دولة "السعادة".. ماذا تعرف عن سجونها القمعية؟

عارف عبد البصير

بالنسبة لمحمد بن زايد ولي عهد أبوظبي لا يمثل إنفاق مبلغ عشرة ملايين دولار أي مشكلة، فيمكن له أن ينفق مبلغًا صغيرًا كهذا على بعض مجموعات الضغط الكبيرة التي يوظفها في واشنطن، أو كراتب سنوي لعدد قليل من جيوش الاستشاريين العاملين في بلاطه، أو حتى كجزء صغيرة من منحة أو معونة يقدمها لأحد حلفائه من السياسيين، أو وكلائه من الميليشيات، أو ربما من أجل نزهة شخصية للحصول على بعض المتعة لا أكثر، لكن الطريقة التي حصل بها خالد حسن (KHALED AL HASSEN) على هذا المبلغ من ولي العهد كانت مختلفة، وتحمل قدرًا لا يمكن إنكاره من الإذلال والمهانة.

ترجع بدايات حكاية حسن إلى عام 1984، حين كان الأميركي ذو الأصول العربية يعمل مستشارًا لـ"شؤون تعاقدات الأسلحة" لحساب أحد أفراد العائلة المالكة في أبوظبي، قبل أن يجري اعتقاله من قبل أحد أجهزة الأمن الإماراتية، واحتجازه في زنزانة لا تزيد مساحتها عن متر مربع واحد لا غير دون أية نوافذ، مع تعرضه لتعذيب شديد، شمل تقييد الساقين والقدمين لفترات طويلة، وإجباره على تناول سوائل كريهة المذاق تسبب ألمًا شديدًا وهلوسة مخية، وغيرهما. وعلى مدار العامين التاليين لاحتجازه على أقل تقدير، تعرض حسن لاختفاء قسري وثقته مراسلات وزارة الخارجية الأميركية مع الحكومة الإماراتية، والمسرَّبة في برقيات ويكيليكس لعام 2006، والمرفقة ضمن ملف قضية قرر حسن رفعها أمام القضاء الأميركي(1)، موجهًا الاتهام لثلاثة مسؤولين إماراتيين بينهما أهم مسؤولين في الدولة: خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الإمارات، وولي العهد محمد بن زايد، والجنرال سعيد هلال عبد الله الدرمكي.

كانت الشخصيات الثلاث المُدَّعى عليها منخرطةً آنذاك هي الأخرى في إبرام صفقات أسلحة، إلا أنهم كانوا منافسين لأمير العائلة المالكة ومُوظِّف (خالد) مجهول الهوية، ما دفع الأخير للاعتقاد بكونه ضحية صراع غير معلن داخل طبقة الإمارات الحاكمة على سلم السلطة والنفوذ في أبوظبي، مؤكدًا في اتهاماته أن محمد بن زايد شهد بشكل شخصي وقائع تعذيبه أكثر من مرة.

بدأت إجراءات التقاضي في عام 2009، وبرغم مرور مدة التقادم في قضايا التعذيب والمحددة حسب القوانين الأميركية بعشرة أعوام، إلا أن محاميي خالد دافعوا بأن سطوة ونفوذ الثلاثة المدعى عليهم أجبرا موكله على تأجيل قضيته لحين ظهور أدلة تدعم شكواه. في ذلك التوقيت، وكما أظهرت رسائله المسربة(2)، كان سفير الإمارات في واشنطن يوسف العتيبة يبذل جهودًا دبلوماسية كبيرة للضغط على المسؤولين الأميركيين لتسوية القضية، مع نجاح محدود تمثل في إسقاط الاتهام عن خليفة بن زايد، بموجب القانون الأميركي الذي يسمح بإسقاط الاتهامات القضائية الموجهة لرئيس أي دولة لأغراض دبلوماسية، لكن ضغوط العتيبة فشلت في إسقاط الاتهام عن محمد بن زايد أو الدرمكي بسبب رفض وزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون.

