مصر على مفترق طرق… إما استقالة «المشير» أو عزله!

محمد عبد الحكم ديا

قيل لنا إنه «الإصلاح» الذي بدونه تنتهي الحياة ويحل الفناء، ومنذ اللحظة الأولى حمل ذلك «الإصلاح» المزعوم معنى مضادا لمعناه الحقيقي، وقد تَقبَّح وشُوَّه.. وهل هو في أصله كذلك؟؛ لن نطيل، ولنقل إن المعنى الحقيقي، في ظاهره وباطنه ليس هكذا.. إلا أنه حُمِّل منذ عقود معاني اختيرت له من قِبَل القابضين على خزائن الأرض ومفاتيحها وصار ذلك هو المتداول والمسلم به في أوساط المال والمصارف والبورصات العالمية.

ومعنى الإصلاح الحقيقي في القواميس قديم، قِدم اللغة نفسها. وعبرت عنه آثار القدماء ومدونات المفكرين من بني الجلدة كابن خلدون، ومن هم على شاكلته، وهم كثر؛ كانوا من قبله واستمروا من بعده في حضارات الشرق والغرب؛ في مصر وبابل وبين النهرين والشام واليمن، وبين الفرس والإغريق والرومان، وكل الملل والنحل، ومنهم أفلاطون وأرسطو، ودعاة المدن والجمهوريات الفاضلة؛ وصولا إلى العصر الحديث، وحضارته الغربية الصِّرف، وإنجازاتها فائقة الوصف؛ في العلوم والفلك والفضاء والتقانة، وتعطيل ما يناظرها في العلوم الإنسانية المتعلقة بالمساواة والعدالة والحق والقانون والإدارة، وتدني حصيلة الجهد المبذول لتحقيقها.

توارثت الحضارات القديمة «الإصلاح» بمعناه الحقيقي؛ مسجل على المسلات وجدران المعابد وأوراق البردي ورقاع الجلود، وتردد على ألسنة الأنبياء والمرسلين والفلاسفة والمفكرين، والقادة وعلماء العمران ورواد الاجتماع؛ في شتى الأصقاع، وأضحى هما يشغل ويهيمن على عقول وجهود كل هؤلاء، ومع بسط الحضارة الغربية أجنحتها على العالم أبت السير على طريق الأولين، وأبعدت البشر وألقت بهم في بحور من الدماء، وأوقعتهم في وحل الأشلاء، وأضاعت المعانى الحقيقية، وأضلت الناس بين سراديب المنافع، وأقبية المصالح، وحُمِّلت المعاني نقيضها، وصار الإصلاح والإفساد سواء بسواء.

وتعود الناس على استعمال المضامين الخطأ، وأُلبِس الباطل لبوس الحق، والعكس بالعكس. وبدا ذلك واضحا منذ بدايات الظاهرة الاستعمارية، ومواكبة الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر الميلادي؛ يعيش العالم زمنا وحشيا ودمويا؛ بثراء القلة المهيمنة وظلم الجبابرة المسيطرين. ومن أهم تحولات عالمنا الذي نعيشه هو استقراره على آخر مشاهد النصر والهزيمة في الحرب العالمية الثانية؛ ترتيباتها وأدواتها ومنظماتها وآلياتها المستحدثة لفرض «إصلاح» مالي واقتصادي لايرحم. وكان العالم قد تصور أنه قاب قوسين أو أدنى من الانفراج والتحرر من وطأة الاستغلال الغربي؛ ودفع ثمنا باهظا من أرواح ملايين الضحايا الذين طحنتهم تلك الحرب، ووصل الاستغلال الغربي أعلى مراحله بانتصار الإرهاب الصهيوني الاستيطاني، وإقامة دولته بعد سنتين من انتهاء الحرب.. وانتكس حلم الخلاص وتحول لكابوس، وانتكست معه جهود العالم، التي بذلها لبلوغ أهدافه في الحرية والعدالة والتنمية والتعمير، والنصيب العادل من الثروة العامة، وضاعت المعاني الحقيقية للمفردات، والتضحيات الجمة، ونشطت تلك الأدوات والمنظمات والآليات «الدولية».. وانطلق العنان للحروب والاستغِلال الفاحش، وأزاح الجبابرة كل من وقف في طريقهم؛ في حروب وصراعات تتجدد بانتظام.

وها نحن نتابع مصر وهي تسقط في أتون «إصلاح» دامٍ؛ قيل إنه علاج لكل العلل الاقتصادية والمعيشية لا بديل عنه، للتغيير، ووجد الناس أنفسهم أمام أوضاع شاذة وغير مستقرة، ومحصلة أفعال عشوائية، وحكم غير رشيد، وفوضى بلا معنى، ورئاسة تتعلق بالفراغ وتتغذى بالخواء، وتسعد بقدرتها على تفريخ الفشل ورعايته، في بلد ما كان يوما فاشلا، ومر بمراحل مد وجزر زادته صلابة وعزيمة، ويعيش في زمن الفشل والتسلط، والتخلف، والشعوذة، والعجز عن درء الظلم، أو تصحيح الخطأ، أو تقويم الإعوجاج..

