بين حبيبتين

حماد صبح

وصلت بعد أن سرت مسافة طويلة إلى نهر فوقه جسر؛  بالقرب منه فندق . دخلت الفندق وجلست عند منضدة  قرب نافذة حيث أرى النهر واضحا وبداية الجسر . وكان يجلس أمامي شيخ جليل من أهل المنطقة يشرب من كأس ، ويمعن النظر في قاعها . وكان وجهه من تلك الوجوه المنشرحة التي يظن من يراها أنه يعرف أصحابها منذ زمن بعيد ، ويكلمهم دون تعريف ويفهم ما يقولون . وعرض علي الشرب ، ثم شرع يحدثني عن شبابه ، عن هذه القرية التي مر بها يوما ، وعن زورقه ، وعن الجسر الذي أراه ، وعن امرأتين . وبدأ بوصف نهر زمن شبابه ، فقال : هذا نهر هائم تستقي منه الأشجار والذباب والذئاب ، ويأتي من مكان قصي ، ويسبح فيه البط ، وفيه نبات أسل ، وكائنات تحمائية ( تحت مائية ) مثل السمك الأخضر الذي ينام في ضوء الشمس . وتابع حديثه مبتهجا بالزجاجة الموجودة فوق المنضدة قرب كأسه : كان نهري هذا هادئا . لم يتبدل كثيرا . شاطئاه تبدلا . لم يكن ، حين وصلت إليه ، فوقهما بيوت ، ولا قرية ، ولا جسر يربط بينهما . كان يومئذ وحيدا . لم يكن هنا سوانا وسوى أسرتين أخريين . كان أبي أول الواصلين ، فانجذب إليه ، وتنبأ بأن هذا المكان سيكون  له يوما مستقبل ، فعبر النهر ، وصنع زورقا رماديا لينتقل فيه من شاطىء إلى آخر . وكبرت في ذاك الزورق . كان هو مهدي ، وكنت أنام في قعره ومقدم قبعتي فوق عيني ، وكنت أحيانا أنام والأغاني تغمر سمعي غمرا . وكنت حين أصحو ألبث ساعات مستلقيا على بطني فوق طرف الزورق ، فتتاح لي رؤية فسيحة المدى . كنت أنظر إلى الماء إذ يجري ، إلى السمك ، وأحيانا إلى دوامات الماء التي كنت أسميها عيون النهر . وكان الشاطئ الذي يقوم فيه بيتنا هو الشاطىء المأهول ؛ لأن القرية تقوم على بعد خمسة أميال من بيتنا ، وكان فيها كنيسة صغيرة ، وبقالة ، ومدرسة ريفية . وكنا وجيراننا نسكن البيوت الأخيرة ، وفي الشاطىء الآخر كان الساكنون الجدد ، وبنى فيه السيد بوليو ، الذي كان الناس يدعونه المولى بوليو تعظيما له ، بيته حيث يقوم بيتنا ، وكان أول زبائن أبي . وقد عبر النهر في زورقنا كل أيام وجوده صيفا . وقدم بعده بعض المستوطنين الذين كانوا يقطعون الخشب ، وهم الذين بنوا القرية حيث نحن هذا المساء . وأحسبك  