واصلت الدبلوماسية الإماراتية محاولاتها للضغط بعد رحيل كلينتون وتولي جون كيري مقعد الخارجية، إلا أن كيري رفض بدوره التدخل لإسقاط الدعوى، ولكنه أبدى مرونة أكبر عبر تشجيع المسؤولين الإماراتيين على السعي لتسوية القضية ماليًا. وبعد أشهر من المفاوضات، قبل خالد بالفعل التنازل عن قضيته مقابل الحصول على عشرة ملايين دولار، مع توقيع اتفاق "عدم إفصاح" يقضي بعدم الحديث لوسائل الإعلام. وتم التوقيع على الاتفاق رسميًا في (مايو/أيار) عام 2013(3)، في حين قام العتيبة بالموافقة على تحويل المبلغ بعد التوقيع بعام كامل، بعد أن تأكد من غياب أية تغطيات إعلامية بشأن قضية خالد السرية والمثيرة للجدل.

برغم وضع الرجلين الأول والثاني في الإمارات بسبب تداعيات القضية، إلا أنها لم تكن الواقعة الأخيرة التي يتعرض فيها أجنبي للتعذيب والاختفاء القسري في الإمارات. ففي وقت كان يجري فيه التفاوض سرًا على صفقة مالية تنقذ عنق ولي عهد أبوظبي من مطرقة المحاكم الأميركية، كان أميركي آخر يُلقى لغياهب الاختفاء القسري بصحبة صديقه الهندي ومواطنين إماراتيين، ليس في أبوظبي هذه المرة وإنما في دبي.

لم يكن شيزان قاسم، مستشار الطيران العامل في فرع شركة بي دابليو سي بدبي ذي الـ 28 عامًا، يتوقع تعرضه لعقوبة بسبب بثه لمقطع فيديو ساخر على يوتيوب يتناول محاكاة ساخرة لاهتمامات الشباب في حي سطوة بالإمارة الغنية، إلا أنه فوجئ في (أبريل/نيسان) لعام 2013 بتلقيه اتصالًا من شرطة دبي يطلب منه الحضور لمقرها، حيث تم احتجازه وإجباره على التوقيع على اعتراف مكتوب باللغة العربية(4)، رغم أنه لا يجيدها، قبل أن توجه له السلطات تهمة تهديد أمن الدولة. وفي نهاية المطاف قضى شيزان تسعة أشهر كاملة في السجن، قبل أن يتم الإفراج عنه بضغوط دولية.

لسوء حظهم على ما يبدو، لا يحمل المواطنون الإماراتيون، المنبوذون من قبل السلطة، جوازات سفر أميركية ولا يتمتعون بحماية سفاراتها أو ولاياتها القضائية، لذلك فإن قصصهم لا تحظى بتلك النهايات السعيدة من فئة الملايين العشرة أو بضغوط دولية مهما بلغ شأنهم. فداخل زنزانة ضيقة في السجن نفسه سيء السمعة في صحراء أبوظبي، والذي قضى فيه شيزان الأشهر الأخيرة من فترة احتجازه القصيرة نسبيًا، يقبع اليوم الأكاديمي ناصر بن غيث، أحد أبرز الاقتصاديين العرب، مواجهًا مصيرًا مجهولًا لم تفلح كل نداءات الحقوقيين في تغييره. كانت بضعة تغريدات كتبها ابن غيث، عبر حسابه الشخصي على موقع التواصل الاجتماعي تويتر، منتقدًا خلالها نظامي الإمارات ومصر كفيلة أن يدفع ثمنها حكمًا بالسجن لعشر سنوات كاملة، بموجب قانون "مكافحة الإرهاب" الإماراتي المثير للجدل(5)، لينتهي مصيره من جديد مغيبًا في قلب السجون الإماراتية للمرة الثانية في غضون بضع سنوات، وليسلط الضوء على أسطورة "الإمارات الديمقراطية".

تحكي تحولات حياة الأكاديمي الإماراتي الشهير التحولات ذاتها التي شهدتها بلاده بعد أن شوشت هواجس الربيع العربي عقول حكامها. في عام 2002 كان ابن غيث يقفز أولى الدرجات الفارقة في مساره الأكاديمي، بعد حصوله على ماجستير القانون الدولية من جامعة كيس ويسترن ريفريف بكليفلاند الأميركية، قبل أن يتبع ذلك بدكتوراه التكتلات الاقتصادية من جامعة إسيكس (Essex) البريطانية عام 2007، وهو تخصص نادر عربيًا يجمع بين ثلاثة علوم هي: الاقتصاد والقانون الدولي والسياسة الخارجية، ليصبح بموجبه أول محاضر إماراتي في فرع جامعة السوربون الفرنسية الشهيرة بأبوظبي. في تلك اللحظة لم يكن ابن غيث يتخيل في أبشع كوابيسه أن مسار حياته سيتحول بهذا الشكل الدرامي، أو أن غياهب السجون يمكن أن تحل يومًا محل أروقة الجامعات في حياته.