من تابع الصحف المصرية الحكومية والخاصة، وشاهد برامج القذف والخواء مؤخرا يتأكد من المصائب القادمة التي يمهد لها «المشير»، وهو مُقدِم على بيع ما تبقى من أصول؛ مستنفرا لصوص الخصخصة للاستيلاء على ما تبقى للدولة من أصول وحضور، وذلك بالتفريط فيما تديره القوات المسلحة، وتسلمه لأولئك اللصوص، لينطبق على هذا النوع من التفريط مثل «موت وخراب ديار»، وبدلا من نقل ما هو في حوزة القوات المسلحة ليكون نواة لقطاع عام جديد؛ يعوض ما ضاع بسرقات المغامرين، وتفضيل قطاعات واسعة من القطاع الخاص العمل في مجالات الاستثمار العقاري، والاستهلاكي والترفيهي، ويحجمون عن وضع جنيه واحد في صناعة متوسطة وثقيلة أو استراتيجية، وإذا ترك لهم ما تديره القوات المسلحة، فستتكرر تجربة تصفية القلاع الصناعية والاستراتيجية؛ حصلوا عليها بأبخس الأسعار، لحساب شركات كان أغلبها وهميا حملت مسمى «مستثمر رئيسي»، وبيعت بالمليارات لاحتكارات أجنبية تمكنت من إزاحة الاقتصاد الوطني واستولت على السوق الداخلي، وهذا درس مستخلص من النهب والتصفية السابقة؛ وأشرفت عليها منظمات مالية «دولية»، وتوجيه «صندوق النقد الدولى»، ورجاله المصريين ومنهم رئيس الوزراء الراحل عاطف عبيد المتخصص في الدمار الاقتصادي والمالي الشامل؛ ساعدة «رئيس موازي» هو جمال مبارك؛ الخبير المتميز في «الخراب المستعجل»، وباع مؤسسات مصر العملاقة بكاملها كأراض وأنقاض لاحتكارات صهيونية وغربية، وبذلك تمت تصفية عصر التصنيع الثاني، ثم مدت مصر يدها تتسول غذاءها وتستجدي ماءها وقد كانت هبة النيل.

ووصلنا لهذه النتيجة المؤلمة بعد ما قرأنا وشاهدنا كتابات وتصريحات، ورصد لواقع على الأرض؛ أكد أنه لأول مرة في تاريخ مصر الطويل ترفع الدولة يدها بالكامل عن الشعب، وتتركه نهبا للغلاء والجشع، ولأول مرة يدير حاكمها ماكينة إفقار للشعب وتخفيض مستوى معيشته، وتسليم البلاد لأخطر مؤسسات الإذلال والتجويع والتعطيش؛ اسمها «صندوق النقد الدولي»، والتنازل له عن إدارة اقتصاد مصر وماليتها، وتنفيذ شروطه بصرامة، واستجار من رمضاء أثيوبيا بنار أمريكا؛ بعد فشل ما سُمِّي بمباحثات أزمة سد النهضة، وإعطاء الموافقة على إقامة السد بالتوقيع اتفاق النوايا عام 2015، وترامب ليس وسيطا نزيها أو مرحبا به.

واستضاف ترامب كوسيط مفاوضات يوم 6 تشرين الثاني/نوفمبر الحالي في واشنطن؛ وحضرها ممثل «المصرف الدولي للإنشاء والتعمير»، وهي وساطة صهيونية بامتياز، وترامب ناطق رسمي للدولة الصهيونية، ومكانتها عنده تفوق مكانة الولايات المتحدة، ويحمل تفويضا دائما بما تريد تل أبيب، وعينها على حصة معتبرة من ماء النيل، وحضور «المصرف الدولي للإنشاء والتعمير» هو لتمرير مقترح صرف تعويضات مصرية لأثيوبيا مقابل تمديد سنوات ملء خزان سد النهضة من ثلاث سنوات حسب البرنامج الأثيوبي، إلى سبع سنوات كطلب الجانب المصري، ومن المتوقع ألا تمانع مصر في الدفع خصما من المعونة الأمريكية، وهذا حسب أوثق المصادر، ووساطة ترامب تعني تمثيله للدولة الصهيونية، وبمقتضاه أنتزع الضفة الغربية لنهر الأردن وضمها للأرض الفلسطينية المغتصبة، وبنفس الطريقة ضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة من قبل، وحقق ترامب للحركة الصهيونية ما عجزت عن فرضه بالحرب.

وتحوَّلت مصر تحت حكم«المشير» من دولة استعصت على الاستسلام بقوة السلاح وتحت نيران الحروب إلى «شبه دولة» تتنازل وتفرط طواعية؛ مرة في «تيران وصنافير»، وأخرى عن الحقوق الثابتة والمؤكدة في مياه النيل مصدر بقائها الوحيد على قيد الحياة، وما خفي كان أعظم، هكذا يوضع مصير بلد قاوم أبناؤه ببسالة في حرب الاستنزاف بعد هزيمة 1967.. وانتصر جيشها في حرب 1973، وفيها أبلى العرب بلاء غير مسبوق، وحققت مصر نصرا عسكريا مؤزرا؛ أجهضه السادات.. ومكن الدولة الصهيونية من تحويل هزيمتها العسكرية الموجعة لنصر سياسي لا تستحقه، وما لم تتمكن منه بعد هزيمة 1967 حققه لها السادات بعد 1973، وهي عدو دائم التربص؛ سيعيد الكَرّة مرات ومرات.

والسادات مثل أعلى لـ«المشير»، الذي يمكن الدولة الصهيونية للانتصار عليه بالنقط؛ حتى تحين ضربتها القاضية لا قدر الله. ولهذا السبب أضحى استمراره على رأس الدولة خطرا وجوديا حقيقيا على مصر، وأمامه الاستقالة أو العزل، وقد سبق وعزل غيره، وذلك يتحقق بالتفاف القوى الوطنية والقومية حول هذا الهدف؛ بشرط توقف الخلافات والصراعات بينها، والالتقاء على قلب رجل واحد.. وهذا ممكن.

وسوم: العدد 851