرادتة، قال الأستاذ: لا، أريد أن أعرف ما هو سبب ترك الدرس..

المهم دل الطلاب الأستاذ على بيت الطالب. دخل عليه، خجل التلميذ من دخول أستاذه الكبير عليه، وقال: مرحباً بك استاذي، فرد عليه الأستاذ: لماذا تركت دروسك؟! فرد عليه مسرداً القصة كاملة.. مسك الأستاذ لحيتة وقال: إذاً تحتاج إلى نقود. هذا خاتمي وهو ثمين اذهب وبعه، قال التلميذ: أستاذي ليست القصة قصة خاتم ونقود، إنما أنا كرهت العلم الذي لا نفع منه.. فرد عليه الأستاذ: هذا الخاتم ليس من أجل العودة إلى درسك بل من أجل أن تفك ضيقتك.. خذه وعندما تبعه ارجع لي، ‏‪وكان الشيخ ذا حكمة بليغة، فهو الحكيم في ذلك الوقت..

المهم سار تلميذه إلى محلات الصاغة، وهناك عرض الخاتم على صائغ للبيع فاستغرب الصائغ وقال: أشتري منك الخاتم بألف دينار، ولكن من أين لك هذا الخاتم؟ قال: هو هدية لي من عند أستاذي أبو الحسن، قال: غريبة، من أين تعرفه وشكلك لا يوحي بأن تعرفه، وملابسك رثة.. أنت سارق هذا الخاتم أليس كذلك؟ رد عليه التلميذ: تعال معي من أجل أن تصدق أنه هدية من أستاذي..

ذهب الصائغ مع التلميذ، وهناك قابلا الأستاذ الكبير.. وأكد الأستاذ أن الخاتم هدية منه إلى تلميذه.. دفع الصائغ النقود إلى التليمذ وذهب، قال الأستاذ للتلميذ: إلى أين ذهبت عندما أردت بيع الخاتم؟ رد التلميذ إلى محلات الصاغة بالطبع! رد عليه الأستاذ: لماذ ذهبت إلى محلات الصاغة؟ فرد عليه التلميذ: هناك يثمنون الخواتم والمعادن الثمينة، فرد عليه الأستاذ متعجباً: فلماذا إذاً قبلت أن يثمنك بائع الخضراوت ويثمن عِلمك ويقول أن علمك لا ينفع شيئاً؟! هل يثمن البائع علمك؟! من يثمن الشيء سوى من يعرف قيمته؟ أنا أُثمنك.. أنت من أعظم تلاميذي يابني، فلا تدع من لا يعرف قيمتك يثمنك، التثمين يكون من صاحب الخبرة وممن يعرف قدرك. ارجع إلى درسك وعلمك!

 الفائدة..

كم مرة نقع ضمن تثمين خاطيء من شخص لا يعرف قيمتنا.. بسببنا أو بسبب غيرنا!

وسوم: العدد 942