من أين أنت يا أمي ؟

عبير عبد الله الطنطاوي

جلست كعادتي على الأريكة في غرفة الجلوس في بيت أهلي الدافئ , طفلاي يلونان على دفاتر رسم أحضرتها لهما الوالدة الحنونة ، وأنا واضعة جهازي (اللاب توب) لأكمل عملي الذي ما أسعفني الوقت لأنهيه في الشركة ، أتطلع إلى أن أتمه قبل أن يأتي (أبوعمر) ليصحبنا إلى المنزل ..

أمي .. تلك المرأة الطاهرة .. ستينية العمر .. لها بهاء المرأة القديسة التي لا تهرم .. تلك الشعيرات الشقراء المخلوطة بالبياض .. عينان خضراوان صغيرتان فيهما مروج الأرض وجنة الدنيا .. تجاعيد بسيطة تحكي قصة كفاح لأم أعطاها الله طفلاً معاقاً عاش عمراً على أكتافها هي هرمت وهو لم يكبر بعد ..

والدي مسافر .. رجل على مشارف السبعينيات .. يعشق أمي .. يذوب فيها .. هي امرأته في الدنيا .. ويرجوها من الله في الآخرة في جنات النعيم .. لا يحلو له عيشاً بدونها .. هو مسافر بجسده ولكن عقله وقلبه معها .. مقولته الدائمة :

ـ لا إمرأة كأمكم .. لا طبخ يعدل طبخها .. لا شيء يشبهها ..

لا يعرف لذةً لطعامه ولا لشرابه من دونها .. هي تشعر أنه يخنقها .. ولكنها سعيدة بهذا القيد الذهبي الجميل الملفوف على رقبة حياتها ..

أمي القديسة تقف على سجادة الصلاة .. تصلي بخشوعها المعتاد .. فجأة بدأت ألحظ امتعاضاً في وجهها .. خاصة عندما تسجد ، قلت في نفسي :

ـ لعلها تدعو لوالدي الغالي .

وعدت إلى عملي منهمكة به .. فجأة قال عمر :

ـ ماما ... تيتة تبكي ..

نظرت إلى أمي .. فإذا دموع الماس تلمع على خديها المشربين بالحمرة .. قلت لعمر :

ـ لا تقلق ماما ، هي تدعو الله فقط .

وما إن أنهت صلاتها حتى بدأت تشهق باكيةً .. صوت نحيبها يقطع أوتار القلب الذي يحبها ..

ركضنا نحوها نحن الثلاثة أنا وعمر ومها نصرخ :

ـ ماذا حصل ؟ تكلمي يا أمي ؟؟

ـ تيتة تيتة ..

وبعد جهد قالت أمي :

ـ لقد أنهكني وجع الركب ، أما اليوم فلم أعد أحتمل ..

قلت لها بلهفة :

ـ ومنذ متى هذه الآلام ؟

قالت :

ـ قبل سفر والدك كانت الآلام مقبولة .. أما الآن فلم أعد أحتمل ..

قلت لها :

ـ وصابرة يا أمي ؟ والدي منذ شهر مسافر .. صابرة إلى الآن ؟؟ والله لن أنام الليلة إلا عندك وغداً صباحاً إن شاء الله نذهب معاً للمستشفى ..

صرخت مذعورة :

ـ وأبوك يا بنتي ؟

ـ أبي !! ما به أبي ؟ سوف يعود بعد أسبوعين إن شاء الله ..

قالت وهي تتظاهر بالقوة :

ـ الحمد لله يا بنتي كأن الألم قد زال ..

قلت لها :

ـ هل تعرفين يا ماما أنك لو رأيتك تقفزين على الأرائك قفزاً سنذهب غداً إن شاء الله إلى المستشفى ..

قالت بعصبية :

ـ وأبوك يا بنتي ؟

ـ ما به ؟

ـ كيف أذهب من دون علمه ؟ وكيف أنزل على الدرج ورجلي لا أستطيع أن أثنيها ؟ وما لي ابن شاب أتوكأ عليه ..

وبدأت الدموع تهطل .. أمي .. أنت في زمن لا يصلح لك .. أمي .. قديسة في زمن الآثمين .. أمي وردة في حقل ألغام ..

قلت لها :

ـ أبوعمر ابنك .. هو يسندك ويأخذك إلى المشفى ..

اعترضت بحياء :

ـ هو ابني .. وأعز .. ولكني أستحيي منه .. يا بنتي لقد شفيت رجلي ..

وبعد حوار طويل توصلت إلى مساومة معها ، أن أبيت الليلة ومنذ إشراقة الصباح نتصل بالطبيب نسأله فإن رآى أن نذهب إلى المستشفى ذهبنا معاً وإلا فلا ..

أخبرت (أبا عمر) بالأمر وهو رجل شهم .. ما إن سمع بمرض الوالدة حتى اهتزت جوارحه خوفاً وحباً لتلك الأم العظيمة .. كان يقول لي دائماً :

ـ ما رأيت حناناً ولا وداً ولا صدقاً كحنان وود وصدق أمك ..

