المشهد اليمني؛ ماذا بعد أحداث عدن الأخير؟

د. ناجي خليفة الدهان

إن الأزمات المتلاحقة في اليمن -سواء السياسية أو الاقتصادية أو الصراع القبلي -ليست وليدة اللحظة، بل هي مستمرة منذ أن عُرفت اليمن، وكتب عنها الكُتّاب والسياسيون والمتخصصون والإعلاميون في كل فترة من فترات الصراع.

"إنّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أن تستحكم فيها دولة، والسبب في ذلك اختلاف الآراء والأهواء، وأن وراء كل رأي منها؛ هوى، عصبية تمانع، فيكثر الانتفاض ضدّ الدولة، والخروج عليها في كل وقت، وإن كانت ذات عصبية؛ لأن كلّ عصبية ممن تحت يدها تظنّ في نفسها منعة وقوة"، وهذه النظرية الخلدونية تنطبق بحذافيرها على المجتمع اليمني.

-يتلخص المشهد اليمني بكونه ملتبس، تختلط فيه الأوراق ويتسم في إطاره العام بالجمود المدمّر، رغم استمرار العمليات العسكرية المتبادلة في الحدود الشمالية اليمنية، وأجزاء من السعودية خاصة في جيزان، ونجران، والأحداث الأخيرة للمجلس الانتقالي في جنوب اليمن (عدن، وأبين)، فضلا عن التغول الحوثي منذ خمسة سنوات، ويترابط المشهدان السياسي والعسكري ترابطًا يسهم في استمرار حالة الالتباس والجمود هذه، وتأثيرهما المتبادل يساهم في تعميق الأزمة وإطالة أمدها.

ونحن اليوم نواجه أوج هذه الأزمات وأشدها على مجتمع عربي يمني بسيط حُرم من أبسط حقوقه، وسنتناول هذه الأزمة من خلال ما تناقله الإعلام لمجريات هذا الصراع، وما هي الأسباب، وبعض الحقائق التي نرصدها من خلال التقارير الإعلامية والكتابات حول هذه الأزمة في الإعلام اليمني، ومرارة الأزمات المتلاحقة وأثرت في مستقبل الأجيال القادمة.

هناك أربع قوى سياسية -عسكرية فاعلة في المشهد السياسي اليمني، إذا ما استبعدنا القوى الإسلامية المتطرّفة، التي هي دون شك ذات وزن وفعل مؤثرين في المشهد العسكري بصورة خاصة وهذه القوى الثلاث هي:

1. المؤتمر الشعبي العام.

2 . حزب الإصلاح.

3 . حركة الحوثيين المسلحة.

4 . المجلس الانتقالي الجنوبي.

5 . وأحزاب أقل تأثيرا هي: الحزب الاشتراكي اليمني، والتنظيم الوحدوي الشعبي الناصري، ومكونات سياسية عديمة التأثير؛ كالتجمع الوحدوي اليمني، واتحاد القوى الشعبية وغيرهما من الأسماء الكثيرة التي ليس لها وجود سياسي أو عسكري ملموس.

في "مارس 2013م انطلق مؤتمر الحوار الوطني اليمني، بعد أن اتُّفِق بإشراف الأمم المتحدة على نسب المشاركين، عرفت هذه الطبقة (الحوثين وأقطاب النظام) أن مخرجات الحوار الوطني وتطبيقها في أرض الواقع سيضعفان نفوذها المركزي، فقررت الانقلاب على مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية، وأجهضت العملية السياسية برمتها، وأدخلت البلد في نفق مظلم.  في 21 من أيلول/ سبتمبر 2014، أسقط الحوثي العاصمة اليمنية صنعاء بدعم مباشر من شيوخ القبائل وبعض من أقطاب النظام السابق، ما أدى إلى تدخل التحالف العربي لدعم الشرعية في مارس / آذار 2015 بدعوة من حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي المعترف بها من قبل المجتمع الدولي.

وبعد انطلاق عاصفة الحزم ظهرت مليشيات وكيانات موازية للدولة اليمنية، وبدعم مباشر من دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث شكّلت أحزمة أمنية انفصالية في عدن، وشبوة، وحضرموت وبعض المناطق الجنوبية (ويقودها المجلس الانتقالي) الآن. وقد درّبت عشرات الآلاف من أبناء المناطق الجنوبية، وسلحتهم ووظّفتهم، ودفعت لهم مرتبات شهرية. تستخدم الإمارات هذه الأحزمة لتصفية من يعارض وجودها في المناطق المحررة، والموانئ، والجزر اليمنية، وقد كثرت الاغتيالات في عدن خاصة، ضدّ قيادات التجمع اليمني للإصلاح، وبعض القوى الوطنية الأخرى التي تعارض المشروع الإماراتي في اليمن بشكل عام. كما دعمت الإمارات مليشيات خارج إطار الدولة في محافظة تعز، تُسمّى كتائب "أبو العباس"، ودعمت أيضًا بعض الأحزاب الأخرى ذات الحضور الضعيف؛ من أجل مواجهة حزب الإصلاح اليمني، وقوى الثورة الشبابية السلمية في تعز. لكن، بعد تُدخل الإمارات في المشهد ظهرت خلافات عميقة بين أبناء تعز. كما شكّلت الإمارات مليشيات مسلحة خارج إطار الشرعية اليمنية في إقليم تهامة بقيادة طارق صالح، نجل شقيق الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح. وهكذا، يتضح أن لدينا عدة أطراف متصارعة في المشهد اليمني، وكل طرف يخدم أجندات خارجية بشكل مباشر أو غير مباشر، حيث تستخدم الدول الإقليمية هذه الأطراف الداخلية لتنفيذ أجندتها الخاصة.

