دراجةٌ لأبي حذيفة

محمد الحسناوي

في ليالي الصيف يطيبُ لي السهر.. وأن أطيل السهر حتى الصباح مستمتعاً بالخلوة إلى كتبي وأوراقي.. كل ما حولي يغريني بهذه العادة المحببة.. ضجة الشارع تتوارى مع تواري النهار، وحرارة الجو تنحسر برضاها.. أما أسرتي الصغيرة، فتستسلم لأحلامها المتواضعة الرضية..

وهكذا شأني كل ليلة.. أسرح وأمرح في مكتبتي منتقماً بنفسي ولنفسي من مشاغل النهار وعوادي الأيام..

في مثل هذه السهرات لا يعكرُ صفوي استيقاظ زوجتي العارض.. أو مرور أحد أولادي الثلاثة: محمود وميسون ويمان..

هذا الأخير الصغير (أبو حذيفة) ربما فاجأني بعد منتصف الليل يتمسح بي، فيتمدد أمامي على أقرب مكان، يؤدي ضريبة الحب على طريقته الخاصة، ولعله يحتج على انشغال الأب الدائم.

- يا أبا حذيفة.. اذهب إلى سريرك يا بني.. هل أنت عطشان؟!

لا يجيبُ.. أقصى ما يبديه من استجابة أن يهزَّ ذراعه في الفراغ معلناً الرفض.

- خذ اشرب.. انهض يا بني.. أخشى عليك من البرد.

لا يجيب ما لم تستيقظ أمه، وتزجره. فهو بصراحة يخاف منها بقدر ما يطمع بي، ويعلم علم اليقين أنني أحابيه وأداريه، بل ربما يدرك أنني أخاف منه. أخاف أن يبكي، أو أن يزمجر في وجهي السالخ من المرارات أربعين سنة.

الله أعلم بأي مدينةٍ من مدن الخيال كنت أطوف حينما أقبلت (أم محمود) – على غير عادتها – في تلك الساعة المتأخرة.

طرحت الكتاب جانباً، حادساً أهمية الزيارة التي فرضت علي.. لا بد أن مرض أبي حذيفة هو السبب.. لقد غاب عني في الليالي الأخيرة يُناوش هواجسه وكوابيسه الطفلية مع ارتفاع درجة حرارته.

قبل أن أسألها فوجئت بدموعها تطفر من عينيها. انصرف ظني إلى تضاعف مرضها بالسكر، أو إشرافها على الخطر، أو أنَّ أبا حذيفة أسلم روحه الطاهرة.

إن أعصاب زوجتي – يشهد الله – أقوى من أعصابي، ولطالما تماسكت هي أمام المصائب التي أضعف أنا أمامها، لا سيما مرض الأطفال.

قلت: خيرٌ إن شاء الله!

قالت: سنشتري دراجة لأبي حذيفة.

كدتُ أضحك لما نطقت بهذه الكلمات.. فالزوجة إذاً بخير، والأولاد كذلك، حتى أبو حذيفة الذي تقرر شراء دراجة له، هو الآخر بخير. فما الذي يبكيها؟

لا شك أن عقل المرأة الراجح قد عصف به عاصف، فاستدار من العسر إلى اليسر، لقد كنت أنا الراغب في شراء الدراجة، وكانت هي المعارضة بحجة التوفير لأداء فريضة الحج التي أجلنا أداءها أكثر من مرة.

في مثل هذه المواقف يحلو لي أن أتأمل الدوافع والملابسات التي أسهمت في تغيير الأوضاع والقناعات، لطالما شهدت أبا حذيفة ينافس أولاد الأقارب والجيران على دراجاتهم بفرح سماوي وحركات رشيقة خلابة.. بالاستئذان منهم حيناً، وبالاغتصاب والمغاضبة أحياناً.. إن كان أقوى منهم لم يُبالِ كثيراً باحتجاجاتهم، وإن كانوا أقوى منه أقبل علي دامع العين، منكسر الجفن، متهدل الأطراف، أما أنا ففؤاد ممزق بعدد الأشعار المتزاحمة المتلاحمة على رأس أبي حذيفة. كم لحق بي الطفل إلى باب الدار يودعني، ويذكرني بشراء سيارة ودراجة.. فأتخيل طريقي إلى أحب بقاع الأرض.. يطول ويطول.. أين مني الطواف بالبيت العتيق بيت أبينا إبراهيم وإسماعيل – عليهما السلام -؟ وأين مني السعي الأثير ببين الصفا والمروة، أو الوقوف بعرفة، والمبيت بمنى ثم السلام على الحبيب الأكرم محمد صلى الله عليه وسلم؟ كيف أستطيع أن أفهم هذا الطفل (يمان) مشكلتي؟!

إن أخويه – على صغرهما – قطعا شوطاً رحباً في فهم واقعنا ومطامحنا المحدودة، فمحمود الذي لم يتجاوز الرابعة عشرة يفطم نفسه عن كثير من صبوات أمثاله، برغم أن المال يجري إنفاقه على يديه، وميسون بنت التاسعة تفوق أترابها هدوءاً واتزاناً، لكنَّ أبا حذيفة الصغير السن يستمتع بصلاحيات أرحب من صلاحيات أخويه.. طفولة بريئة.. خيال وثاب، طموح لا حدود له، كل ما في الدار ملكه، وهو المتفضل علينا، لم لا يأمر وينهى، ويعدد الشروط والمطالب؟! دراجة وسيارة.. دراجة له هو وحده.. وسيارة ليحملنا بها جميعاً إلى الحدائق والبلدان.