انقضت ساعات الليل طويلة على أمي .. كنت أسمع صوت أنينها وهي في غرفتها ، صوتاً يقطع نياط القلب .. صوتاً مخنوقاً ، تريد أن تكبت ألمها .. راقبتها وهي تحاول طوال الليل الاتصال بوالدي تطلب إذناً كي يسندها صهرها ويأخذها للطبيب .. وكأننا سنذهب إلى حفل لا إلى طبيب محترم ..

ما إن دقت الساعة الثامنة .. حتى بدأت أتصل بالطبيب .. وأخيراً أجابني بضرورة حضور المريضة .. ذهبت إلى غرفتها لأنقل لها الخبر .. رأيت عينيها تدمعان .. قلت بلا تردد :

ـ لا نقاش البسي واذهبي إلى الطبيب حالاً ..

قالت :

ـ أخوك لم يفطر بعد ، وأنت وأولادك ما أفطرتم أيضاً .. يا عيب الشوم زوجك ضيف ولم يفطر بعد أيضاً .

قلت لها منذرة :

ـ خلال عشر دقائق تكونين جاهزة ويكون إفطار الجميع على المائدة وإن لم تفعلي والله لأخبرنّ أباعمر وأتركه يتصرف معك ..

وأنا أعرف كم تستحيي من صهرها بل ومن بنتها حتى ..

ولم تمض الدقائق العشر إلا وكانت جاهزة .. وواقفة على المائدة .. قالت :

ـ أبوك وافق الآن الحمد لله على زيارة الطبيب ولكن يا قلبي عليه كم انشغل باله لأني لم أصبر على الألم حتى يعود ..

قلت متمتمة :

ـ تصبرين أسبوعين .. الله أكبر ..

كان زوجي يمسك بيدها اليمنى بقوة وكنت أمسك باليسرى .. كانت آلامها شديدة .. وقفت فجأة .. وطلبت منديلاً .. نظرت إليها فإذا عيناها غارقتان بالدموع ، طار عقلي ..

ـ ما بك ؟ ألهذه الدرجة الآلام ؟ أمي ..

قالت بغصة وهمس كي لا يسمعها أبوعمر :

ـ الله لا يحرمني منك ومن أبيك .. أنا أبكي حياءً من رجل يمسك بيدي ..

لا جواب سوى أنك طاهرة بدرجة تفوق الممتاز .. هو ابنها شرعاً ..

وصلت أمي إلى السيارة بأعجوبة ، ودعتها وقلبي معها لأبقى مع أخي وطفليّ ..

مرت الساعات ثقيلة وهي خارج المنزل .. أخي إنسان لا يهدأ .. طلباته لا تنتهي .. ضجته تثير السخط .. أصواته تعلو تضغط على الأعصاب .. آه يا أمي كم تعانين منذ أكثر من خمس وعشرين سنة ووجهك لا يزال يطفح نوراً وبركة .. لما عادت أمي هي وزوجي ، اتصل بي كي أسندها معه لتصعد الدرج .. نزلت مسرعة أطلب رضاها وأقبل الأيدي الطاهرة .. ركضت إلى نور الحياة لا المنزل فقط .. وجدت زوجي مبتسماً وجهه يطفح بشراً وسروراً ، قلت :

ـ أخباركم سارة أليس كذلك ؟

قال بفخر :

ـ أمك غيييير النساء .. امرأة ما صنع زماننا مثلها ..

صعدنا إلى المنزل وأمي وجهها أحمر خجلاً وحياءً وتعباً ومرضاً ، ولكن النور يتسلل من بين الأوجاع ..

قال أبوعمر :

ـ الطبيب قرر أن يعطيها إبرة في ركبتها وهنا يا أم عمر بدأت مسرحية أمك والطبيب .. الوالدة رأسها وألف سيف لا تأخذ الإبرة إلا إذا اتصلت بالحجي وووافق الحجي على الإبرة فسألها الطبيب :

ـ حجيك يا أمي طبيب ؟

قالت : لا ..

قال : اتصلي حالاً به ، المرضى في الخارج لا وقت لدينا ..

قالت : لا ..

قال لها : ما معنى ما تقولين ؟

قالت : أعود إلى المنزل وأتصل به في وقت يناسبه كي لا يخاف من الاتصال وعندما ينهي عمله يتصل على راحته فآتي غداً أو بعد غد للإبرة ..

ـ هل تعرفين يا أم عمر ما فعل الطبيب ؟ طبعاً ضحك من قلبه دقائق ثم فتح باب العيادة وصار ينادي في المرضى :

ـ يا نساء العيادة تعالين انظرن إلى امرأة من زمن الصحابة ..

الله وكيلك تجمع الناس علينا والطبيب من سعادته بها قال لها :

ـ يا أمي لما حجيك يرد على الهاتف اتصلي بي وسوف آتي إلى منزلك وأعطيك الإبرة وبلا أجر سوى أني أريدك أن تستقبلي زوجتي وتخبريها عن حياتك .. علميها كيف تعيش نقية في زمن الترسبات ..

ضحكت من قلبي وضحك زوجي .. وضحك الأولاد من دون أن يفهموا شيئاً مما يحصل .. أما أمي فذابت خجلاً وحياء ..

وسوم: العدد 685