مستوى الحقد

ماجد عاطف

(إهداء: إلى مريضة بعينها، من حزب التحرير، سمعت عنها والكثير من عندي)

سنوات من النشاط المناهض وسنوات من مجابهتهم علانية والرد عليهم بالتحريض. لم يستطيعوا مواجهتها كامرأة موضوعا لموضوع أو تهمة لاثبات، لكنهم تمكّنوا منها.. في المكان غير الرسمي الذي اقتادوها اليه ظهراً، بعد اختطاف من الشارع من زاوية رصيف مهملة ودفع سريع في شاحنة صغيرة، طالعوها مطولاً عن قرب وتفحّص، يتداولون الساعة خلف الساعة أمرها في كلمات بينهم خافتة لا تسمعها.

عندما طلع صباح اليوم التالي، بدا كأنهم اتفقوا على شيء. غادروا وبقي واحد معها. إنها تعرف مَن هو بالضبط بعكس الذين غابوا، ولطاما كشفت حكايات له. أمام المكتب وجها لوجه، كالجريمة والحقيقة أو الحقيقة والجريمة، رافضة الجلوس رغم تعبها مفضلة الإبقاء على مسافة داخلية، خيّرها:

لقد فعلها الوحش من قبل وتعرف عنه الكثير ويستطيع فعلاً أن ينفّذ تهديده. الظرف العام لا يترك لها أحدا بما فيه أهلها، للوقوف إلى جانبها.

كانت تفكر في نفسها ونظرت بخجل من استسلامها إلى الأرض. لا تستطيع أن تواجه. صدّقته وخافت من لحظتها المنعزلة الخطرة.. وافقت على المستشفى كأخف الأضرار. لن تخون ولن تصبح مطمعا للابتذال وهي تخاف من القتل. في المستشفى ستعيش بعض الوقت، إلى أن يتغيّر الحال وتزول الغمّة.

رتّبوا الأمر مع أهلها الخائفين المتنفّسين للصعداء حين حلوا معضلات كانت تضيّق عليهم حياتهم والحركة يطالعون الكراهية الموجّهة، أمام الناس والمتابعين لها. اقتادوها -بجلبابها وصرة ملابسها- إلى المستشفى، وكأنما الصادر عنها كلام مرضى، المرض الذي يصيب الجميع والمتدينين أمثالها.

في القسم الأهم من المستشفى، وبعد صدمات لم تبق لشهورها الأخيرة أي ذكرى في عقلها أو المام بشيء أو وعي بواجب كأداء الفريضة، جاحظة العينين ترى الضخم مهولاً بالكاد تحيط أنه تفصيل صغير مثل قشة على طاولة المطبخ العام أو كوب بلاستيكي على الأرض يدحرجه النسيم، تستنشق الأنفاس بصعوبة كالآتي من كوكب آخر؛ أجبروها على تلقي محاليل وأدوية. حقن لا تستطيع دفعها وحبوب عليها أن تبتلعها. إذا امتنعت كما حاولت سيكون الضرب الشديد ومن ممرضات هنّ سجّانات في الحقيقة.

بعد أن نجحوا في تضييع ادراكها الذي سلّمت آخره أمرها لله (قبل أن تنساب في موجات بصر من صيف قائظ حار وألوان كيمياء)، أبقوها مدمنة على العقاقير والتسكين والبلادة غائبةً عن التكليف، تتحرك كجثة ذات دم وعروق تنتابها –بغتة- اختلاجات كحركات انعكاسية، أو تصنمات لنصف دقيقة كالتخشّبات.

لم يكتفوا بما أصبحت عليه، فأخذوا يعذّبونها بالطعام والشراب ذاته، فلا تشعر أبداً بمذاق الطعم أو تستمتع به. كانوا يحشون فمها فيتحرّك آليا كما يفعل طفل نعس، يمضغ ويبتلع نصف المضغة ويسقط نصفها. وعندما يحيط بها هزال أو نقص، يلجأون لتعويض بدنها بالحقن. لم يريدوا أن تموت فتستريح وقد يتورّطون، إنما تعذيبها لأطول وقت ممكن.

وسوم: العدد 1128