في ذلك التوقيت كانت الإمارات تخطو واثقة ضمن خطة تحول اقتصادي واسعة النطاق، صاحبها ارتفاع ملحوظ في المؤشرات الاقتصادية للبلاد، وبالتحديد في أبوظبي الغنية بالنفط، وفي دبي التي بدأت بالتحول لمركز مالي وسياحي عالمي. ومع ذلك فإن البلاد ظلت تمتلك أحد أفقر الأنظمة في العالم على صعيد المشاركة السياسية والتمثيل السياسي للمجتمع. وقد عرفت الإمارات صناديق الانتخابات لأول مرة في تاريخها عام 2006(6)، بموجب ما عرف آنذاك بـ"مبادرة التمكين السياسي"، بهدف تشكيل ما يعرف بالمجلس الوطني الاتحادي، وهو نظير مشابه هيكليًا لبرلمان أو مجلس نواب في أغلب الدول الأخرى.

على العكس من جميع برلمانات العالم، لا يتمتع المجلس الاتحادي، المعرف في الدستور الإماراتي على أنه "السلطة الرابعة للاتحاد، بعد المجلس الأعلى للاتحاد، ورئيس الاتحاد ونائبه، ومجلس وزراء الاتحاد"، بأي صلاحيات تشريعية أو رقابية حقيقية، ويقتصر دوره فقط على رفع المقترحات والنظر في مشروعات يقدمها حكام المجلس الأعلى للاتحاد، وهو ائتلاف يضم قيادات الإمارات السبع في البلاد. إضافة إلى ذلك، وإلى صورية المجلس الوطني الاتحادي عمليًا، لم تجر الانتخابات وقتها سوى على نصف مقاعد المجلس فقط، وتم اختيار النصف الآخر بالتعيين من قبل حكام البلاد. أما السابقة التي تفردت بها الإمارات حقًا فتمثلت في فرز فرضته على مواطنيها لتمنح حق التصويت لأشخاص بعينهم، لذا اقتصر التصويت على "هيئة انتخابية" شكلت من 6889 ناخبًا فقط، وبنسبة تتراوح بين 1 إلى 2% من عدد مواطني الإمارات الإجمالي.

رغم هذا الانسداد السياسي الكامل، لم يأت ربيع العرب للإمارات محملًا بقدر كبير من الصخب، مقارنة بجمهوريات الشمال الأفريقي أو حتى مملكة البحرين المجاورة، حيث كانت الدعوات الأولى للإصلاح السياسي في الإمارات حذرة للغاية، واقتصرت على عريضة التماس وقع عليها 132 شخصية إماراتية من أطياف مختلفة، صدرت في الثالث من (مارس/آذار) عام 2011، موجهة إلى رئيس الدولة خليفة بن زايد. وكانت مطالب العريضة محدودة للغاية، مقارنة بسقف الطموحات الكبير المصاحب لأجواء الربيع العربي، وتمثلت في: منح المجلس الوطني الاتحادي صلاحيات تشريعية حقيقية، على أن ينتخب أعضاؤه بشكل كامل، وإعطاء جميع الإماراتيين حق التصويت، وتعديل الدستور بما يتناسب مع تحقيق هذه المطالب.

كانت مطالبات محدودة للغاية، إلا أنها بدت أكثر مما ينبغي لطبقة الإمارات الحاكمة، منزعجين على ما يبدو من فكرة المطالبة ذاتها. لذا جاء الرد نظام الإمارات الأمني فوريًا وقاسيًا، ليتم اعتقال خمسة من أبرز الموقعين على عريضة الإصلاح، ووجهت لهم تهم "كسر القوانين"، و"ارتكاب أعمال تشكل تهديدًا لأمن الدولة"، و"تقويض النظام العام"، و"معارضة النظام الحكومي"، و"إهانة الرئيس"، في قضية شهيرة عرفت إعلاميًا باسم "قضية الإماراتيين الخمسة"(7).