تحب أن أكلمك عن المدرسة . دخلتها إلا أنني قبل أن أتعلم فيها الألفباء كنت أعرف الغابة وشاطىء النهر والزورق والنهر عن ظهر قلب . كنت أرقب فيها الشمس حين تغرب جالسا عند النافذة ، وكنت قادرا على الرجعة إلى بيتنا وحدي إلا أنني كنت دائما أتغدى فيها ، وأذهب إليها  مشيا في بكور الصباح مع ماري . ماري ؟! من تلكم ماري ؟! كانت صبية تقاربني عمرا ، وابنة لإحدى الأسرتين اللتين كانتا تقطنان معنا على شاطىء النهر .ماري ؟! انظر هنا إلى قاع كأسي ! صحيح أنك لا تراها إلا أنني أراها فيه دائما . كنا دائما معا ، وكنا نحصب البط البري بالحجارة ، ونذهب باحثين عن الكرز وثمر العليق الأحمر  ، وشكلت هي تيجانا من ورق الشجر في الخريف ، وجمعتُ لها حصا أبيض ؛ لأنني وجدتها ، ماري ، صبية حسناء .ورأيت مرة محارة في الرمل ، فأعطيتها نصفها  ، وما فتئت أحتفظ بنصفي منها في صندوق عتيق في بيتنا ، ولدي أيضا بعض التذكارات من ذاك الزمن الجميل . وفي يومٍ بلغت من عمري الخامسة عشرة ، وصار أبي شيخا سيء الرؤية ، ففارقت المدرسة للحلول محله في العمل ، وكانت القرية المقابلة لنا  اتسعت ، وصارت بيوتها كثيرة ، وشارع كبير ، ومسلخ ، وكنيسة صغيرة ، فوفر ذلك عملا جما للزورق ، وكنت أنا الذي أنقل العابرين فيه ، وكنت أحسن مهنتي لإحساني فهم حال زورقي ، وسميته اسما ، سميته ماري ، وكتبت الاسم على جنبيه . كتبت "ماري " بحروف بيض ، وحين يكون ماء النهر تيارا ترتفع أمواجه حتى الاسم معانقة له ، وحين يهدأ الجو ينعكس الاسم في الماء في كل الأنحاء . وبلغت العشرين مثلما بلغها سواي من الناس . وكان لماري شعر ينساب حتى ظهرها ، وكانت عيناها في لون ثمرة البندق .وكانت ممتلئة الجسد ، نشيطة رشيقة ، وكنت أنتظر أن أكبر شيئا لأتزوجها ، وعلمت نيتي ، فهيأت جهاز عرسها في هدوء  بالتعاون مع أمها ، وشغلت بتهيئته كثيرا من الشابات لكون أسرتها أسرة كبيرة . وكانت في كل ربيع تتحفني بهدية ، أتعلم ما هيهْ ؟!  سرادق صغير أبيض ، لمهْ ؟! لإقامته على شاطىء النهر الموازي فوق سارية ، والعادة أنه يظل ملفوفا ، أما إن أحب شخص عبور النهر فله أن يرفعه ، وكانت تلك علامة العبور . وإذا أردت أن أجعله يرفرف في الهواء أثب في الزورق وأعبر به . واستعملت سراديق كثيرة بيضا ، سرادقا كل سنة ، وكانت كلها من صنع ماري ، وأحتفظ في بيتنا بثلاثة أو أربعة قديمة منها في صندوقي . إنما لم أتزوج ماري ، وما كان ذلك برغبتي . قدمت فتاة أخرى إلى المنطقة وقصمت حياتي ! صنف من أهل الرقص يختلف عنا . ولم تتكلم كثيرا إلا أنها أضرمت النار في قلبي بعينيها السوداوين اللتين كانتا دائمتي  البريق . ونظرا لكون المنطقة جديدة فإنها كانت تحوي كثيرا من أصناف الناس الزائرين لها . ممثلون من المدينة جاؤوا لعرض مسرحية أو ألعاب بهلوانية وسيركات صغيرة وألعاب رياضية . وفي يوم جميل ، قدمت إلى المنطقة عصبة من الغرباء ، وكان معهم قياثير ، وعيدان للعزف ، وثياب حمر وزرق من الحرير . وكانت تلك الفتاة معهم ، وكان لها ضفيرتان كبيرتان سوداوان مشدودتان على صدغيها بريشات صغار صُفر ، وكان اسمها جيان ، وأنا الذي نقلتهم في الزورق عصرا  ، قبل تناول طعام العشاء ، قرب الساعة الخامسة ، وكنت لحظتها مع ماري على الشاطىء ، فقالت لي ناظرة إليهم : هؤلاء متشردون يا نيكولا ، متشردون ! سارع بنقلهم ! لا تنظر إليهم ! خطرون ! 

ثم تنحت بعيدا ، وهو ما لم أقدر عليه . كان لا مفر من أن أنقلهم . ولم تتكلم جيان إلا أنها ركزت علي نظراتها طول النقلة ، واقتربت مني بعد نزولها ، وأسرت لي متعالية على حذاء صغير من الحرير الأخضر : تعال ! سأرقص لك ! 

