المشروع الوطني والثورة السورية

د. محمد حاج بكري

كيف يمكننا نحن السوريين الأحرار أن نحافظ على أهدافنا الوطنية التي ضحينا بمليون شهيد من أجلها، سوريا التي بُنيت بسواعد الشرفاء من هذا الوطن...

سؤال عملاق يجب الإجابة عنه، فكل يوم يخرج علينا نماذج غريبة وعجيبة وبطرق مختلفة! وجميعها تسعى إلى إهدار مكتسباتنا، فقد أصبحت تلك المكتسبات الملموسة تصاب بالإعاقة والضمور نتيجة لصدمة الواقع، والثورة المضادة التي تواجه طموحات شعبنا، فضلا

عن إهدار دمائنا من قبل النظام الأسدي الحاكم وأجهزته الأمنية...

 والغريب بالأمر أن هذا الإهدار يتعمدٌ تحطيم الروح المعنوية، لتشتيت قوانا وطاقاتنا البشرية... وليس من العدل ولا من المنطق أن تذهب قدراتنا هدراَ دون الاستفادة منها! إلا بعض المرتزقة اللذين يقتاتون على حساب الثورة، يعبثون فيها يمينا وشمالا دون حسيب أو رقيب، لا يراعون حق لوطن ولا لمواطن!      

إن علينا واجبات كبرى في استرجاع تلك الحقوق الشعبية، والمكتسبات الوطنية ونحتاج أن نخفف من وطأة هذه الخسائر ونساعد على الاستمرار يجب أن نطبقه ونشعر بأهميته ليس فقط لمجرد التنفيذ بل لأنه نابع من داخل كل واحد منا (للمواطنة) المغروسة في دواخلنا ومن مدى فهمنا وقناعتنا في قرارة أنفسنا لمفهوم ا لحرية والديمقراطية الحقيقة والكرامة.

إن الوطنية النابعة من داخل قلوبنا ماهي إلا حق مكتسب من الأعماق لكل مواطن سوري غيور على بلده الغالي فالمواطنة لا تتوقف عند وظيفة أو مدرسة أو كلية أو شركة بل المواطنة هو حب وانتماء وعلينا ممارسته بكل صدق واخلاص وتفانى من أجل بلدنا ومستقبلها

مواجهة الاحتلال:  

لن يتمكن الشعب السوري من مقاومة الاحتلال إلا إذا كان له مشروعه الوطني التحرري، ويسخر له كل الإمكانات، فسواء كانت المقاومة أم المفاوضات فهي خاضعة لمتطلبات المشروع شريطة إعادة الحقوق إلى أصحابها، ورحيل الأسد ونظامه.

   يجب ألا يكون هناك فصل ما بين المفاوضات والمقاومة، وأي خلل يحصل بينهما هو نتيجة جهل! والسبب أن حركة التحرر السورية؛ هي مشروع من أجل إقامة نظام ديمقراطي عادل بدلا من ديكتاتورية الأسد، والهدف إنساني نبيل يحقق العدالة والحرية لأفراد الشعب وبالتالي المفاوضات تكمل طريق المقاومة السورية وتعزّز من قوّة المفاوضين عند التفاوض.

         

ولأن المشروع الوطني مشروع سلام، ومشروع مقاومة لتحرير سورية من رجس الديكتاتور، فإن نظام الأسد الساعي لضرب المشروع الوطني وتدميره، يستهدف مشروع السلام والحرية والعدالة للثورة المجيدة، بل ومشروع المقاومة بمفهومه الاستراتيجي الوطني ومن هنا يمكن اعتبار كل نهج أو تفكير متعارض ورافض للوحدة الوطنية ولوجود استراتيجية عمل وطني واحدة يعتبر مشروع انفصالي، كما أن كل من يصادر حق الشعب في المقاومة يعتبر خارج إطار الثورة ومشروعها... 