لم تشفع المكانة العلمية لابن غيث عند حكام البلاد فأتى على رأس قائمة المعتقلين، ليس من خلال توقيعه العريضة فحسب، وإنما أيضًا من خلال مقاله الشهير، بعد نشر العريضة بأيام، تحت عنوان "ثورات العرب: ظروف تتغير وعبر تتيسر"(8)، منتقدًا فيه اعتماد الإمارات على مثلث "الثروة والقمع والدعم الخارجي" كما كتبه من أجل ضمان استقرارها. بينما شملت قائمة الإماراتيين الخمسة، إضافة إلى ابن غيث، كلًا من فهد سليم دلك وأحمد عبد الخالق وحسن علي الخميس، وهم نشطاء بارزون إلكترونيًا، في حين كان خامسهم هو المهندس والمدون الشهير أحمد منصور، مؤسس موقع ومنتدى حوار الإمارات المنطلق في عام 2009 بهدف توفير منصة بلا رقابة لمناقشة قضايا الإمارات السياسية والمجتمعية.

لم يترك منصور ابن غيث بمفرده، ومنذ انطلاق "حوار الإمارات" نجد أنه اتخذ نهجًا واضحًا في مناقشة قضايا محلية حساسة، مثل الفضيحة(9) الشهيرة المرتبطة بمقطع بثته قناة "إي بي سي نيوز" الأميركية، مظهرًا عيسى بن زايد آل نهيان، الأخ غير الشقيق لرئيس الإمارات، وهو يعذب شابًا أفغانيًا بطريقة "وحشية"، عبر إدخال الرمال في فمه، وضربه بشكل مبرح باستخدام عصا بها مسامير حديدية، ثم فرك إصاباته بالملح، وإدخال العصا أيضًا في مؤخرته. فضيحة مصورة تسببت في صدى واسع أجبر الإمارات على تحويل عيسى بن زايد للمحاكمة، لكن الأمر انتهى لتبرئته بدعوى ارتكابه هذه الأفعال "تحت تأثير حقنة مخدرة أعطيت له قسرًا بهدف ابتزازه" كما أقرت المحاكمة. وكما هو متوقع دفع منصور بالطبع ثمن إثارته للقضية، فأغلق موقعه بعد شهر واحد من إطلاقه، ثم اعتقل في وقت لاحق.

بعد ثمانية أشهر من الاعتقال، تمت إدانة الخمسة بالسجن لخمس سنوات، قبل أن يصدر خليفة مرسومًا رئاسيًا بالعفو عنهم في اليوم التالي مباشرة، في "لفتة أبوية" كما سماها وروّج لها الإعلام الإماراتي الرسمي، برغم أن العفو لم يشمل تبييض السجلات الجنائية لهم والمنشأة على إثر هذه الحادثة، ما عني استحالة حصولهم على شهادة حسن السير والسلوك اللازمة للعمل، وحتى للزواج، بموجب القانون الإماراتي(10).

كان سلوك الإمارات في التعامل مع عريضة الإصلاح وقضية المعتقلين الخمسة يوحي أنها آخذة في التحول تدريجيًا من ملكية استبدادية، تحمل هواجس أمنية، إلى دولة بوليسية كاملة، كما سلط هذا السلوك الضوء على التحولات الجذرية في سياسات الإمارات الخارجية، لذا لم تكن مشاركتها الفاعلة في قمع تظاهرات البحرين وقتها، أو دعمها العلني لبقاء الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك جملًا مقطوعة السياق من سياساتها. كانت الإمارات تقول للجميع بشكل واضح أنها تفضل الوضع الراهن، وأنها مستعدة لدفع أي ثمن للحفاظ عليه، في مواجهة هواجس امتداد موجة الحريات العربية الكبرى إلى داخل حدودها.

