طبيب المنطقة

حماد صبح

كنت عائدا في يوم من أيام الخريف من مكان ناء في الريف ، فأصابني البرد ومرضت . ومن طيب حظي أن الحمى داهمتني في الفندق في مدينة المنطقة . أرسلت إلى طبيب المنطقة ، فقدم بعد نصف ساعة . رجل نحيل ، أسود الشعر ، معتدل القامة . وصف لي الدواء المعتاد المدر للعرق ، وأمر بوضع لصقة خردل . وفي حذق تام أسقط ورقة النقد فئة خمسة الروبلات في جيب ردنه مطلقا سعالا جافا ومشيحا بوجهه أثناء ذلك . نهض للانصراف ، بيد أنه دخل في حديث معي ، ومن ثم بقي عندي . كنت مجهدا بفعل الحمى ، وتوقعت ليلة مسهدة ؛ 

لذا سرني أن أثرثر مع رفيق لطيف. قدُم لنا الشاي ، وبدأ طبيبي يتحدث دون كلفة . كان شخصا راجح العقل عبر عن نفسه في قوة وفي شيء من الفكاهة . تحدث غرائب في الدنيا ؛ فقد تعاشر بعض الناس أمدا طويلا ، وتصادقهم ، لكن دون أن تصارحهم ولو مرة واحدة بمكنون صدرك . ولا تكاد تتعرف على سواهم ، وفجأة تكشف للواحد منهم أو يكشف لك كل الأسرار الشخصية مثلما يحدث عند الاعتراف . ولا أدري كيف كسبت ثقة صديقي الجديد إلا أنه ودون مقدمات روى لي حادثة غريبة نوعا ما . وسأروي هنا ما رواه لي ليعلمه القارىء 

المتسامح . وسأحاول أن أرويه بنفس كلمات الطبيب . بدأ حديثه في صوت ضعيف مرتعش ( وهذا نتيجة طبيعية 

لاستخدامه سعوط بيريزوف الصرف ) . قال : ما أحسب أنه سبق لك أن عرفت ... ما أحسب أنه سبق لك أن عرفت قاضي المنطقة مايلوف بافل لوكيتش . ألا تعرفه ؟ حسن . سيان . ( وسلك زوره ومسح عينيه ) ، وتابع : 

حسن . اعلم أن ما حدث ؛ حدث في لنت زمن ذوبان الثلوج . كنت في بيت قاضينا _ مثلما تعلم _ نلعب لعبة " أحقية الدفع " . وقاضينا هذا إنسان طيب ومولع بلعبة " أحقية الدفع " . فجأة ( أكثر الطبيب من استعمال كلمة " فجأة " ) أخبروني : خادم يريدك . 

قلت : ماذا يريد مني ؟ 

قالوا : معه إخطار . لابد أنه من مريض . 

قلت : هاتوا الإخطار ! 

كان فعلا من مريض . أنعم وأكرم ! أنت فاهم . المسألة خبزنا وزبدتنا . وكانت حقيقة الأمر على هذا النحو : كتبت سيدة أرملة تقول لي : ابنتي تحتضر . احضر لوجه الله ! 

وأضافت : أرسلنا لك العربة . 

حسن . هذا رائع كثيرا إلا أنها كانت على بعد عشرين ميلا من المدينة ، وكان الليل تناصف ، ولك تخيل السبل في هذه الحالة . يا للمأزق ! ولأن السيدة فقيرة فليس للمرء أن يتوقع أجرا أزيد من روبلين فضيين . وحتى الحصول على هذين الروبلين مثار إشكال . وقد لا يزيد الأجر على لفة كتان وكيس من دقيق الشوفان إلا أن الواجب مثلما تعلم مقدم على كل شيء . ثمة مخلوقة تموت .سلمت أوراق لعبي في الحال إلى كولبيون عضو البعثة الريفية ، وقفلت إلى البيت . نظرت فرأيت عربة صغيرة بائسة واقفة عند درجات سلم البيت ؛ شدت إلى جياد فلاحية مفرطة السمنة لشعرها خشونة اللباد . ورأيت الحوذي جالسا خالعا قبعته بحافز الاحترام . قلت لنفسي : حسن . واضح يا صديقي أن هؤلاء المرضى لا يرفلون في بحبوحة الثراء . إنك تبتسم ، لكن الواجب يلزم أن أقول لك إنه من واجب فقير مثلي أن يأخذ كل شيء في حسبانه . فإذا كان الحوذي يجلس مثل أمير ، ولا يمس قبعته ، بل ينخر لك من وراء لحيته ، وينقر بسوطه نقرات خفيفة ففي وسعك أن تراهن على ستة روبلات أجرا لك . لحظت أن تلك الحالة كانت ذات مظهر مغاير تماما ، لكنني قلت لنفسي : لا حيلة في الأمر . الواجب يتقدم كل شيء سواه . وخطفت ألزم الأدوية وانطلقت . أتصدق ما أقوله لك ؟ كل ما استطعته هو الوصول إلى هناك . 