وما سبق لي أن نلت هذا الضرب من الدعوات ، فبهرتني دعوتها ، وكان أن عبرت النهر سرا ذياك المساء ، وكذبت على ماري حول سبب عبوري . وكان على الشاطىء خلق كثيرون ، وأنوار ، والجو جو بهجة ، وصدحت الموسيقا فوق سقف بيت مسطح ، وكانت جيان في المكان ، في وسط الناس ، ولم أعرفها سريعا لشعرها الذي كان يهفهف حول عنقها ، وكانت جعلت من يديها دائرة صغيرة فوق رأسها ، وانفصلت عن الناس جارية على أطراف قدميها مثبتة ذلك الشيء بعيدا عنهم .كانت دائمة النظر إلى ذات المكان ، إلى نقطة في السماء الزرقاء . كانت تنظر إلى سرادقي الأبيض الذي لبث منصوبا في الهواء منذ بدء الليلة الساهرة ، ولم يكف حذاؤها الأخضر عن الرجفان . ولبثتُ هناك في بلاهة متكئا على شجرة ‘ في يدي قبعتي ، لا أعرف أين أنا بالضبط . وقدمت إلي جيان بين رقصتين . سارت نحوي وثبا ، سارت جريا تقريبا . سارت إلي ، ورأيت بسمتها ، ففارقتني أعصابي بغتة حين رأيت محياها الصغير ، وشعرت بالسرور والارتياح ، وضحكت ، وكانت هي التي بادرتني  بالكلام ، قالت : 

رقصت لك !  

_ عجبا ! شكرا كثيرا . 

_ سأرقص إن شئت . 

_ ما اسم الرقصة التي تنوينها ؟! 

_ سرادق . مثل هذا السرادق العالي هناك . 

_ تشبهين سرادقي . هذا حق . 

_ شكرا . 

_ هل سترقصين ؟!  

_ اقترب لتحسين رؤيتك لرقصي ! 

_ لا . سأمكث هنا . أرى من مكاني حسنا . 

_ لم لا تتقدم ؟! 

_ السرادق مبني ليُرى من بعيد . 

_ حالا سأرقص . 

ورقصت ثانيةً ، كان لها ميسم ملاك ، ورقة غيمة ، أما أنا فتأملت في السماء ، وتوقف الحفل مع تقدم الليل ، ونفذت عدة نقلات سريعة بالزورق ازدحم خلالها بالراكبين . عملت دونما إحساس بالإعياء كأنما كان لي ساعدان من حديد ، وعلى كل حال كان الذين نقلتهم من المتشردين . وكانت كل الأنوار أطفئت . كنت  في نهاية عملي ومعي  جيان بين سواري الزورق ، ورفضت النزول حين بلغنا الشاطىء ، واختبأت داخل الزورق ، ولم يلحظها رفاقها  

الذين استقلوا عربة ،  وتابعوا سيرهم في سبيلهم صادحين بالغناء . وقعدت هي أمامي على صندوق ، وسألبث أتذكر عينيها في تلك الليلة . ألهبتا أحاسيسي إنما دون أيما أذية ، وقالت لي جيان إنها تشعر بالبرد ، ففتحت صندوقي ، واستخرجت كنزة الصوف الكبيرة السوداء التي كانت ماري حاكتها لي ، ودثرتها بها . وكانت الليلة صاحية ساكنة ، وبغتة سمعت جلبة من جهة بيتنا تشبه صوت خشبة تسقط في الماء ، فأصخت السمع ، وبصرت بشخص آتٍ سباحة ، فعرفت هويته حتى إذا صار على خمسين خطوة منا  نادى اسمى مرتين ، ثم غاص في غور النهر . كان ماري ! أنقذتها بألمي وتعاستي إلا أنها ما آثرت الحياة . أجبرتها تقريبا عليها ، وأرسلتُ جيان المتشردة إلى جماعتها ، وأيقظت ماري تلك الليلة . كانت في حجرة أمها . لقد سعلت ، ومع مطلع الشمس صبحاً التفتت إلي . كان على مخدتها خيط صغير من الدم ، ورفعت إلي عينين تتهمانني ، فتألمت واضطررت للخروج ، وأذنت لها بانتظاري في الزورق ، ونمت بتأثير أشعة الشمس .ومضت الأيام . كنت محزونا ، كنت متضايقا . وطاردت خيال جيان دون فائدة . كانت لابثة في بالي .وكان تشافي ماري بطيئا إلا أنها كانت نحيلة العود ، شاحبة الوجه ، بل سارت شبه مريضة . ولما ارتفعت الشمس خرجتْ للتنزه على رمل الشاطىء . وجاءني صوتها بعد الظهيرة رقيقا ، فخجلت من النظر إليها .نادتني : نيكولا ! نيكولا ! 