الشتاء الإماراتي

قبيل وفاة الشيخ زايد والطفرة الاقتصادية التي قادها أبناؤه خلال سنوات عمره الأخيرة، لم تكن الإمارات العربية المتحدة أكثر من ملكية فيدرالية تقليدية قائمة على اتحاد فعلي بين القبائل. إلا أن هذا التحول الاقتصادي الكبير أخفى بين طياته تحولًا أعمق، حيث كانت الإمارات تتغير في نفس الوقت، وبشكل تدريجي، من اتحاد قبلي متوازن، مع مراكز سلطة متعددة وتوازن نسبي بين دبي وأبوظبي، إلى دولة شرطية يقع مركزها في أبو ظبي الغنية بالنفط(11). ما عنى أنه وعلى عكس والدهم الناهج دائمًا للتشاور مع شيوخ القبائل الآخرين ورجال الأعمال الكبار، في جميع أنحاء البلاد، من أجل ضمان استقرار حكمه، فإن الحكام الجدد في الإمارات حظوا بقدر غير مسبوق من اللامساءلة، بفضل السيطرة المطلقة لأبوظبي على سائر الإمارات.

لم يكن هناك أي منطق يشير إلى أن الإمارات يمكن أن تأتيها رياح الربيع العربي: تتمتع البلاد بمستوى مرتفع جدًا على مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، مع نجاح تاريخي للحكومة في الاستفادة من الثورة مقابل الولاء السياسي، وقاعدة تزيد على 80% من سكان مغتربين لا تفرض عليهم أي ضرائب، ويحيا أغلبهم، باستثناء أرباب بعض الوظائف الدنيا، في ظروف شديدة الجودة مقارنة ببلدانهم، لكن الصورة الحقيقية تبدو مختلفة مع بعض التدقيق(12)، فعلى بُعد ساعة واحدة من دبي في إمارة رأس الخيمة، كما في الإمارات الشمالية الأخرى مثل عجمان وأم القيوين، وحتى في الفجيرة على الساحل الشرقي، عانى المواطنون لفترات طويلة من الفوارق التفاضلية في التنمية بين الإمارات المختلفة، مع مظاهر واضحة للحرمان. ومع الابتعاد عن بريق دبي وأبوظبي، تظهر شكاوى العديد من المواطنين من عدم المساواة في مستويات المعيشة، وتفاضل الخدمات، وحتى الفوارق في فرص العمل، وهي ذات السرديات والأجواء التي أفرزت الربيع العربي، وأثبتت قدرتها على حشد الجماهير في مصر وتونس. ومع تواجد تنظيم الإخوان المسلمين في هذه الإمارات، عنى ذلك بالنسبة لحكام البلاد خطرًا كبيرًا.

مثل دول الخليج الأخرى، بدأ وجود الإخوان في الإمارات خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، حين تم توظيف أعداد كبيرة لسد نقص الكوادر في الوظائف الفنية والأكاديمية، واستحوذ الإخوان الإماراتيين على المواقع الهامة في قطاعي التعليم والقضاء على وجه التحديد، ما كفل لهم تأثيرًا على الحياة الثقافية في البلاد، ما عني نشوء ظهير محلي من الإخوان الإماراتيين. وتزامن ذلك مع عودة الطلاب الإماراتيين الذين درسوا خارج البلاد، وخاصة في مصر، محملين بفكر الجماعة التي أعلنت تنظيمها الرسمي في الإمارات عام 1974 تحت اسم "جمعية الإصلاح والتوجيه الاجتماعي".

على مدار السنوات التالية مارس الإخوان في الإمارات أنشطتهم التربوية والخيرية والاجتماعية بشكل معتاد(13)، ورسموا صورتهم في المجتمع الإماراتي كمحافظين على القيم التقليدية، من خلال مجلة الإصلاح التي كانت تهتم بالموضوعات الاجتماعية والتربوية ذات الطابع الإسلامي، ومن خلال أنشطتهم العامة خاصة الطلابية منها مثل المخيمات والمجموعات الكشفية. وفي مطلع الثمانينيات قام الشيخ سلمان، بوصفه رئيسًا لجامعة الإمارات في ذلك التوقيت، بإنشاء اتحاد الطلاب الإماراتيين الذي سيطر عليه الإصلاح مطلع التسعينيات.