كانت السبل جهنمية : جداول ، ثلوج ، مسايل . وفجأة انفجر السد في الطريق ، وكان ذلك أسوأ ما في الأمر إلا أنني وصلت في النهاية . كان المنزل صغيرا مسقوفا قشا ، وكانت النوافذ مضاءة ، فدل ذلك على أنهم كانوا في انتظاري . استقبلتني عجوز موفورة الوقار على رأسها قبعة . 

قالت : أنقذها ! إنها تحتضر . 

قلت : أرجوك لا تغتمي ! أين المريضة ؟ 

قالت : تعال من هنا ! 

رأيت غرفة صغيرة نظيفة ، ومصباحا في ركنها ، وفتاة في السرير في العشرين من عمرها ، في غيبوبة ، ملتهبة الحرارة ، ثقيلة التنفس . إنها الحمى . كانت هناك فتاتان أخريان ( هما أختاها ) في حال من الخوف والبكاء . قالتا لي : كانت أمسِ في أحسن حال ، ومفتوحة الشهية ، بيد أنها اشتكت اليوم من رأسها ، وفجأة صارت مساء اليوم في الحال التي تراها عليها . 

قلت ثانية : رجائي لا تقلقن ! 

هذا واجب الطبيب مثلما تعلم . ذهبت إليها وفصدت دمها ، وطلبت منهن أن يضعن لها لصقة خردل ، ووصفت مزيجا . وفي أثناء ذلك نظرت إليها ! نظرت إليها ! يا الله ! ما سلف أن رأيت مثل وجهها ! في كلمة : كانت الجمال عينه . هزتني الشفقة عليها عنيفا . يا لتلك القسمات الصباح ! يا عينيها ما أنتما من عينين ! لكن الحمد لله . خف مرضها وعرقت وبدا أنها استردت وعيها . تلفتت حولها وتبسمت ومرت بكفها على وجهها . انحنت عليها أختاها وسألتاها : كيف حلك ؟ 

قالت : خير حال . 

وأشاحت بوجهها . نظرت إليها . لحظت أنها نامت . قلت : حسن . الآن اتركن المريضة وحدها ! 

خرجنا على أطراف أصابعنا ، ولم تبقَ عندها سوى الخادمة ؛ فقد نحتاج إليها . وكان في الشرفة موقد على طاولة ، وزجاجة روم ؛ فالمرء في مهنتنا لا غنى له عن الخمر . قدمن لي الشاي ، وطلبن مني مبيت الليل لديهن فقبلت . وفعلا ، أين أمضي في ذلك الموهن من الليل ؟ وتابعت العجوز تأوهها . قلت : ماهذا ؟ ستعيش . لا تزعجي نفسك ! خير لك أن تنامي قليلا . الساعة تقارب الثانية . 

قالت : لكن هل ترسل لي إذا حدث شيء ؟ 

قلت : نعم . نعم . 

فانصرفت ، وانصرفت البنتان أيضا إلى غرفتهما . أعددن لي فراشا في الشرفة . حسن . مضيت إلى فراشي إلا أنني _ للعجب _ عجزت عن النوم مع أنني حقيقة كنت وافر الإعياء . عجزت عن إقصاء مريضتي من فكري . 

وفي النهاية عجزت عن احتمال الحال ، فنهضت فجأة ، وقلت لنفسي : سأذهب وأرى حال المريضة . 

