أليس في مملكة ماري "تُنسى، كأنك لم تكن خبراً، ولا أثراً... وتُنسى" محمود درويش

 يوشك الليل أن ينقض فوق قريتي، يدنو النهار من موتٍ محتم، تتزاحم الأشياء في مخيلتي، الموت والحياة، الحب والبغض، الوجود ذاته،

 ليس في كينونته-أفكر- بل في جدواه، أنظر الى باب الدكان، ما شأني بكل هذا طالما هي تأتي كل يوم، أميرتي التي تغير مفاهيم وجودي، 

 وتجعل كل شيء ذا معنى، الوردة التي نبتت من قنبلة لم تنفجر في ركام مبنى حطمته قنبلة انشطارية ..

 الأمل الذي ترمقه الحياة في حسرة، غادةٌ حسناء تشرق بعد المغيب كل يوم . 

 قضيت ساعة أعد النقود القليلة التي جمعتها من يومي هذا، وضعت "الفكة" في درجٍ عندما سقطت ليرة على الأرض ..

 كانت الشمس قد هربت بالفعل، وكنتُ مرهقاً مشتتاً لا أتمنى أكثر من دشٍ بارد وفنجاناً من القهوة الحلبية بالهال، ووسادة أحتضنها لأغط في نومٍ عميق . 

 هل أغلقت الدكان ؟ أفكر كل ليلة ، ثم أقول لنفسي : وماذا يهم ؟ هل يوجد فيه ما يسرق ؟ 

 سأنسى، أقرر أن أنسى شهادة التاريخ التي مزقتها يوماً، علني أنسى التاريخ ذاته . ثم أغرق نفسي في أعمالٍ يدوية مرهقة، أشياء تجعلني أتعب ولا أفكر، 

 ما أقذر التفكير حين يحتل كياني ! أصبح كرة هائجة في بحرٍ خضم، بحر أعظم من كل مخاوفي.. 

 في غمرة الملل الذي يخضب حياتنا صرت أبحث عن ذاتي في أدق التفاصيل،

 في وجه أحمد، طفلي الرضيع، وفي ضحكة سارة، ابنتي التي تشبه "أليس"، وترى نفسها أميرة العوالم كلها، كم أحسدها، "أليس" .. ليتني أتعثر مثلها، ليت الوطن يشبه جحر أرنب.

 عندما أخبرتني سارة عن ذاك الشبه ضحكتُ، ثم قلتُ لها وهي تداعبُ لحيتي :

 أنتِ صادقة تماماً، ورغم أنني لا أعرف صورة أليس الحقيقية، الا أن الذي أعرفه أننا فعلاً في بلاد العجائب . 

 قلتُها وأنصتُ قليلاً لصوت الطائرات وهي تلقي بحممها على الشارع المقابل لنا .. 

 ساعتها نظرَت اليَّ نظرةً حملَتْ ألف سؤال، في عينيها كانت تسألني : لماذا يا أبي تلقى هذه البراميل المتفجرة فوق رؤوسنا ؟

 هل أغضبنا آلهتنا فأرسلت حمم الجحيم فوق رؤوسنا ؟ أي جريمة ارتكبناها ؟

 ولأني لم أكن أعرف جرمنا، قلت في نفسي: ارتكبنا جريمة الحب.. 

 ولم أكمل حتى أفكاري..

 كنتُ أربتُ فوق رأسها دون أي حرف، ولم تكن هي تسأل، ولم تكن نظرتها لتحمل الا هماً سرعان ما يزول، حين تخلع نعليها، وترقص حافيةً أمامي،

 رقصةً طفولية لم أكن أركز في تفاصيل موسيقاها، لأن أذني كانت مصغيةٌ أكثر لأصوات البراميل المتفجرة بالخارج، وجسدي كان يرتجف انفعالاً عليها،

 تصفيقي عالٍ علها لا تسمع سواه، ربما لتحتفظ ببراءة أعلم يقيناً أنها فقدتها حين داست الدبابات أشجار الزيتون المتناثرة في ريف حلب.

 كانت زوجتي مها، مدرسةُ لغة عربية ضلت حروف اللغة منها، تجلس لتدرِّس سارة، فلا تجد ما تقوله في كتاب التاريخ أو الجغرافيا،

 وكلما تحدثت عن حدود سوريا كانت مها تبكي، وكلما ذكرت شيئاً من تاريخ سوريا كانت دموعها تغرق كتاب التاريخ . 

 "كانت طفلتنا ماري، أختك يا أوغاريت، حين كان الكون يراقب سوريا، فلا تستيقظ الكواكب الا ان هي فعلت، 

 ان طوحت سوريا برأسها يميناً تتمايل كل الدنيا، وإن تمطت قليلاً لا يتسع الكون لها، وإن ضحكت ترقص السماء رقصتها الأولى" ,,

 قلت لسارة : كانت "ايبلا" أختاً ثالثة ، سقطت بصاروخٍ أطلق من طائرة "ميغ" ، ثم عضضت على أسناني، ونظرتُ لمها نظرة عتاب .. 