ورغم حرص الإصلاح الواضح على عدم تخطي الحدود في تعاملهم مع حكام الإمارة، إلا أن تحول الجمعية إلى جهة تنظيمية جماهيرية، مع تواجد فعال في قطاعي التعليم والقضاء كانا وحدهما كفيلين بإثارة قلق الطبقة الحاكمة، خاصة أن الإصلاح كان يطرح بين جنبات نشاطه الاجتماعي المكثف أجندة إصلاح سياسي خجولة لم يغفل عنها حكام الإمارات. ومع مطلع التسعينيات بدا أن حكام الإمارات كانوا قد اتخذوا قرارهم فعليا بسحق جماعة الإخوان المسلمين.

كانت تحقيقات أجهزة الأمن المصرية الدافعة باسم الإصلاح للواجهة، بوصفها إحدى الجهات الممولة بطريقة غير مباشرة لمنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، فرصة أكثر من مواتية لتدشين أولى موجات حملة القمع(14)، وكانت الحجة جاهزة وواضحة "جمعية الإصلاح ليست إلا منظمة دولية يتم إدارتها من قبل جماعة الإخوان المصرية بهدف إقامة شبكة إسلامية عابرة للحدود". وأصبح واضحًا أن الحكومة الإماراتية تنظر إلى "بيعة مرشد الإخوان" كتحد لولاء الإصلاح للدولة.

على الفور، تم حل مجالس إدارات جمعيات الإصلاح، ووضعها تحت إشراف وزارة الشؤون الاجتماعية، وتجميد أنشطتها وفرز أعضاء جماعة الإخوان لمنعهم من تولي المناصب العامة. ومثلت أحداث 11 (سبتمبر/أيلول)، مع تورط اثنين من الإماراتيين فيها، فرصة لتغليظ عصا القمع. فقام جهاز أمن الدولة الإماراتي بالقبض على 250 شخصًا من المتعاطفين مع "الإسلاميين"، ووجهت لهم تهمًا تتعلق بدعم الإرهاب في عام 2002، ورغم أن الكثير منهم تم الإفراج عنهم بحلول عام 2004، إلا أن أبوظبي لم تبد أي إشارة على وضع أوزار حربها الداخلية.

شهدت أعوام ما بين 1994 و2004 وضع لبنات البنية التحتية لـ"دولة القمع"، رغم أن تحركات الحكومة لمحاصرة المجال العام بدأت فعليًا مع نهاية الثمانينيات، وتظهر برقية نشرتها ويكليكس من عام 2004 قيام مديرية أمن الدولة الإماراتية بحصر 700 من أعضاء جماعة الإخوان(15)، منهم ما بين 50 إلى 60 شخصًا في صفوف الجيش.

بدا واضحا أن قضية الإماراتيين الخمسة لم تكن سوى الموجة الأولى لتداعيات عنيفة ولدتها عريضة الإصلاح. في (مارس/آذار) عام 2012، فوجئ سبعة إماراتيين منتمين لجمعية الإصلاح بقرار تجريدهم من جنسياتهم، قبل أن يتم اعتقالهم جميعًا بعد رفضهم مغادرة البلاد استجابة لأوامر الدولة. كان من الواضح أن موجة القمع التالية، والمرتبطة بالربيع العربي، ستوجه نحو الجمعية. ومع نهاية عام 2012، كانت السلطات الإماراتية قد اعتقلت 94 من المنتمين للإصلاح(16)، بينهم 13 امرأة، وعقدت لهم أكبر محاكمة سياسية شهدتها الإمارات منذ تأسيسها. وفي الثاني من (يوليو/تموز) للعام التالي 2013، أصدرت المحكمة الإماراتية حكمها بإدانة 69 من هؤلاء بالسجن لمدد تتراوح بين سبعة وخمسة عشر عامًا.