كانت غرفتها تجاور الشرفة . حسن . نهضت وفتحت باب الغرفة مترفقا . دق قلبي عنيفا . نظرت داخل الغرفة . كانت الخادمة نائمة مفتوحة الفم تغط . يا للبائسة ! إلا أن المريضة كانت راقدة ووجهها ناحيتي ، وكانت ذراعاها مبسوطتين وسعهما . يا للفتاة المسكينة ! قصدتها ففتحت عينيها فجأة وحدقت إلى متسائلة : من ؟ ! من ؟ ! 

ارتبكت وقلت : لا تُراعي يا سيدتي ! أنا الطبيب . جئت لأطلع على حالك . 

قالت : أنت الطبيب ؟ 

_ نعم الطبيب . طلبتني أمك من المدينة . فصدنا دمك يا سيدتي ! أرجوك الآن أن تنامي . وإن شاء الله سنشفيك في يوم أو يومين . 

_ آه ! نعم . نعم يا طبيب ! لا تدعني للموت ! أرجوك . أرجوك . 

_ لم تقولين هذا الكلام ؟ ليباركك الله ! 

قلت لنفسي : عاودتها الحمى ثانية . 

وجسست نبضها . نعم . كانت محمومة . نظرت إلي ، ثم أمسكت يدي وقالت : سأقول لك لماذا لا أريد أن أموت . سأقول لك . نحن الآن منفردان . وما أريده منك هو ألا ... ولو لأي إنسان . اسمع ! 

انحنيت فوقها . حركت شفتيها لتلاصقا أذني ، ومست بشعرها خدي ( أعترف بأن رأسي دار ) ، وراحت تهمس . لم أتبين شيئا من همسها . آه ! كانت تهذي . همست وهمست ، لكن في سرعة بالغة وكأنما ليس بالروسية . وأخيرا أنهت همسها وأسقطت رأسها فوق الوسادة مرتعدة ، وهددتني بإصبعها : تذكر أيها الطبيب ! لا . . . لأحد ! 

بيد أنني هدأتها وقدمت لها ما تشربه وأيقظت الخادمة وانصرفت . 

( وهنا شم الطبيب السعوط ثانية في قوة غضبى ، وبدا لحظة ذاهلا بفعل تأثيره ) 

. تابع روايته : ومع ذلك ، ومخالفة لتوقعاتي ؛ لم تتحسن المريضة ثاني يوم . فكرتُ وفكرت . وفجأة أزمعت المكث هناك رغم أن مرضاي الآخرين كانوا في انتظاري . وأنت تعرف أن المرء لا يمكنه تجاهل ذلك ؛ فعمله يتضرر إذا تجاهله ، لكن في المقام الأول كانت المريضة في خطر ، وثانيا _ ولأقل الحقيقة _ كنت أشعر بانجذاب قوي إليها ، إضافة إلى أنني أحببت سائر العائلة ، فرغم أنهن كن شديدات الفقر يمكنني القول إنهن كن جمات التهذيب . كان أبوهن رجلا مثقفا ، كان مؤلفا . مات طبعا فقيرا ، بيد أنه استطاع أن يمنح بناته قبل وفاته تعليما ممتازا ، وخلف في البيت أيضا كثيرا من الكتب . وعلى كل حال أجرؤ فأقول إن كل من في البيت أحببنني كأنني واحد من العائلة إما لأنني رعيت المريضة تام الرعاية أو لعلة أخرى . وفي نفس الوقت كانت السبل في حال أسوأ مما سلف . ويمكن القول إن كل الاتصالات قطعت تماما حتى إحضار الدواء من المدينة كان عسيرا . كانت المريضة لا تتحسن والأيام تتعاقب . 