     

كثرة المشاريع سواء سُميت وطنية أو جهادية... والتحول في الانتماء من مشروع لمشروع مدعاة لعدم اليقين بالحقوق الوطنية للشعب السوري وبأهلية النخبة السياسية وكثرة المشاريع وتنوعها مظهر ضعف فهو يفقد المشروع الأساسي أهميته، وبناء عليه فإن أخطر ما يواجه المشروع الوطني للثورة بصيغته الراهنة المشروع المرتهن بالتسوية التي أسست لها اتفاقيات ومصالحات تصب في مصلحة النظام المجرم! فهذا هو الخلل التكويني المرتبط بالجغرافيا السياسية فالمشروع وبحكم الجغرافيا منقسم بين محافظات الوطن، والربط بينهما بيد النظام وعليه ستكون مخابرات النظام وحلفاؤه جزءا من النظام السياسي المرتبط بالتسوية مما يجعل الحديث عن دولة سورية مستقلة ذات سيادة محل شك! هذا الخلل هو الذي جعل انقلاب الشعب والانقسام الناتج عنه سهل الحصول! فالجغرافيا والنظام والأمن بفروعه المتعددة كانوا خير داعم للانقسام. ومن هنا فإن فشل المشروع الوطني لا يعني التخلي عنه كمشروع تحرر وطني لا يسقط ما استمر الاحتلال الروسي الإيراني الأسدي بل البحث عن صياغة جديدة له تحرره من الارتهان والتبعية والعمالة...

 وحدة المشروع الوطني يهددها الانقسام والتشتت كحركة تحرر وطني بهدف واحد وهذا الانقسام يضرب في الصميم قدرة الشعب على تحقيق أهدافه الوطنية

 مرحلة حساسة:

 مرحلة حساسة وخطيرة نقف عندها ولا شك في أنه من الضروري ان نحصن أنفسنا فكريا وثقافيا وتكريس الحوار والتأكيد على ممارستها عملياً لتحقيق قاعدة من الاتفاق على قضايا أساسية وتشخيص أو قُل علاج قضايا قد طالت حيرة المثقفين والسياسيين تجاهها! إما بسبب العزلة أو التخوين وما أكثره! أو من خلال حوار الطرشان أو لظهور ممارسات لا تدخل في سياق العمل السياسي الواعي أصلاً وإن تسمّتْ بمسمياته ولا تمت لأي ثقافة بصلة، كالتي نراها أحياناً تطفو على السطح من تشنيع وتقبيح أو تهميش وتشويش تنم للأسف عن سذاجة ثقافية إنْ صح التعبير في بناء منهج موضوعي في التعامل مع القضايا الحسّاسة التي ينبغي التورّع والحذر والحيطة عند تناولها وبخاصة إذا كان المسؤول عين نفسَه حاكماً على اراء الآخرين إنه انعدام المرونة الذي يظهر التعنت والأدلجة الفكرية وفق أطر محدودة وضيقة يتداولها الناس دون وعي ولا إدراك  وكلما استمر هذا  السلوك وتأصّل في عقليات متعفنة زاد خطره وانتشر وتقلصت معايير الإدراك وعلاقة الحق بالباطل وغاب العقل وازداد التمسك بالمنصب، وغابت الحداثة والتفكير السليم  فأي نتيجة نأمل من بقايا أفكار لا رابط بينها وبين الواقع وبعيدة بالفهم عن أهداف ثورة شعب طالب بالكرامة والحرية؟!

