«العمى الاستراتيجي» في الولايات المتحدة!

علي حسين باكير

خلال الشهر الماضي، تابعت ما تيسّر لي في الصحافة والإعلام المحلي والدولي عن الأزمة بين تركيا والولايات المتّحدة، وذلك بعد أن فرضت المعركة بين العضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو) نفسها بقوّة على العلاقات الثنائية، وعلى الساحة الإقليمية والدولية كذلك. شملت هذه المتابعات أيضاً الاطلاع على وجهة نظر الجانب الأميركي حول الموضوع، والكيفية التي تم من خلالها مقاربة الأزمة من وجهة النظر الأميركية. 

كان لافتاً بالنسبة لي كمتابع خارجي أن أجد عشرات المقالات ومثلها من المداخلات والبرامج السياسية التي استضافت العديد من الخبراء من مراكز بحثية مختلفة، التي تتكلّم بصيغة سلبيّة شبه موحّدة. لا يمكن القول إنّ وجهة النظر هذه تنسحب على جميع الأميركيين، فقد كان هناك بالتأكيد وجهات نظر معتدلة وأخرى مخالفة، لكن غالب الآراء الظاهرة على السطح أو التي أريد لها أن تظهر كانت تعكس في حقيقة الأمر ما يمكن تسميته بالعمى الاستراتيجي الأميركي.

في ظاهرة «العمى الاستراتيجي»، يتّجه الخبراء أو المحللون الأميركيون إلى مخاطبة أنفسهم بدلاً من تحليل ما يجري، وغالباً ما يتم تدوير نفس الأفكار ونفس وجهات النظر ونفس التوصيات التي تنظر إلى المسألة من زاوية ضيّقة، وبشكل يغلب عليه الطابع الأيديولوجي، وفي كثير من الأحيان يذهبون بعيداً في موضوع الشخصنة والشيطنة. 

من المثير للانتباه أيضاً أن شريحة واسعة من هؤلاء كانوا أكثر تطرفاً من الإدارة الأميركية نفسها، البعض طالب بطرد تركيا من الناتو على اعتبار أنها لم تعد شريكاً تنفّذ ما يطلبه الجانب الأميركي، البعض الآخر رأى ضرورة فرض المزيد من العقوبات الاقتصادية. هناك من ذهب أبعد من ذلك ليطالب كذلك بتغييرات جذرية في طبيعة تعامل الإدارة الأميركية مع تركيا، معتبراً أنّ الإدارات السابقة كانت ضعيفة في تعاملها مع أنقرة، وأنّه يجب على الإدارة الأميركية أن تتعلم من موسكو، وتفرض مزيداً من العقوبات القاسية على أنقرة حتى تدفع الثمن، وتضطر إلى أن ترضخ.

أمّا الروايات التي تبرّر هذه التوصيات، فهي أنّ أنقرة لا تتصرّف كشريك، تغادر الغرب، وتتعاون عسكرياً مع روسيا، ولم تتعاون مع واشنطن في سوريا، وتعتقل مواطنين أميركيين كرهائن، أضف إلى ذلك أنّ الرأي العام التركي معادٍ للولايات المتّحدة، وبالتالي لا فائدة من محاولة التصرّف بشكل ليّن مع تركيا. لا يتم من خلال هذه المبررات تحويل انتباه القارئ أو المتابع عن حقيقة الأزمة فقط، بل يجري تهيئة الأرضية لتصعيد الأزمة. التشديد عليها يتجاهل بشكل تام وجهة نظر الطرف الآخر، والأهم من ذلك أنّها إذا كانت صحيحة تتجنّب الإجابة عن السؤال الأساسي وهو «لماذا؟».

لماذا يا ترى تتّجه تركيا إلى شراء منظومة دفاع صاروخية روسية بدلاً من الأميركية؟ لماذا تضطر أنقرة إلى البحث عن تفاهمات مع روسيا أو إيران في سوريا؟ لماذا تحتجز القس الأميركي وتحاكمه؟ لماذا لا ينظر الرأي العام التركي إلى الولايات المتّحدة الأميركية بإيجابية؟ وهي حالة ليست حكراّ -بالمناسبة- على الرأي العام التركي، وإنما على معظم شعوب المنطقة. يتفادى هؤلاء المحللون الذين يتم الدفع بهم إلى واجهة الإعلام الأميركي الإجابة عن هذه الأسئلة، ويتم القفز مباشرة إلى النتائج، حيث يجري بناء السيناريوهات عليها، وتقديم التوصيات استناداً إليها، وذلك بدلاً من معالجة أسباب الأزمة من جذورها.

الإجابة عن هذه الأسئلة أمر ممكن، وأجوبتها معروفة، ومن دون إقرار الولايات المتّحدة بذلك، فإنها تدفع باتجاه تكرار أخطائها الاستراتيجية في المنطقة دون أن ترى ذلك، وهذا ما نسميه بـ»العمى الاستراتيجي».

 

وسوم: العدد 787