ولكن ... هنا ... ( سكت الطبيب قليلا ) أصارحك بأنني لا أعرف كيف أقول لك ... ( وشم السعوط ثانية وسعل وبلع بعض الشاي ) سأقول لك دون حومان حول الموضوع : وقعت مريضتي ... أحار كيف أحكي ذلك . وقعت في حبي . أو ، لا ، لم تقع في حبي ، ومع ذلك ، حقيقة ، يحار المرء كيف يقول هذا . ( أطرق الطبيب واحمر وجهه ) ، ثم والى كلامه سريعا : لا ، حقيقة وقعت في حبي . لا ينبغي للمرء أن يغالي في تقدير نفسه . كانت فتاة متعلمة ، حاذقة ، ومثقفة . ويمكن القول إنني كنت نسيت لغتي اللاتينية أتم النسيان . وأما عن منظري ( نظر الطبيب إلى نفسه باسما ) فليس لدي هنا أيضا ما أباهي به إلا أن الله القدير لم يخلقني أبله ؛ فأنا لا أقول عن الأسود أبيض . أعرف شيئا أو شيئين . يمكنني مثلا أن أدرك في جلاء ناصع أن أليكسانرا أندرييفنا ( وهذا اسمها ) لم تحبني ! وإنما يمكن القول إنها كنَت لي ميلا وديا ، احتراما أو شيئا ما مع أنها شخصيا ربما تكون أخطأت فهم شعورها نحوي . على كلٍ كان ذلك موقفها ، ولك أن تحكم عليه بنفسك . 

وأضاف الطبيب الذي باح بكل تلك الجمل المفككة دون أن يلتقط نفسه ، ودون تحرج واضح : يبدو أنني شردت عن الموضوع نوعا ما . لن تفهم شيئا من هذا القبيل ؛ لذا سأروي كل شيء بانتظام ؛ بعد إذنك . 

وشرب كأس شاي ، واستأنف حديثه في صوت أهدأ : حسن إذن . واصلت حال مريضتي التردي . لست طبيبا يا سيدي الطيب ؛ لذا لا يمكنك أن تدرك ما يخطر على بال فقير خاصة أول الأمر حين يبدأ في الشك بأن الداء آخذ في التغلب عليه ، وماذا يحدث لثقته بنفسه . فجأة تشعر بالجبن الشديد . إنها حال لا توصف . حال تتصور عندها أنك نسيت سائر ما تعلمت ، وأن المريض لا يثق بك ، وأن الناس الآخرين بدؤوا يدركون كم أنت محير ، ويخبرونك بعوارض أمراضهم على استكراه ، وأنهم ينظرون إليك مرتابين هامسين . أه ! هذه حال مروعة . وتعتقد أن ثمة علاجا لهذا المرض ، وما عليك إلا أن تهتدي إليه ، وتقول لنفسك : أليس هذا هو العلاج ؟ وتجربه ، لا ، ليس هو . إنك لا تعطي الدواء الوقت الكافي لإحداث أثره الشافي . تتشبث بشيء ، ثم بآخر . أحيانا تتناول كتابا للوصفات الطبية وتقول : ها هو العلاج ! ووالله إنك لتختار أحيانا علاجا مصادفة وفي بالك أن تترك الشفاء للمقدور ، بيد أن مخلوقا يموت في نفس الوقت ، وكان يمكن لطبيب آخر أن ينقذه . تقول : لا بد من أن نستشير ، لن أتحمل التبعة وحدي . ويا للبلاهة التي تظهر بها في تلك الأوقات ! حسن . وفي الوقت المحدد تتعلم احتمال الحال . الأمر لا يخصك .مات إنسان ، لكنها ليست غلطتك . عالجته حسب الأصول ، لكن ما يواصل تعذيبك أكثر رؤيتُك للثقة ، للثقة العمياء بك وشعورك بأنك عاجز عن أن تكون ذا نفع . حسن . وثقت عائلة أليكسانرا أندرييفنا بي مثل هذه الثقة العمياء . نسيت أن ابنتها كانت في خطر . وأنا من ناحيتي طمأنتها بأن الأمر هين ، لكن كان قلبي يسقط بين قدمي في نفس الوقت . ومما زاد متاعبنا أن السبل كانت بالغة السوء حتى إن الحوذي غاب عدة أيام لجلب الدواء . لم أترك غرفة المريضة مطلقا . لم أكن قادرا _ أنت عارف _ على البعد عنها . حكيت لها أقاصيص مسلية ولاعبتها الورق . سهرت عندها ليلا . وشكرتني الأم العجوز دامعة العين . 