زعمت الحكومة في تحقيقاتها أنها حصلت على اعترافات من المحكوم عليهم بأنهم قاموا بـ"تأسيس جناح مسلح يهدف إلى قلب نظام الحكم الإماراتي بهدف تأسيس الخلافة الإسلامية"، ورغم الغرابة الشديدة لهذه الاتهامات لجمعية لم يثبت أي ارتباط فكري أو تنظيمي لها بأي نشاط مسلح منذ تأسيسها، إلا أن السلطات الإماراتية استغلت الزخم المصاحب للقضية في شن حملة إعلامية واسعة تحت شعار فضفاض هو "محاربة الإرهاب"، وتوجت الحملة بإصدار تشريع جديد لـ"مكافحة الإرهاب" في (أغسطس/آب) عام 2014، تشريع يسمح بالتوسع في استخدام العقوبات المشددة خاصة الإعدام في مواجهة تهم فضفاضة تندرج جميعها تحت بند "الإرهاب". ثم تلا التشريع قائمة جديدة لتصنيف "المنظمات الإرهابية"، شملت طيفًا واسعًا من الجمعيات ذات "التوجه الإسلامي" فقط، والمفارقة أن بعضها مصرح له بالعمل في أوروبا والولايات المتحدة، وجاء في مقدمة القائمة بالطبع جمعية الإصلاح وجماعة الإخوان المسلمين.

كانت هذه التحولات السياسية والتشريعية إيذانًا بتحول الإمارات لدولة بوليسية تقليدية بالشكل الحرفي تخضع لسيطرة جهاز أمن الدولة الإماراتي. لفترة طويلة، خضع جهاز أمن الدولة لسيطرة مستشار الأمن الوطني القوي هزاع بن زايد، الأخ الشقيق لمحمد بن زايد قبل أن يقوم ولي العهد بنقل السيطرة على الجهاز لنجله خالد بن محمد مطلع العام الماضي، ضمن مساعيه لإحكام سيطرته الشخصية على الأجهزة الأمنية. كان ابن زايد يعدُّ نجله لهذه المهمة منذ فترة طويلة(17)، وتحديدًا منذ عام 2007، بعد أن أرسله ليحذو حذوه بإتمام دراسته في أكاديمية ساند هيرست العسكرية، قبل أن يعود ليتولى الإشراف بشكل شخصي على ملف مطاردة "التيارات الإسلامية الإماراتية"، قبل أن يتم تعيينه لرئاسة جهاز أمن الدولة.

يتغلغل الجهاز سيء السمعة اليوم في جميع مفاصل الدولة، وبتحكم في التعيينات والترقيات لدرجة أنه يعرف اليوم باسم "ستاسي" (Stasi) الإمارات(18)، لتشابهه مع جهاز المخابرات القمعي الشهير لألمانيا الشرقية. وهو يعمل بلا أي رقابة على وسائله، بداية من الإخفاء القسري للمعتقلين والمعتقلات، وصولًا لانتزاع الاعترافات المطلوبة من المتهمين تحت التعذيب بشتى وسائله، مستعينًا بشبكة من السجون السرية أمثال الوثبة، وبني ياس الجديد في أبوظبي، والعوير ومكتب الهجرة في دبي، وعلى رأسها بالتأكيد سجن الرزين الشهير، موطن العديد من المعتقلين السياسيين، والمعروف بـ"غوانتنامو الإمارات".

وعت الإمارات منذ اللحظة الأولى أن الأمور آخذة في التغير، وأن التوسع في استخدام القمع ربما سيأتي بثمن فادح. تاريخيًا، كانت هناك ثلاثة افتراضات أساسية حول أسباب استقرار الأنظمة الملكية في الخليج: أولها أن هذه البلدان تمتلك ما يكفي للحفاظ على إغداق منتظم للثروة على مواطنيها مقابل الولاء السياسي، وثانيها فإن معظم المواطنين "غير مسيسين"، أو ينظرون إلى النظام القبلي باعتباره النظام الوحيد للحكم بشكل فعلي؛ وثالثًا أن الحكام رغم كونهم غير منتخبين يُنظر إليهم دومًا على أنهم حكام جيدون وغير فاسدين(19).