 الحوار:

  

وبالعودة الى الأساس وهو الحوار مؤكِّداً أنه لا ينبغي أن يُفهم من وراء الدعوة إلى الحوار والتذكير به الاتفاقَ الكامل فذلك ليس هو الشأن الأساسي والمحصلة الطبيعية للحوار غالباً، إلا أن المقصود هو أن يقوم الحوار على تأسيس قاعدة مشتركة في الفهم والرؤية والعمل ومن خلال تنظيم مناطق الاختلاف بحيث لا يتحول إلى ظاهرة تنازع وفشل ومن ثم ذهاب الأثر والريح إذ إن أساس الحوار ومنطلقه الاعترافُ بكون الاختلاف والتنوع سنة اجتماعية وبشرية مقرَّرة، ويمكن أن نقول: إن الحوار يُعنى بالدرجة الأولى وقبل كل شيء بتحرير محالّ النزاع ووضع الأمور في نصابها وحجمها ومن ثم التعامل معها أخذا وردّا بالحجة والبرهان والنقاش والاعتراض حتى يمكن التوصل إلى محصلة مرضية من قبل كل الأطراف أو معظمها أو على الأقل مقنعة يقف عندها كل طرف عند الحدود التي رسمها ذلك الحوار البناء فإما أن يعيد النظر في بناء وجهته تلك أو أن يتبادل مع الآخرين نقاط الإيجاب ويطرح ما عداها.

        كما أنَّ من شأن الحوار الجاد البناء أن يساهم في رسم نهج بحيث تتقارب وجهات النظر بالقدر الكافي فالحوار يرفض تماماً فكرة التخندق أو الشرانق الفكرية التي تسعى لعزل أو تهميش أي فكر بل يجب أن يكون الحوار ميداناً رحباً للتفعيل لا التعطيل ولا التخوين أيّاً كانت الآراء وأيّاً كان صاحبها.

     

جوانب الحوار ليس من الصعب رسم خطوطها لكن يبقى تحقيق الهدف هو الجانب المهم وهو غائب بقوة بسبب عدم الإدراك والفهم الحقيقي لجوهر الأمور مما يفتح المجال لمناخ العداوة والتجافي في التوجهات بالإضافة الى صناعة الصورة وما أكثر ما نشر عن التخوين مما زاد في رقعة الخلاف ليستفحل مرض عدم وجود اخلاقيات للنزاع مترافقا مع حجم التغيرات التي أربكت المواقف والانتماء مما كرّس صعوبة تستفحل يوما بعد يوم!

 الأخلاقيات:

 هذه الأوضاع بسبب استمرارها وتشابكها ظهرت تلك الأخلاقيات وانكشف المُخبّأ وأصبح الاختلاف ضرورة لما يذكيه من أيديولوجيات وأصبحت الخلافات واستمرارها تقود الحوار الوطني إلى طريق لانهاية له وفي ظل الغفلة عن منطق السفينة الواحدة  ذات الربان القائد وغياب المفهوم السليم زادتْ الصورة كأبة وأصبحت الرغبة في الإلزام واستعراض العضلات وأنواع الثقافات السفسطائية التي تثير الجدال أقوى من الحوار الوطني الهادف وذلك رغم قيمته كضرورة حتمية للخروج من النفق الأسود، وكرس الواقع المرّ أكثر غياب النظرة التفصيلية وضعف القدرة على الربط بين الظواهر ولا شكَّ ستبنى التقديرات والتصرفات نتيجة الوضع بسرعة ودون دراسة وحاصة في القضايا المفتعلة أصلا مما يسبب انحراف المسار فازداد المجتمع تأزما. 

 إنَّ الحوار المُثمر الفعال يجب أن يتسم بالديناميكية والمرونة والأهم هو أن يكون بهدف الوصول لتحقيق الأهداف إلى نهايات سليمة، ويبقى الحوار في المحصلة مبني على التنظيم والالتزام بالأخلاق والقيم؛ يقرب ولا يباعد وحتى لو لم يحصل اتفاق فان الالتزام بأخلاقيات الحوار سبب استمراره للمستقبل

الفعالية:

   