بيد أنني قلت لنفسي : لا أستحق شكرك . وأعترف لك صريحا ( فلا نفع من كتمان ذلك الآن ) كنت أحب مريضتي كما أن أليكساندرا أندرييفنا تدلهت بي . وأحيانا كانت لا تسمح لأحد سواي بالبقاء في غرفتها . بدأت تحادثني وتسائلني : أين درست ؟ كيف أعيش ؟ ومن هم أهلي ؟ ومن أقابل ؟ وشعرت بأنها لا يجب أن تتكلم ، ولكنك تعرف أنني ما كنت قادرا على منعها الكلامَ منعا قاطعا . أحيانا كنت أضع رأسي بين يدي وأسأل نفسي : 

ماذا تفعل يا نذل ؟ وكانت هي تأخذ يدي وتنظر إلي نظرة مديدة ، مديدة ، ثم تشيح بوجهها وتتنهد وتقول : ما أطيبك ! كانت يداها محمومتين جدا ، وكانت عيناها كبيرتين وضعيفتين جدا . كانت تقول لي : نعم . أنت إنسان طيب ، عطوف . أنت لا تشبه جيراننا . لا . أنت لا تشبههم . لماذا لم أتعرف عليك قبل الآن ؟ 

قلت : أليكساندرا أندرييفنا ! اهدئي ! أشعر ... صدقيني ... لا أدري كيف فزتُ ب ... ولكن اهدئي ! كل شيء سيكون وفق ما تهوين . ستعود لك عافيتك . 

وتابع الطبيب مائلا أماما ورافعا حاجبيه : وفي نفس الوقت يجب أن أخبرك أن ارتباط تلك العائلة بالجيران كان واهيا للغاية ؛ لأنها بوصفها عائلة صغيرة ما كانت على مستوى الجيران ، وحالت الكبرياء دون أن تكون على صلة ودية مع أولئك الجيران الأثرياء . أقول لك إنها كانت عائلة متفردة التهذيب . وهو ما أرضاني كما تعرف . 

ما كانت المريضة تأخذ دواءها إلا من يدي ، فترفع نفسها _ المسكينة _ بمساعدتي ، وتأخذه وتحدق إلي ، فيقع قلبي كأنه ينفجر . وفي الوقت الذي كانت تنتقل فيه باستمرار من سوء إلى سوء . كنت أقول لنفسي : ستموت . لا بد أن تموت . صدقني كنت أفضل أن أمضي شخصيا إلى القبر . وهنا كانت أمها وأختاها يلحظنني ، ينظرن في عيني ، وكانت ثقتهن بي تضمحل . كن يسألنني : حالها حسنة ؟ كيف حالها ؟ 

فأرد : أوه ! رائعة . رائعة . 

رائعة حقا ؟ كان عقلي يخذلني . حسن . كنت جالسا ثانية في ليلة عند مريضتي ، وكانت الخادمة جالسة عندها أيضا تغط غطيطا تام الإيقاع وإن كنت لا أرى معابا في هذا من جانب الفتاة المسكينة ؛ فهي أيضا كانت مفرطة الإجهاد . كانت أليكساندرا أندرييفنا شعرت بتردٍ بالغ طول المساء . كانت حماها شديدة للغاية . باتت تتقلب حتى انتصاف الليل . وأخيرا بدا أنها نامت . على الأقل انطرحت ساكنة دون حراك . كان المصباح يضيء في ركن الغرفة أمام صورة العذراء المقدسة . جلست هناك _ أنت عارف _ مطرق الرأس ، بل نعست شيئا .فجأة بدا كأن أحدا مسني في جنبي ! التفت . سبحان لله ! كانت أليكساندرا أندرييفنا تحدق إلي بعينين مركزتين ، منفرجة الشفتين . بدا خداها ملتهبين . قالت : قل لي أيها الطبيب : هل سأموت ؟ 

يا الله يارحيم ! 

وتابعت : لا أيها الطبيب ! لا . رجائي لا تقل إنني سأعيش ! لا تقل هذا ! إذا عرفت ... اسمع ! إكراما لله لا تخفِ حقيقة حالي ! 

كان نفسها بالغ السرعة . قلت : لو كنت أعرف يقينا أنني شخصيا سأموت فعندها سأخبرك بكل شيء . بكل شيء 

. أليكسانرا أندرييفنا ! أرجوك . 

