الدنيا مازالت بخير

إيمان قاسم

جملة عذبة مازال مزهرُ الأنس يرددها على أسماع عامة الناس ، وعلى مَن مسَّتْهم  آلام الدنيا وأوجاعها ، وربما كفكفوا دموعهم حين طرقت أبواب قلوبهم  نغمات المزهر  الشجية . فتلاشت الوحشةُ في بيئتهم رغم مرارة  دُجُنَّتِها ورغم ماتحمل الأحناء بين أضلاعهم من أنقاض بعثرتها الليالي السود . كنت يومها أصغي لسرد جدي ــ يرحمه الله ــ  لقصة تلك المرأة التي ربحت من دنياها ثقتها بالله سبحانه وتعالى ، فرغم مرارة العيش التي تلف أسرتها كانت دائما ترنو إلى السماء وتنادي ربَّهـا : يارب الصبر والجبر والفرج ، فعندك وحدك مفاتح الغيب ، ونحن عبيدك بين يديك تفعل بنا ماتشاء ، فلك الحمد والثناء . كان زوجها فقير الحال ، لايملك من الدنيا إلا أقل القليل كما يقول أهل البيان ، كان يكد نهاره ليأتي لأولاده وبناته بلقمة العيش قبل أن يناموا ليلهم الطويل . وكانت الزوجة الصابرة الحانية تدبر الأمور داخل منزلها المتواضع بما لديها من قناعة ، وبما يحمل قلبُها من الصبر الجميل . أقبل زوجها في إحدى العشيات وهو يحمل لأسرته ماتيسر له من طعام ، وجلست العائلة على طعام العشاء ، والأب يريد أن يتحدث عن أمر مـا ، ولكنه لايريد أن يسمع الصغار الخبر . هُرِعَ الأولادُ إلى مضاجعهم فرحين ، وبقيت الزوجة مع زوجها يُعيدان حديثهم اليومي المكرر . وكانت المفاجأة التي أذهلت الزوجة ،  ورمَتْها في دائرة حيرةٍ تكاد تعصف  بما تملك من إيمان وثقة وصبر . إيمان بالله ، وثقة بإغاثة الملهوف ، وصبر على شدائد الأيام . إنه يريد السفر طلبا للرزق مع بعض أصحابه من أهل الفاقة والعوز . ولم يكن للزوجة من قول بعد أن علمت أن زوجها وأصحابه سيسافرون غدا . ولكن الموقف المذهل وهي تنظر إلى أطفالهـا النائمين في طرف الغرفة أنطقها فقالت : ومن أين يعيش هؤلاء الأطفال ؟ وأنت تعرف الحال ، ليس عندي من ذهب أقتنيه ، وليس لدي من شهادة أعمل بمقتضاها ، وليس لنا من الأرحام ما يمكن لهم أن يساعدونا ... قطع الرجل حديثها قائلا : لقد تم الاتفاق مع زملائي على السفر غدا ، ولعل الله ييسر لنا أسباب الرزق ونعود إليكم بما يكفيكم . ردَّت المرأة : والأولاد ... أطفالنا الصغار !!! أجابها : الذي خلقهم هو يرزقهم . وكانت ليلة حالكة ، ساعاتها كأنها أيام ، ولكن ما العمل ؟! وصحـا الرجل وزوجته على صوت أبي الخير محمود وهو يرفع صوته الشجي لصلاة الفجر . هبَّـا من نومهما ، واستعدا لأداء صلاة الفجر ، في حين خرج الزوج إلى المسجد المجاور لأداء الصلاة مع الجماعة . صلَّت المرأةُ في بيتها ، وجلست تسأل اللهَ اللطف والعون ، وتستمد منه الصبرَ ، وتسأله الجبر على ماسيكون

