“حميدتي” وأمثولة الوحش المنقلب على خالقه

هذه المرّة لم يكترث ستيفن كوتسيس، القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم، بمراعاة التقاليد الدبلوماسية والأعراف البروتوكولية، فقصد منبع السلطة بدل سواقيها: كانت زيارته الرسمية الأولى، بعد عزل دكتاتور السودان عمر حسن البشير، إلى النائب بدل الرئيس؛ فالتقى مع الفريق أوّل محمد حمدان دقلو، وليس مع عبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي.

ذلك لأنّ كوتسيس كان يعرف، متسلحاً بتقارير إدارته في واشنطن، المتكئة بدورها على تقديرات المخابرات المركزية الأمريكية، أنّ الرجل الأقوى في السودان الراهنة هو هذا الرجل؛ الملقب بـ”حميدتي”، والذي تشهد على تاريخه “مآثر” متعاقبة متكاملة، ظلت جميعها تنقل المياه الأخلص إلى طواحين نظام البشير. لكنّ العالم بأسره كان، في المقابل، يعرف ما يكفي عن تلك “المآثر” التي تضافرت لتسليم أعنّة السلطة إلى فتى من قبيلة صغيرة تشادية الأصل، هربت من المجاعة والتجأت إلى إقليم دارفور؛ حيث انخرط “حميدتي” في ميليشيات الجنجاويد، وقفز سريعاً إلى مرتبة “أمير” بتشجيع من زعيمها يومذاك موسى هلال. حينذاك تنبه البشير نفسه إلى “خصال” سليل تجّار الجمال هذا، في ارتكاب المجازر الجماعية واغتصاب النساء وحرق القرى، فمنحه رتبة عسكرية في الجيش السوداني، وولاّه القيادة على كتائب نظامية.

طريف في هذا المقام أنّ عقلية التجارة، في معانيها الأحطّ والأخسّ والأرخص، لم تفارق 

“حميدتي”؛ حتى الساعة، على الأرجح: ابتداءَ من تجارة المفروشات الشرقية، إلى الاتجار مع مهرّبي ليبيا باللاجئين المارّين من السودان، وصولاً إلى المتاجرة بتمرّد دارفور ذاته في محاولة ابتزاز البشير. ليس، في هذا وسواه، من دون الترويج لشخصه وللميليشيا التي يقودها (وصارت تحمل اسم “قوّات الدعم السريع”، بالطبع) عبر شاشات التلفزة العالمية، كما يروي جيروم توبيانا؛ الذي يساجل بأنّ “حميدتي” هو الوحش الذي خلقه البشير لالتهام تمرّد دارفور، فكان أن انقلب على خالقه حين انتهت صلاحية هذا الأخير في سدّة النظام العليا.

صحيح، استطراداً، أنّ الفريق أوّل دقلو لم ينفّذ أوامر البشير بإطلاق النار على الاعتصام أمام مقرّ قيادة الجيش في الخرطوم كما تردد في الأخبار، وأنه زار أحد جرحى الاعتصام وأظهر انتماءه إلى مطالب الشعب. ولكن من الصحيح أيضاً، بل هو الأصحّ فعلياً، أنه في ذلك وسواه كان منسجماً مع الدور الذي رسمه لنفسه ولقوّاته، بوصفه رأس الحربة في ترتيبات كسر الانتفاضة على نحو منهجي ومنتظم، وذلك منذ أن أجبر رئيس المجلس الانتقالي الأول عوض بن عوف على الاستقالة بسبب الخلاف حول طرائق التعامل الميداني مع الانتفاضة الشعبية.

وهكذا، في جانب أوّل ينشر “حميدتي” قرابة 13,000 عنصر من “قوات الدعم السريع” في شوارع الخرطوم الرئيسية، ويقيم الحواجز على المداخل والمواقع الحساسة، ولا يتورّع عن تذكير السودانيين بأنّ هؤلاء الذين ارتكبوا الفظائع في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق يمكن أن يستنسخوا الأهوال ذاتها هنا؛ وقد فعلوا ذلك عملياً، في تمرين دموي أودى بحياة العشرات. ومن جانب آخر، يعلن “حميدتي”، صراحة وبنبرة مباهاة وخيلاء، أنه شخصياً أمّن للسودان 250 مليون دولار من “أتعاب” اشتراك قوّاته في حرب السعودية على اليمن؛ الأمر الذي ينطوي على التلميح بأنه حاكم البلد المالي أيضاً!

ليس أقلّ خطورة، وجدارة بالتأمّل والقلق معاً، أنّ مفردة “الجنجويد”، أو “الجنجويت” في اللغة الدارفورية الدارجة، تفيد معنى اللصوص والأفاقين وقطّاع الطرق؛ وأنها، تاريخياً، صفة أطلقها أفارقة السودان على عشائره الدارفورية العربية. وهذه معادلة تهدد، أوّلاً، بتأثيم مجموعات كاملة من السكان، وتصنيفها قسراً تحت سلسلة الشرور التي باتت سمة “حميدتي” وميليشياته؛ كما تُطلِق، ثانياً، نُذُر حرب أهلية لا تُحمد عواقبها، ولن يكون العسكر إلا أكبر المستفيدين منها.

وليس هيّناً على أبناء الانتفاضة الشعبية في السودان إدارة هكذا معادلة، شاقة ومعقدة وحمّالة أنواء!

وسوم: العدد 828