قالت : اسمع ! لم أنم بتاتا . كنت أنظر إليك منذ وقت طويل ... إكراما لله ... أثق بك . أنت رجل طيب . رجل شريف . أتوسل إليك بكل مقدس في الدنيا ، قل لي الحقيقة ! ليتك تعرف كم هي مهمة لي . أيها الطبيب ! إكراما لله قل لي ... أنا في خطر ؟ 

قلت : ماذا أستطيع أن أقول لك يا أليكساندرا أندرييفنا ! أرجوك ... 

قالت :إكراما لله . أتضرع إليك . 

قلت : لا أستطيع أن أخفي عنك الحقيقة . أليكساندرا أندرييفنا ! أنت في خطر ، لكن الله رحيم . 

قالت : سأموت . سأموت . 

وبدا كأنها اغتبطت ؛ فقد أشرق وجهها نيرا . فذعرتُ . قالت :لا تخف ! لا تخف ! لست خائفة بتاتا من الموت . 

وجلست فجأة واعتمدت على مرفقها وقالت : الآن ، نعم الآن ، يمكنني أن أقول لك إنني أشكرك من كل قلبي ، وإنك عطوف وطيب ، وإنني أحبك ! 

حملقت فيها شبه مأخوذ _ أنت عارف _ كان ذلك مروعا لي . 

تابعتْ : أتسمع ؟ أحبك . 

قلت : أليكساندرا أندرييفنا ! كيف استحققتُ ... ؟ 

قالت : لا . لا . أنت لا . .. أنت لا تفهمني . 

وفجأة بسطت ذراعيها وأخذت رأسي بين كفيها وقبلته . صدقني صرختُ عالي الصوت وركعت على ركبتي ودفنت رأسي في الوسادة . لم تتكلم . ارتجفت أصابعها في شعري . تسمَعت . إنها تبكي . رحت أهدئها ، أطمئنها . حقيقة لا أدري الآن ماذا قلت لها . قلت : ستوقظين الفتاة . أيْ أليكساندرا أندرييفنا ! أشكرك . صدقيني ! اهدئي ! 

ألحت : كفى ! كفى ! لا عليك منهم كلهم . دعهم يصحوا ! ثم دعهم يدخلوا ! لا يهم . إنني أموت . أنت ترى ... مم تخاف ؟ لم أنت خائف ؟ ارفع رأسك ! أو ربما لا تحبني . ربما أنا مخطئة . إذن سامحني ! 

قلت : أليكساندرا أندرييفنا ! ماذا تقولين ؟ أحبك يا أليكساندرا أندرييفنا ! 

نظرت في عيني مباشرة وفتحت ذراعيها وقالت : إذن خذني في حضنك ! 

أصارحك بأنني لا أدري كيف لم أجن تلك الليلة . شعرت بأن مريضتي تقتل نفسها . أدركت أنها لم تعد كامل ذاتها . وأدركت أيضا بأنها لو لم تعتبر نفسها على شفا الموت ما فكرت فيَ . وقل في ذلك ما حلا لك ! صعب أن يموت الإنسان في العشرين دون أن يعرف الحب . وكان هذا ما يعذبها ، وهو علة تشبثها اليائس بي . أتفهم هذا الآن ؟ بيد أنها احتوتني بين ذراعيها ولم تفلتني . قلت : ارحميني يا أليكساندرا أندرييفنا وارحمي نفسك ! 

قالت : لماذا ؟ ماذا أخشى ؟ أنت تعرف أن موتي حتمي . 

ورددت هذا الكلام دون توقف . وتابعت : لو عرفت أنني سأعود إلى الحياة وأكون شابة سليمة مرة ثانية فيجب أن أخجل . طبعا يجب أن أخجل ، لكن لماذا الخجل الآن ؟ 

قلت : لكن من قال إنك ستموتين ؟ 

قالت : أوه ! لا . كف عن هذا ! لن تخدعني . أنت لا تعرف كيف تكذب . انظر إلى وجهك ! 

قلت : ستعيشين يا أليكساندرا أندرييفنا ! سأشفيك . سنسأل أمك بركتها . سنتزوج . سنكون سعيدين . 

قالت : لا . لا . قلت لي إن موتي حتمي . وعدتني . قلت لي . 