 

في محاولتها لصرف الانتباه عن حوادث المحاكمات الجائرة والممارسات القمعية، قامت الإمارات بزيادة المدفوعات المالية لمواطنيها إثر الربيع العربي، فأقرت زيادات ضخمة في أجور القطاع العام، وصلت نسبتها لـ 100% أحيانًا، وعززت استحقاقات الرعاية الاجتماعية، ووفرت تسهيلات للمقترضين المتعثرين، ورفعت حجم الاستثمارات المحلية في الإمارات الأكثر فقرًا. ومن أجل استباق دعوات التوسع في المشاركة السياسية، وسعت أبوظبي تدريجيًا من أعداد الناخبين في المجلس الوطني الاتحادي خلال انتخابات 2011 و2015، وصولًا لـ 50% من المواطنين(20)، إلا أنه يظل مفتقرًا لأية سلطات حقيقية، كما فرضت المزيد من القيود حول طبيعة الموضوعات التي يناقشها. ظلت تلك الإصلاحات، "الكبرى" في نظر حكام الإمارات، أقل كثيرًا من مستوى الطموحات الداخلي، إلا أن صورة الحكام الخيرين في أعين شعوبهم بدا وأنها تضررت بالفعل.

مثلما كان قمع الإمارات لمواطنيها والمقيمين على أرضها عابرًا للحدود، تمامًا كما فعلت مع الناشط الإماراتي عبد الرحمن بن صبيح السويدي الذي اختطفته يدها الأمنية من العاصمة الإندونيسية جاكرتا قسرًا في مشهد بوليسي ونقلته إلى أبوظبي عبر طائرة إماراتية(21)، كان الضرر الذي أصاب سمعة البلاد وحكامها عابرًا للحدود أيضا. فمع حلول عام 2012، كان القمع الإماراتي قد تحول لأول مرة إلى مادة دسمة للصحف العالمية، لترصد باهتمام تحول الإمارة الخليجية إلى دولة بوليسية. وكان أحد هؤلاء الذين اهتموا برصد هذا التحول هو الأكاديمي في كلية لندن للاقتصاد كريستيان كوتس أولريخسن، كاتبًا عدة مقالات رصد خلالها آنذاك التحول المثير في الدولة الخليجية(22).

لم يتطلب الأمر وقتًا طويلًا ليدرك أولريخسن أن موقفه سوف يأتي بثمن أيضًا، بعد أن فوجئ في العام التالي باحتجازه لمدة 45 دقيقة في مطار دبي، قبل أن يتم إخباره أنه ممنوع من دخول البلاد. كان أولريخسن متوجهًا لإمارة الشارقة للمشاركة في مؤتمر حول الانتقال السياسي في العالم العربي، ولإلقاء كلمة حول الأحداث في البحرين. وكان تبرير وزارة الخارجية الإماراتية أن الدولة "رأت أنه في هذا المنعطف الحساس للغاية في الحوار الوطني البحريني، سيكون من غير المفيد أن يتم التعبير عن وجهات نظر غير بناءة بشأن الوضع هناك من داخل دولة أخرى في مجلس التعاون الخليجي".

تسببت واقعة أولريخسن في انتقادات أكاديمية واسعة للإمارات، في وقت كانت البلاد تعزز فيه قوتها الناعمة القائمة بإقامة روابط فعالة مع المؤسسات الثقافية والأكاديمية المرموقة والعالمية. ورغم الضرر اللاحق بسمعتها، إلا أنها نجحت في المحافظة على روابط مع العديد من المؤسسات الأكاديمية الغربية مستغلة حاجتها للمال(23)، وحاولت الإمارات استغلال تمويلها لتلك المؤسسات من أجل توجيه النقاش الأكاديمي بعيدًا عن دول الخليج وعنها بالمقام الأول، وتجذير "ثقافة الرقابة الذاتية" على الباحثين والأكاديميين المتوجسين من انقطاع هذا التمويل. بيد أن كل هذه الأموال لم تنجح فيما يبدو في الحفاظ على صورة إمبراطورية المال والأضواء في الخارج، والمتلاشية اليوم تدريجيًا، لتحل محلها صورة قاتمة لا تبدو الأموال الإماراتية قادرة على صبغها، أو حتى في استعادة صورة "الحكام الخيرين" المهتزة بشدة في الداخل، لدرجة دفعت حكام الإمارات لمحاولة استدعاء إرث زايد الأب للواجهة، وإطلاق اسم "عام زايد" على 2018 بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد مؤسس الدولة، ربما ظنًا منهم أن مجموعة من الشعارات الكرنفالية ستكون كافية لطمس وجه واقع بئيس خطت معالمه أسوار السجون وأصوات المعتقلين.

وسوم: العدد 842