_ نعم يا ماري .  

_ سترقص هذه الليلة في قرية أخرى . تعال إليها إن كنت تشعر بالملل ! اذهب لتراها ! 

سيسرك هذا . تعال ! وبعد ذلك تعود . 

ما كان أكثر راحة بالي ! وذهبت تلك الليلة ثانية إلى السهرة مستعيرا دراجة للذهاب . 

وشاهدت جيان . كانت هنالك فوق السقف المسطح لابسة نفس ثوبها الأبيض . رقصت ثانية . السرادق نفس السرادق ، والموسيقا نفس الموسيقا ، والبوهيميون نفس البوهيميين ، وقال الناس إنهم سهروا  نفس السهرة السالفة . واخترقتْ الجمهور بين رقصتين ، اخترقته جريا حتى لا يتسخ حذاؤها الأخضر ، وقصدتني ، وتأكدت من قصدها لي ، فبارحني ألمي كاملا ، وشعرت بالسعادة شعوري السابق بها لكونها ما نسيتني ، فصرختُ : جيان ! إنه أنا . حضرت ! حضرت !  

فرفعت عينيها ، ورمقتني دون أن تنطق أيما  كلمة كأنها ما رأتني ، وحنت رأسها ، وتابعت سبيلها ، فأتبعتها عيني ، وعادت إلى ظل شجرة حيث كان في انتظارها فتى آخر ، فغادرت جريا ، وعدت إلى بيتنا ، وبكيت في طريق العودة إلا أن كل شيء ولى . وجاءتني ماري تاليَ يوم وعلى شفتيها ابتسامة جميلة لمخلوقة مريضة إلا أنها سعيدة ، ولم أدرِ ماذا أفعل لها لتغفر لي ذنبي في حقها . سألتني : هل ستتحسن حالك يا نيكولا ؟! 

_ نعم يا ماري . اركبي في الزورق لأهدهدك مثلما كنت سالفا . اركبي يا ماري لأدثرك بكنزتي الصوفية ! 

وكان على الشاطىء رجل يريد العبور ؛ معه حقيبة صغيرة ، فسمحت له بالصعود ، وبعد أن استقر وسط الزورق طلب مني في أدب إيقافه  ، فأذعنت لطلبه ، ورأيته يخرج من حقيبته آلات معقدة ،وحسبته يريد التقاط صور إلا أن هذا ما كان مراده . كان مساحا حكوميا جاء لأخذ مقاييس النهر ، فسألته عن العلة ، فأجابني سائلا : ألا تعلمها ؟! نريد بناء جسر هنا ! 

جسر ! ولم أضف  أي كلمة ، وأشاحت ماري بوجهها إشاحة كبيرة حتى لا ترى ذاك الغريب  

. يريدون بناء جسر فوق نهري ؟! جسر للاستغناء عن زورقي ؟! 

قلت : ماري ، يريدون بناء جسر ، سمعت ؟! 

فلم تجبني ، وحسبتها تبكي . 

وهنا تنتهي قصتي ، ألم تتعب من الاستماع إليها يا فتاي ؟! الجسر هو ما تراه هنالك . إنه ما استغني عني بسببه . أتدري ما أسميه ؟! أسميه جيان ؛ لأن له بأقواسه التي تسر الناظرين مظهر راقصة ، وله أنواره وملصقاته الإعلانية . وهناك سبب آخر ؛ لأنه لكل الناس باستثنائي أنا الذي لي جسر آخر . أين ماري ؟! ماتت ، ماتت فورا بعد استحمامها . ماتت سعيدة أيضا مبدية  علامة على حبها لي . كرهتْ رؤية الجسر .لم تره . وماذا عن جسري الخاص ؟! مات هو الآخر وقت موتها . أحرقته لوحا لوحا ما عدا لوحا واحدا هو الذي كتبت عليه " ماري " . مازلت أحتفظ به . عرفت امرأتين إلا أنني لا أحتفظ إلا بذكرى واحدة منهما . إنها الزورق الرمادي الجميل ..  

*الكاتب الفرنسي فيلكس لكلرك . 

وسوم: العدد 984