أكذب من لبيب

ميسون أسدي

لا شكّ أن للكذب إغراء شديدًا ولا أحد يفلت منه! جميعنا نواجه مثل هذه المعضلات الأخلاقية طوال الوقت؛ وبما أن إغواء الكذب حولنا دائمًا، علينا أن نتّخذ القرارات الأخلاقية الصغيرة باستمرار، متى وكيف نكذب.

يعد الكذب صفة ذميمة يتحلّى بها بعض الأشخاص وتنبذها جميع الأعراف. فهو يقوم على تزييف الحقائق جزئيًّا أو كليًّا أو خلق روايات وأحداث لا صلة لها بالواقع. ولكن الكذب في قصّتنا هذه له لون وطعم آخر.

كلّ قرية ولها كذابها، في قريتنا عرف عن لبيب بأنّه سيّد الكاذبين وضُرب به المثل "أهشت من لبيب" أي "أكذب من لبيب"، وشعاره العلني كان: اكذب، اكذب، ثم اكذب حتّى يصدّقك الناس، وما زال يحمل الشعار نفسه، ويظن أنّه أذكى من جميع الناس فيروّج لهم ما يحبّون أن يستمعوا إليه من حديث، حتّى وإن حدث بعدها ما هو عكس ذلك تمامًا. ولم يشعر لبيب بعدم الرضا وتأنيب الضمير الذي يعمّنا بعدما نكذب أو يفتضح أمر كذبنا، ولا تصاحبه استجابات جسدية مثل زيادة معدّل ضربات القلب والتعرّق، بل العكس، يتصرّف بهدوء وعلى سجيّته. ولا تلحظ ظهور علامات لديه مثل العصبيّة وعدم التواصل في النظر معك أو مع أي من يتحدّث إليه، ولا تشعر أن لجسد لبيب أيّ رد فعل فسيولوجي يعارض سلك المسار الذي يشعره بالذنب، وعندما يكون هذا التفاعل غير موجود، يصبح هذا المسار أكثر إغراءً له.

يتوجه الجيران جميعًا إلى مجالسته في ديوانه يوميًّا، صيفًا وشتاءً للاستماع لقصصه التي لا تمت بصلة إلى الحقيقة وهم يعرفون ذلك، يذهبون من أجل المتعة والاستمتاع في خياله الخصب الذي لا ينضب، إلا شخصًا واحدًا، كان يقف له بالمرصاد دائمًا ويحاول إحراجه وتفنيد كلامه وهو أبو القاسم.

في إحدى الجلسات القروية أمام بيت لبيب، تجمع نفر من مريديه بقصد الاستماع إلى قصّة جديدة من قصصه الخياليّة وكان من بينهم أبو القاسم. تنحنح لبيب وقال باسترخاء لا يهزم كاسترخاء كبقرة نائمة: لن تصدقوا ما قصّه عليّ والدي...

عمّ السكوت ولم يتفوه أحدهم بحرف، لإتاحة الفرصة للبيب ليتحدث على هواه، فأضاف:

هتف الحضور في ديوان لبيب وهللوا: سبحان الله...

كانوا يخفون وراء الهتاف سخرية كبيرة متأمّلين أن يزيدهم لبيب بقصص أخرى من جعبته. الوحيد الذي لم يهتف وبقي صامتًا هو أبو القاسم.

نظر أبو القاسم مباشرة إلى لبيب الكذاب في أثناء التخاطب معه ولاحظ عليه علامات الهدوء والتواصل في النظر مع الموجودين، كان مرتاحًا في حديثه. جسده ونفسه مرتبطان ومتواصلان خصوصًا الآن، حتّى أكتافه مرتاحة. كما أنّ نظراته كانت مباشرة.

تنحنح أبو القاسم وقال: يا لبيب، ما حدّثني به والدي أغرب بكثير من هذه القصة التي قصصتها علينا الآن.

التفت الجميع إلى أبي القاسم مشجعّين إياه بأن يدلي بدلوه، إلا لبيب الذي ارتاب من قصّته، لكنه أخفى ارتيابه، هزّ كتفيه دون أن يحول نظره عن أبي القاسم ومسح العرق عن عنقه بمنديله.

قال أبو القاسم: اسمعوني والكلام للجميع. كما تعلمون يا اخوتي أن أبي كان حدّادًا...

سأله أحد الحضور: جدك كان حدادًا؟

توقف أبو القاسم عن الحديث متأملًا بعينيه الفاحصتين ردة فعل الحضور، فما كان من أحدهم إلا وسأله:

نظر إليهم أبو القاسم بملامح هائجة:

فهتف الجميع وهللوا: سبحان الله...

إلّا لبيب لم يتمالك نفسه وسأله:

فأجاب أبو القاسم بجدية يخفي وراءها سخرية كبيرة:

ضحك الجميع، إلا لبيب... ثمّ انسحبوا جميعًا بانحناءة احترام.

وسوم: العدد 950