 ألم نعاهد أنفسنا أن ننسى التاريخ ... تباً للتاريخ .. بل تباً لنا .. 

 ثم أذهب للشرفة لأمارس هواية التدخين، بعد انقطاعٍ دام سنوات، صرتُ أشعل السيجارة لأتأملها تحترق أمام ناظري ..

 هكذا دون أن أشهق نفساً واحداً منها.. ليس اهتماماً بصحتي، بل لأن صدري ببساطة لم يعد يحتمل . 

 ,,,

 ذاتها الذكرى تداهمني وقد انحنيت لآتي بالليرة التي سقطت، لا أقبل أن تدوسها قدمي، ككل شيء ديس بالأقدام، مسحت عنها التراب، ووضعتها باهتمام بجوار أخواتها، كقيمةٍ رغم أنها ما عادت ذات قيمة.. 

 عندها أغمضت عيني دهشة، عندما دخلت الشمس فجأة دون استئذان، وأمام باب دكاني الصغير وقفَتْ. 

 ألم أخبركم، أن الشمس تزورني كل يومٍ، مرتين ؟

 في تؤدة تهادت كأنها احدى آلهة الإغريق، تأتي من اللامكان، فقط لتضعني كل يوم في الجنة، فأنسى كينونتي وسبب وجودي في الدكان، لا أعد أعرف ما البيع وما الشراء، وأنسى كل شيء سواها .. 

 قالت بصوتٍ مرحٍ متغنجٍ : مرحباً عمو .. 

 سقط قلبي بين قدمي وأنا أنظر لشعرها الحريري الأسود وهو يتهادى على كتفيها، ورمشيها الطويلين وهما يعملان أمام نافذة عينيها بسرعتهما القصوى،

 كأنهما حارسان عملاقان يحرسان جنية أميرة من أعين المتطفلين، يحرصان ألا يصل الى عينيها أحد .. 

 صوت عبد الحليم يدوي في أذني، "من حاول فك ضفائرها يا ولدي مفقودٌ مفقود" ..

 ثم قلت لنفسي وكأني أهوى تعذيب ذاتي، وكأنها سوريا ! ثم ابتسمتُ قهراً ..

 قالت : ما بالك لا ترد يا عماه ؟

 فاستفقتُ وقلتُ لها : لأني أذوبُ كلما تأملتُ جمالكِ يا أميرة حلب ، يا أليس في بلاد العجبْ .

 ضحكَتْ، وبدا وجهها كأنه امتص اللون الوردي من كلِّ شيء في الدنيا ، رأيت الشارع كله باللون الأبيض والأسود، وبوجهها تدرج الألوان كلها .. 

 أكملتُ : ألن تتوقفي عن كلمة عماه .. أنا أكبرك بعشر سنواتٍ فقط ، والله لولا زوجتي وأولادي لطلبتُ يدك فوراً .. 

 بترَتْ ضحكتَها قبل أن تولد، ولم تبتسم لمداعبتي، واكتفت بأن طوحت بشعرها يساراً واستدارت هي يميناً تبحث في الرفوف عن حبة الشيكولا التركية التي تفضلها .. 

 مدت يدها الرقيقة بالنقود الي، ونظرتُ أنا لها في حنان، وقلتُ: 

 كوني حذرة يا غادة، البسي طرحتك وحاولي ألا تخرجي مساءاً .. هناك صقورٌ مجنونة تحوم ليلاً حولنا. لا اريدك فريسةً سهلة ، بل ان أحببتِ يمكنني أن آتي بحبة الشيكولا لكِ الى باب بيتك .

 نظرَتْ لي في امتنانٍ وقالت :

 لم نخف من الطائرات حتى نخاف ممن يحاول قطع رؤوسنا إرضاءً لنزواته، أو لأنه يظن امتلاكه وكالة من الله، أعتذر يا عماه، سآتي كل يومٍ من أجل حبة الشيكولا، سآتي في نفس موعدي وخط سيري، ولسوف أحضر معي شعري وأنوثتي لأني لم أعد أملك غيرها .. فقد فقدتُ كل شيء كما فعلتَ أنـــ...

 ولم تكمل حرف التاء اذ بترته في تأسف وأطرقتْ برأسِها اعتذاراً، ثم انصرفت مسرعة عني، عن باب دكاني الخشبي القديم، عن الحارة التي أصبحت آخر ما تبقى لي.. 

 غابت الشمس مرة أخيرة عني، لم أسمع صوت غادة اذ صرخت حتى قطع حلقها، ولم يتحدث أهل القرية عن فتاةٍ رفضت أن تُسبى، كأني بحارسي غادة/رمشيها وقد أبقيا عيناها مفتوحتان في مهمة أخيرة لم تكتمل، قطعتُ الطريق الى مكان الجريمة فقط لأغمضهما، وأربط شعرها كيفما اتفق، قبل أن يشيعوهما معا، الرأس والجسد ..

 عدت الى بيتي، دكاني القديم، وقد صارت غادة ابنةً أخرى، تسكن مع سارة، يتقاسمان حلم أليس، في مملكة "ماري" في بلاد العجب

.

 

***

وسوم: العدد 624