أصبح واضحًا من خلال المعارك الدائرة في اليمن أنّ هناك أطرافًا اقليمية تصفّي حساباتها مع بعضها بطريقة مباشرة وغير مباشرة. على سبيل المثال، تريد السعودية أن تصفّي حساباتها مع إيران في اليمن، كما تريد إيران أن تنتقم من السعودية من خلال دعم حركة التمرد الحوثية، خصوصًا وأن هناك علاقات مذهبية وأيديولوجية بين الحركة الحوثية والنظام الإيراني، وهو ما جعل كلا الطرفين في خندق واحد لمواجهة السعودية أيديولوجيًّا، وعسكريًّا، وسياسيًّا، وكذلك الإمارات لديها أجندة مع السعودية قديمة ومع اليمن ومحاولتها السيطرة على ميناء عدن للتعويض عن ميناء دبي مستقبلا ... إلى آخره.

أصبح الصراع إقليميًّا ودوليًّا واضحًا، وساحته أراضي الجمهورية اليمنية، والصراع في اليمن ليس بين القوى الإقليمية والدولية فحسب بل "هناك جذور للصراع الداخلي اليمني، تتجّسد في بنية النظام الاجتماعي القائمة على البعد القبلي، وانعكاس هذه البنية في الحالة السياسية والأمنية في اليمن، إضافة إلى مشكلة الوحدة التي تمّت عام ذ990م واعترض عليها قسم من ساسة الجنوب وكانت حرب عام 1994م ولايزال. لذا فمن المرجّح استمرار الصراع القبلي، وبقاء جذور الصراع السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الشمال والجنوب". 

وهكذا عندما يدخل أي بلد تقليدي قبلي ومحافظ وفقير في صراعات داخلية، وحروب أهلية، يصبح عرضة للتدخلات الإقليمية والدولية، حيث تستخدم القوى الدولية التي لها أطماع استعمارية القوى الداخلية المتصارعة، وتدعم بعضها ضد بعضها الآخر، من أجل تمرير مشروعاتها الخاصة، كما هو الحاصل الآن في اليمن. أصبحت بعض أطراف النزاع المسلح في اليمن مجرد أدوات بيد دول الإقليم، وإن كانت جماعة الحوثي الانقلابية هي السبب فيما وصل إليه الشعب اليمني اليوم، إلا أنّه لا أحد ينكر أن هناك أربع دول إقليمية تتصارع في اليمن وبأدوات يمنية.

لم يكن ما حصل في عدن يوم العاشر من أغسطس (آب) 2019 بالحدث الهامشي، ولكنه أحدث الهزة الأكبر في قواعد اللعب سياسياً وعسكرياً في اليمن، منذ سيطرة الحوثيين على العاصمة اليمنية صنعاء أواخر عام 2014.

ومع طول فترة الحرب، ومراوحة المعارك على خطوط التماس بين قوات الحكومة وقوات الانقلابين الحوثيين لفترة طويلة، تمكنت التيارات التي تحمل مشاريع انفصالية غير مشروع اليمن الاتحادي، تمكنت هذه التيارات من استغلال الفراغ السياسي والعسكري والأمني في محافظة عدن التي أعلنها هادي عاصمة مؤقتة له. ومع الوقت أصبح لهذه التيارات اليد الطولى في عدن، وأصبحت الحكومة اليمنية تعيش تحت رحمتها، نظراً للفارق الكبير في التسليح بين القوات التي تتبع تلك التيارات-التي توحدت تحت مسمى المجلس الانتقالي الجنوبي برئاسة محافظ عدن الأسبق عيدروس الزبيدي-وقوات الحكومة اليمنية التي ضمتها تشكيلات الحرس الرئاسي الموالي للرئيس هادي.

وضع هذا المجلس هدفًا رئيسًا له، هو تحقيق الانفصال عن الشمال اليمني، وإعادة "دولة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية"، إلا أنه لم يتمكن من بسط سيطرته على الجغرافيا في جنوب اليمن كافة، حيث إنه لا يسيطر سِوى على مناطق محدودة خاصة في عدن ومحافظة الضالع وبعض المناطق الأخرى، غير أنه سيواجه تحديات جمّة في حال انفرد بالسلطة، منها توفير الخدمات للمواطنين.