تأملت هذا كله في لحظات سريعة، وهو لا يحتاج لكد الذهن.. إنه يكاد يكون حاضراً تحت الطلب.. كيف لا وأنا أعيش في مملكة أبي حذيفة؟ مع ذلك لم أجد سبباً كافياً لتبدل رأي زوجتي هذا التبدل المفاجئ.

قبل أن أعيد تأمل الموقف الجديد قالت:

- غداً تسترد نصف المبلغ المودع أمانة لشراء دراجة (إيمان) وأغراض العيد.. إنَّ العيد على الأبواب وأنت تحتاج إلى .. ويمان بات من الضروري عرضه على الطبيب.

شرعت تعدد ما يلزمني من ثياب، وتسرد حاجات الأولاد حاجة حاجة.. لم تذكر شيئاً من حاجاتها هي، مما يؤكد أن لا مصلحة مبشارة لها في هذا التحول.. أضافت:

- أما تكاليف أداء فريضة الحج، فسنستكملها بعد قبض تعويض الساعات الخاصة على سبيل السلفة أو الاستعجال.

الخطة إذاً مدروسة.. الحلول جاهزة بعد مراجعة ذاتية عقلية.. لم أُبد أدنى معارضة.. كل ما تسوقه لا يتجاوز اقتراحاتي ورغباتي التي أرددها على مسامعها جداً ومزاحاً، وهي تناور وتداور، مستشفعة بأهمية أداء فريضة الحج، وبشوقنا العارم لزيارة تلك الديار المقدسة، وقد قضينا ما علينا من ديون، لا سيما ثمن المنزل الذي ألهمنا المولى تعالى شراءه قبل جنون الأسعار المتعاظم. إنَّ نزول زوجتي عند رأيي لا يعني هزيمة لها، إن علاقتنا أسمى من هذه الاعتبارات الشكلية، مع ذلك تطوعت لتعليل موقفها الجديد:

- هل تعلم ماذا قال يمان لما هبطت درجة حرارته، وعاد إلى وعيه المألوف؟ قال: إنه سيموت..

- أعوذ بالله..

- وقال: إنه سوف يذهب إلى الجنة..

برغم استغرابي لخطورة مثل هذه الخواطر على بال طفل كأبي حذيفة. غرقت في لجة من التصورات.. ماذا يفهم ابن ثلاث سنين ونصف من الموت والجنة؟ رأيتني محمولاً على أجنحة لا أراها، أبحث عن مكاني المأمول في رحاب الجنة، وعن الأحبة محمد – صلى الله عليه وسلم – وصحبه، لا شكَّ أن الطفل سمع بالموت والجنة والنار من أخويه، فأخذ يهرف بما لا يعرف.. يبدو أن أمه قد استغربت خواطره وتصريحاته المصيرية، فسألته مستوضحة:

- وماذا يوجد في الجنة؟

- يوجد دراجات وسيارات.

لم أستطع تمييز الدموع التي استأنفت مسيرتها على وجه الأم.. إنني أعاني اللحظة تجربتها العاطفية بدقائقها وتفاصيلها من أولها إلى آخرها.. دراجات وسيارات ! لا تخطيط ولا تدبير. كانت تكتم عني هذه القصة إلى أن استيقظت آخر الليل، وتحسست حرارة أبي حذيفة، فوجدتها مرتفعة جداً، كما وجدته ناحل العود، متقطع الأنفاس.. الزبد يعلو شفتيه المتيبستين، وقد قضى ثلاثة أيام لا يسوغ طعاماً.. قلت:

- لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. صباحاً سوف أتدبر الأمر إن شاء الله تعالى.

اليوم التالي حملت أبا حذيفة إلى الطبيب في سيارة صديقي، فاستمتع الطفل برؤية الناس والعمارات الشاهقة والعربات المزدحمة على طرفي أيما استمتاع.. ربما كان ذلك سبب شفائه العاجل من وافدات الصيف.. كما أتيح لنا دفع ثمن الدراجة لصديق آخر مشهود لخبرته في حسن الاختيار وعقد الصفقات.. ثم جاء عيد الفطر، وقد اشترينا ما استطعنا شراءه من حاجات، إلا دراجة يمان التي نحدثه عنها.. ويحدثنا هو الأحاديث المستفيضة.. لم يكن يدري أن الدراجات قد فقدت من السوق، وإننا لا نقل عنه لهفة في انتظار الدراجة.. وحينما طال الانتظار فترت الحماسة، وضاقت دائرة الاهتمام، حتى انطفأ الحديث أو كاد.

إنَّ ثمن الدراجة مدفوع، والصديق الموكل بشرائها أمين حريص، وسوف تستيقظ المسألة في أوانها بالتأكيد حين نستلم الدراجة.

هناك شيء آخر كنا ننتظره منذ سبع سنوات، ألا وهو انتقال (الهاتف) من منزلنا السابق إلى المنزل الجديد.. لم نفلح في نقله على الرغم من المساعي الحميدة وغير الحميدة.. إنَّ (الهاتف) في المدن الكبرى أصبح ضرورةً ملحة، تختصر الجهود والزمن، وعلى الأخص بالنسبة إلى سكان الضواحي أمثالنا.

أخيراً طرق الباب.. نصبت الأسلاك.. استلمنا جهاز (الهاتف)، وترتب علينا سداد النفقات المستحدثة والقديمة. فنسيبي كان قد تطوع بدفع الرسوم ليشاركنا الانتفاع بالهاتف، أما الآن فقد صار الهاتف لنا والرسوم له، وهي تعد بمئات الليرات.

- من أين لنا سداد رسوم الهاتف – يا أم محمود؟

- نستغني عن شراء دراجة أبي حذيفة.

- لا يكفي.

- ونؤجل الحج إلى عامٍ قادم.

وسوم: العدد 753