الحوار الوطني  ليكون مساره صحيحا  وليخرج من عقم الجدال والتخبط  يجب أن يتسم بالفعالية ليتم صياغة مشروع وطني حقيقي يلبي تطلعات السوريين بين الأطراف الوطنية الحقيقية بعيدا عن كل الأيديولوجيات والمماحكات، أما في ظل التخوين والرغبة في فرض الهيمنة  فلن يكون هناك أي أمل في صيغة وطنية جامعه  وعلى القائمين على المشروع الوطني أن يتسموا بالرؤيا الثاقبة وأن تكون الصورة كاملة بقمة الوضوح أمامهم، وبخاصة تقديراتهم للوضع الدولي والإقليمي وتطوراته ومواقفه ليتمكنوا من قيادة السفينة ورسم مسارها، ويبقى معيار القياس هو النجاح أو الفشل.

المشروع الوطني :

 غاية الحوار الوطني هي رسم استراتيجية المشروع ووضع الخطوط التي تقبل بها النسج الوطنية وتقبل الالتفاف حول مضمونها وتسعى للإنجاز ضمن فترة زمنية محددة بحيث تكون الحل المتفق عليه. الاتفاق التام اعتقد أنه متعذّر لكن من المهم عند صياغة مشروع وطني وبخاصة في ظروف صعبة مثل التي تعيشها ثورتنا وشعبنا! فالمشروع الوطني يجب أن يحافظ على التوازن التجميعي بين مختلف المكونات في ظروف متغيرة ومتحركة وملتهبة وهذا يتطلب مرونة كبيرة وخطط بديلة وألا يكون للفشل نصيب كبير فهناك أطراف ستسعى لإفشال المشروع، وبالتالي يتم القضاء على الحوار المنشود؛ أي إعادة إنتاج الفوضى واستمرارها وتغييب الأطر الوطنية الفاعلة التي تستطيع العمل الوطني فتوازن المجتمع وصياغة سياسة مناسبة من أكبر التحديات للحوار.

    

إن ما يظهر على سطح الأطياف الوطنية المتعددة من حب للذات والرغبة في السيطرة سواء في المجال السياسي أو العسكري لن يكون له مجالا في ظل حوار وطني جاد، ولن يجد المتسلقون ومن استساغ العيش على دم الثوار مكانا في عمل وطني كبير على يد رجالات وطنية همها الوطن والمواطن لذلك وجب أن يكون المشروع الوطني جامعا ومستخلصا من عاداتنا وتاريخنا الثقافي والاجتماعي ومعاناتنا وأهدافنا وعليه أن يحظى بالتأييد من مختلف الأصعدة والشرائح وحقيقة غير ذلك يبقى كطواحين الهواء ودوائر مفرغة وإضاعة للوقت والجهد...

  

إن ما أفرزته المراحل الأخيرة من ثورتنا والتي يجب أن تتسم بالنضج استنادا إلى دروس متعددة من زمن الثورة وبخاصة المعارضة التي تفتقد الى المشروع الجامع والتي كانت تعد نفسها كبديل للأسد ونظامه! الآن واقعها الحالي وللأسف لم يكسبها مواقع متقدمة في العمل الوطني ولا حتى الدعم الجماهيري الذي يعتبر عامل النجاح الأساسي! فلم تكن على مستوى ثورة الشعب وتطلعاته، بسبب التبعية والانتهازية وعوامل أخرى متعددة لسنا بصددها.

 الحوار الجاد الرصين يحقق التضحية والإيثار لأنه يولد الاقناع والتنازل عن بعض الأفكار والمعتقدات لنصل إلى وحدة الصف والتنظيم وتأطير الجهود وتتحقق الأرضية المشتركة دون أحكام مسبقة.

الخاتمة:

    كم نأمل من السوريين أن يبتعدوا عن الحسابات الخاطئة، والتخوين فلم يخدم بالنتيجة إلا الأسد ونظامه لقد حان الوقت لنجتمع في خندق واحد، وأن نكون على مستوى ثورة شعبنا وتضحياته! وأن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب ليمارس تخصصه وليكمّل بعضنا البعض...

وسوم: العدد 840