رجع الزوج إلى داره ومعه أصحابه في السيارة التي سيستقلونها في سفرهم ، فتلقته زوجته وعيناها دامعتان ، وهي تدعو ربَّها له بالتوفيق ، أثَّر هذا المشهدُ في نفسه ، وبدت عليه آثار انفعال نفسي ، وقد سمعها تقول : الأطفال ، الأطفال . فقال بلهجة ملؤها الانفعال حين هزَّت مشاعرَه كلمة الأطفال ... الأطفال ، فأطلق عندئذ حنجرته لتردد : اذهبي يا امرأة  إلى صاحب القبة الزرقاء . ودعينا نسافر . قالت وهي في حالة من القلق الممزوج بالأمل ... صاحب القبة الزرقاء ، أنا لاأعرف صاحب القبة الزرقاء ، ففي ذلك السوق عشرات من أصحال القبب الزرق والحمر والخضر ومن جميع الألوان . فهفت بلا وعي إلى السوق التي يوجد فيها العشرات من أصحاب القبب وهي تشمل أنواع المآكل والخضار ، فكل صاحب محل رفع على بوابة متجره قبة تشبه الخيمة يتقي به شر حرارة الشمس أيام الصيف ، وتحمي بضاعته من المطر أيام الشتاء ، وراحت تنظر إلى القبب علَّها تجد صاحب القبة الزرقاء ، ودارت حول السوق ، ودخلت في شارع آخر منه تبحث عن بغيتها ، ولكن لاجدوى ، وهمَّت بالعودة إلى البيت وما زالت عيناها تنظران إلى القبب ، وقلبها يفيض بالحنان والعطف على صغارها . وإذا بها تلمح قبة زرقاء في نهاية الشارع الذي دخلته قبل قليل . فتوجهت إلى صاحب القبة وقالت له : إن زوجي سافر طلبا للرزق ، وتركني وأطفالي ، و والله ماعندنا شيء من متاع الدنيا ، وحين خرج قلت له : الأطفال ... الأطفال . فقال لي : اذهبي إلى صاحب القبة الزرقاء وهو يطعم أطفالك ويسقيهم ، وها أنذا أقف بين يدي يديك كما فال لي زوجي . وجمَ الرجل وجلس على كرسي له أمام الدكان ، وأخذ يبكي بكاء شديدا ، فتعجبت المرأة من فعل الرجل ، وقالت له : إن لم تكن أنت فدعني أذهب لعلي أجد صاحب القبة الزرقاء . نظر إليها الرجل وقال : لا يا أختي لقد وصلتِ . ونادى الرجل ابنه وقال له : هات السيارة يابني ، واملأها من هذه الأطعمة ، وضع لها من تلك الخضار ، فأخذ الابن يملأ حوض السيارة من المواد الغذائية المتنوعة . حتى إذا امتلأت قال الرجل لابنه : أوصل مافي السيارة مع المرأة إلى بيتها ، واحفظ موقع البيت ، وقال للمرأة : سيأتيك ولدي هذا آخر كل شهر بما يكفيكم ــ إن شاء الله ــ وأخرج من جيبه كمية من النقود وقال لها : وهذه لمصاريف أخرى للأولاد . أصاب المرأة الانبهار ، وما عادت تستطيع الكلام لتشكره وتدعو له بالرزق الوفير والثواب الكبير عند الله تبارك وتعالى . علم الرجل حال المرأة وقال لها : لاعليك يا أختي صاحب القبة الزرقاء لن يقصر مع جميع الخلق ، ونحن جميعا إخوة وأخوات ، والدنيا أيتها الفاضلة مازالت بخير .

وتمر الأيام ، وتنقضي الشهور ، ويعود الزوج بعد غياب مايزيد على السنتين ، وقد وفقه الله وأصحابه ، وعادوا بالمال الكثير . فسلم على زوجته وأولاده ، وشاهد ماهم فيه من خير ونعمة . فقال لزوجته : من أين لكم هذه الأرزاق والأموال ؟ قالت : ألم تقل لي اذهبي إلى صاحب القبة الزرقاء فهو يكفيكم ، وقد ذهبت إلى السوق ، وشاهدت صاحب القبة الزرقاء فقلت له إن زوجي غادرنا للعمل ، وأوصاني أن آتي إلى صاحب القبة الزرقاء فهو الذي سيكفيكم . وبالفعل كان ماترى ولله الحمد .

ويسمع الزوج كلام زوجته ، فقال : أنا قصدتُ بصاحب القبة الزرقاء : اللهَ ربَّ الأرض والسماء ، فكيف كان ذلك ؟ وفي صباح اليوم الثاني اقتاد الرجل أسرته وذهب إلى صاحب القبة الزرقاء في السوق  ليشكره ، ويعيد إليه المال الذي أعطاه لأسرته في غيابه ، فتبادلا التحية ، مع عبارات الشكر والتقدير  ، فقال صاحب القبة  للرجل . أبشر بالخير من الله ، في تلك الليلة التي جاءتني زوجتك في صباحها تبحث عن صاحب القبة الزرقاء ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرؤيا ، وقال لي ستأتيك امرأة تسأل الله الرزق لأطفالها ، فأعطها يعطك الله من فضله ، فاستيقظتُ وأنا أتلهف على وصول تلك المرأة المحتاجة ، فجاءت وأعطيتُها مما أعطاني ربي عزَّ وجلَّ ، ولقد فاض لدي الرزق بكثرة منذ صباح ذلك اليوم ، فالحمد لله رب العالمين . فلست بحاجة ولله الحمد ، فالرزق والخير بيد صاحب القبة الزرقاء التي تغطي أرجاء الكون الفسيح .

وسوم: العدد 990