لقيت قوات "الانتقالي" دعماً غير محدود، وعلى وجه الخصوص من الإمارات العربية المتحدة التي تتهمها أطراف في الحكومة اليمنية بالعمل على منع عودة الشرعية إلى عدن، ودعم التوجهات الانفصالية في اليمن، مستدلين بتغريدات أطلقها مغردون إماراتيون مقربون حول ضرورة إعطاء الجنوبيين دولة مستقلة، فيما تنفي الإمارات ذلك بشكل رسمي، وتتهم الشرعية بالاستلاب لحزب الإصلاح الذي تقول: إنه ذراع الإخوان المسلمين في اليمن.

وفيما لا يخفي الانتقالي طموحاته الانفصالية، ولا عداءه السافر لحزب الإصلاح، يبدو أن الإمارات لا تذهب بعيداً في دعم مشروع تقسيم اليمن، بقدر ما تريد من دعم تيارات الانفصال محاولة الضغط على الحكومة اليمنية وعلى الرئيس هادي لتقديم بعض التنازلات، وإقصاء المحسوبين على الإصلاح من مراكز القرار في الشرعية، كما أنها وجدت في تيارات الانفصال حليفاً قوياً يمكن الاستفادة منه على الأرض.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن العامل المشترك الأبرز بين مبررات سيطرة الحوثيين على صنعاء، ومبررات سيطرة الانتقاليين على عدن، تدور حول مواجهة نفوذ حزب الإصلاح، إذ بذريعة مواجهة هذا الحزب أسقط الحوثيون صنعاء، وبالذريعة ذاتها سيطر الانتقاليون على عدن. كما يُلمَح تشابه آخر بين ما قام به الحوثيون في صنعاء، عام 2014 وما قام به المجلس الانتقالي في عدن عام 2019، حيث عمد الحوثيون إلى إسقاط الحكومة دون المساس بشرعية الرئيس هادي حينها، وهو ما قام به المجلس الانتقالي في عدن، حيث دعا إلى طرد "حكومة الاحتلال"، وأعلن أنه لا يرفض شرعية الرئيس هادي.

ويرجع السبب في ذلك إلى محاولة الاستفادة من شرعية هادي للتمدد والسيطرة، ولتحاشي إثارة غضب الداعمين للحكومة، وكذا لكيلا تظهر تلك القوات وكأنها قوات انقلاب متمرد على شرعية الرئيس.

بعد توسع قوات المجلس الانتقالي الجنوبي إلى شبوة، تدخلت القوات اليمنية وتمكنت من تطهير شبوة والقضاء على قوات النخبة الشبوانية، وتقدمت القوات الجيش الوطني لتحرير عدن من قوات المجلس الانتقال سارعت الإمارات في توجيه طائراتها لقصف القوات اليمنية في عدن وأبين خلف أكثر من ثلاثمئة شخص بين قتيل وجريح، وادعت أن القوات التي استهدفتها كانت تشكل تهديدا لقوات التحالف "مليشيات إرهابية".

أن الهجوم الغادر يُظهر عدم تقبل الإمارات لجهود الحكومة في استعادة مؤسساتها، وفشل المشروع التخريبي الذي قاده المجلس الانتقالي، وسعيها الدؤوب لتقسيم اليمن عبر مليشيا متمردة مناطقية لا تمثل أبناء المحافظات الجنوبية.

وجاء الردّ الشعبي في تظاهر آلاف اليمنيين في مدينة تعز يوم الجمعة الموافق 13/8/2019م، وبعض المدن الاخرى، والجالية اليمنية في بعض الدول المقيمين فيها، مطالبين الحكومة بطرد الإمارات من التحالف العربي المساند للشرعية، و"توثيق جرائمها بحق اليمنيين" واتهموها بانتهاك السيادة الوطنية لليمن، بارتكاب مجزرة بحق الجيش والشعب.

ويبدو جليا أن الإمارات قررت القضاء على الجيش الوطني للشرعية اليمنية فبالأمس قصف السلاح الجوي الاماراتي الجيش الوطني في عدن! واليوم يقصف سجن في ذمار يضم 175 سجين وقتل منهم ما يقارب 70 سجين وعدد من الجرحى، مما يؤكد أن الإمارات قرّرت إحداث فوضى في المشهد اليمني لإرباك الوضع السياسي والعسكري وخلط الأوراق، ودعم البدائل على الساحة اليمنية على شاكلة مليشيات الحزام الأمني، وقوات المجلس الانتقالي الانفصالية، ومليشيات الحوثي، لخدمة مشرعها وأهدافها في اليمن، ولكن نسي أن الشعب اليمني شعب صعب المراس، وسيفشل كل مؤامرات التقسيم والنيل من اليمن.

وسوم: العدد 840