وكان ذلك قاسيا علي . قاسيا لأسباب كثيرة . ولك أن تتأمل ماذا تصنع التوافه . أحيانا يبدو ما تفعله ليس ذا قيمة البتة ، لكنه مؤلم . وعن لها أن تسألني عن اسمي الشخصي لا اسم عائلتي ، عن اسمي الأول . ولا بد أنني تعيس ؛ لأن اسمي الأول تريفون . نعم . حقا . تريفون إيفانتش . كل من في البيت نادينني بلقب الطبيب . ومع ذلك ما باليد حيلة ، فقلت لها : اسمي تريفون يا سيدتي ! 

فعبست وهزت رأسها وغمغمت شيئا بالفرنسية . آه . شيء سيء طبعا . ثم إنها ضحكت ضحكة ليست مستحبة . 

حسن . قضيت معها الليل كله على هذا النحو . وانصرفت قبل الصبح شاعرا كأنني مخبول العقل . وحين دخلت غرفتها ثانية كان النهار بزغ بعد شاي الصبح . يا الله يا كريم ! بالكاد تعرفت عليها . الذين يُودَعون قبورَهم يبدون أحسن منها . أقسم لك بشرفي إنني لا أفهم ، لا أفهم مطلقا الآن كيف عشت خلال تلك التجربة . بقيت مريضتي على قيد الحياة ثلاثة أيام بلياليها . ويا لها من ليالٍ ! ويا للذي قالته لي ! وفي الليلة الأخيرة _ وتخيل ذلك بنفسك ! _ كنت جالسا قربها ، فواصلت دعائي اللهَ طالبا منه شيئا واحدا . قلت : خذها حالا وخذني معها ! 

فجأة دخلت أمها الغرفة . وكنت أخبرتها ( الأم ) المساء الفائت بأن الأمل في الشفاء ضعيف ، وأنه من المستحسن أن ترسل لإحضار الكاهن . وعندما رأت المريضة أمها قالت : رائع جدا أنك حضرت . انظري إلينا ! نحن متحابان . 

سألت أمها : ماذا تقول يا طبيب ؟ ماذا تقول ؟ 

شحب وجهي وقلت : تهرف ! الحمى . 

إلا أن المريضة قالت : صه ! صه! قلت لي شيئا مختلفا توا وأخذت خاتمي .لماذا تتظاهر بخلاف ذلك ؟ أمي طيبة . ستسامحنا . ستفهم . إنني أموت . لا حاجة بي للكذب . هات يدك ! 

وثبت وخرجت عدوا من الغرفة . وبداهة أن العجوز حزرت حقيقة الحال . ومع ذلك سأكف عن إجهادك ، وطبعا مؤلم لي استرجاع ذلك . ماتت مريضتي اليوم التالي . اللهم أرح روحها ! 

وأردف الطبيب في كلام سريع وتنهدٍ : طلبت قبل موتها من عائلتها الخروج وتركي وحيدا معها . 

قالت : سامحني ! قد أكون ملومة في حقك . إنه مرضي . لكن صدقني ! لم أحب أحدا أكثر منك . لا تنسني ! احفظ خاتمي ! 

أدار الطبيب وجهه ، فأخذت يده . قال : آه ! لنتكلم في شيء آخر ! أم تراك تفضل أن تلعب لعبة " أحقية الدفع " على رهان صغير ؟ مثلي لا يستسلمون للانفعالات المهيجة . لا أفكر إلا في شيء وحيد : كيف أمنع أطفالي من البكاء وزوجتي من تقريعي . ومنذئذ _ أنت عارف _ توافر لي من الوقت ما كفى للزواج الشرعي مثلما يقولون . 

أوه ! تزوجت بنت تاجر . مهرها سبعة آلاف روبل . اسمها أكولينا . اسم يناسب اسم تريفون . ويجب أن أعلمك أنها امرأة سيئة الخلق ، لكن من طيب الحظ أنها تنام طول النهار . حسن . هل نلعب لعبة " أحقية الدفع " ؟ 

وجلسنا لنلعب تلك اللعبة على نصف بِني للنقطة ، فكسب تريفون إيفانتش مني روبلين ونصفا ، وعاد إلى بيته متأخرا جم الغبطة بفوزه . 

* للكاتب الروسي إيفان تورجينيف 

وسوم: العدد 1025