في سيد الشهداء وأفضل الجهاد

زهير سالم*

" عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : "سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر أمره ونهاه فقتله " رواه الحاكم في المستدرك وصححه الألباني

وفي المعنى نفسه " عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أفضل الجهاد كلمة عدل - أو كلمة حق - عند سلطان جائر "

وحين هممت أن أكتب عن بعض الفقه المستفاد من الحديثين ، أحببت أن أعود إلى ما قال المحدثون من العلماء فيهما فوجدت ما يتير الشجن ويزيد الهم والحزن ..

وفي الأصل فقد اختلف كلام المحدثين في الحديثين بين مضعّف ومحسن أو مصحح ، ولكل من علماء الصنعة قوله المعتبر ، واجتهاده المحترم ؛ ولكن الذي فاجأني أن بعض الذين يحسبون على أهل الحديث من الذين يتبنون موقفا مسبقا من مجاراة أو مداراة السلاطين قد أغرقوا في توهين هذه الحديثين لغاية في النفوس لا يحيط بها إلا الله تعالى .

ومعلوم من بعض هؤلاء أنهم لا يعدلون بقول الشيخ الألباني قولا إذا ضعّف أو حسّن أو صحح ، ومع ذلك عندما صاروا إلى تصحيح الشيخ الألباني للحديث الأول ، أعرضوا عنه ، وجعلوه خلف ظهورهم ، وأصروا على أنه لا يصح في الباب من هذين الحديثين شيء تمسكا منهم بحق ولي المرء أن يمارس ما أفتوا له به على قنوات الفضاء دون أن يكون من حق منكر أن ينكر عليه ، ولا من حق ناصح أن ينصحه .

وأعود للقول إن الحديثين الشريفين ليسا من الصحيح الذي اتفق عليه الشيخان ، أو رواه أحدهما . وقد تحصل لي من مجموع ما قرأت أن في طرق الحديثين ضعفا ، وأن بعض العلماء رأو في تعدد الطرق والرواة ما يجبر هذا الضعف ويرتقي بالحديثين كل بنصه إلى مستوى الصحة أو الحسن ، دون أن نصير إلى حالة من التقاذف والتبادل ، فليس " خارجيا " من يعتمد التحسين أو التصحيح ، كيف وقد حسن علماء ثقات مراجع منهم فلان وفلان ..

وقد انتشر الحديثان في مصنفات أهل الإسلام ، قرونا طوالا ، وعلى ألسنة العلماء العاملين , وترجمت بمضمونيهما الكتب والأبواب . دون أن يكون في السلف من يطعن في الرواية إلا بمشرط الجراح الرفيق الدقيق . فالحديثان مع كل ما يقال فيهما ليسا من صناعة أهل الغلو والتطرف والمعادين لولاة الأمور كما يقول بعض المتهربين من استحقاقات الحديثين اليوم . وحتى لو أسقط هؤلاء الذين في نفوسهم غرض هذين الحديثين ، فإن النصوص التي تحض على مناصحة أولياء الأمور والأئمة أكثر من أن تحصى أو تنقض ليبقى الحق قائما لازما لكل الذين يتهربون أو يميعون .

ونعود إلى ما أردنا من فقه الحديث وأوله

قوله إمام جائر ..

والإمامة في الإسلام هي رئاسة تجمع أمر الدين وأمر الدنيا معا .

ومن المستفاد أن الإمام قد يكون جائرا ,,

وفي هذا رد على الباطنية والرافضة الذين قالوا بعصمة الأئمة .

وكون الإمام إماما لا يعني أنه لا يعصي الله في نفسه ولا يجور على رعيته .

ويقابل الإمام الجائر الإمام العادل الذي عد في الحديث الصحيح أول السبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه . وكون الإمام عادلا لا يعني أنه لا يتصور منه الخطأ والجور أحيانا ؛ ولكن لا يسمى الإمام جائرا إلا أن يكون الجور متعمدا في نفسه وهو الأصل الغالب في حكمه .

وحين يصدر الظلم عمن ينتظر منه العدل . والفساد عمن ينتظر منه الصلاح ؛ فإن الخلل يقع في سويداء القلب من الأمة المسلمة . ووقوع الخلل في القلب يقودونا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهي القلب ..

ومن هذا الربط نتفهم معنى أن يجعل الرسول الكريم الجهاد لإصلاح " قلب الأمة " أفضل الجهاد وأعظمه . وأن يجعل المجاهد القائم عليه سيد الشهداء .

وهذا سينقلنا إلى معطى آخر يصحح على أمتنا خطأ تاريخيا درجت وما تزال تتسربل فيه . فمع إقرارنا بأن الجهاد بمفهومه العام وكما اصطلح عليه كافة الفقهاء هو ذروة سنام الإسلام . ومع تسليمنا بمكانة المجاهدين بأموالهم وأنفسهم ، في رد أي عدوان خارجي عن بلاد المسلمين مما يسمى جهاد الدفع ...إلا أن الحديثين الشريفين يصححان لنا مفهوما سائدا خاطئا هو أن مقاومة العدو الخارجي مقدمة على مقاومة الظالم الفاسد الجائر المحلي ..

نعم قد يكون الأمر كذلك في الترتيب الزمني . فساعة دهم العدو الخارجي لا يتقدم على ردعه شيء . ولكن هذا لا يرجئ في أوقات العافية أمر القيام بحقوق الإصلاح الداخلي ، وكل ذلك وفق منظومة الأحكام الشرعية التي ترشد وتعلم وترتب .

التشكيك في جهاد الصلاح والإصلاح ما يزال موضع ريبة وتشكيك من نخبة دينية ومدنية على السواء ، وما زال هذا دأب هذه النخبة حتى غرقت أمة الإسلام في وحل مستنقعات لم تعد تجد لها خلاصا منه !! وما زال البعض ينظر إلى مقاومة الظالم المحلي على أنه أمر ملتبس وفتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة بينما يقول لك في حالة العدو الخارجي " ويردهم الإنسان بما يصل إلى يده وتخرج المرأة من غير إذن زوجها ويخرج العبد من غير إذن سيده !!!! " ولكن الحديثين اللذين نحاول أن نفقههما يعلمان غير ذلك . هما يقولان إن أفضل الجهاد كلمة حق ، وأن سيد الشهداء من يقاوم هؤلاء الظالمين بكلمة . ونفقه أنه لولا هذا الجائر الظالم الجاثم على صدر المسلمين موجود ما غزاهم عدو ، ولا نزل ببعض ديارهم ..

ويبقى لنا أن نتساءل : هل في قوله أفضل الجهاد كلمة ..

تعظيما لقيمة جهاد الكلمة ودورها ومكانتها . معنى يعتنق بشغف قوله تعالى ( وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) أي بالقرآن الكريم ..

هل فقه جهاد الكلمة يزاحم قليلا اختزال الفقهاء مصطلح الجهاد بتعريفه بأنه " قتال الكفار .." ؟! الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام أعظم قيمة وأوسع دائرة من القتال . والقتال المؤطر بأحكامه ، شعبة منه . وبهذا يسقط العنوان الذي أطلقه بعضهم منذ عقود " الفريضة الغائبة "

ربما يدور الزمان ويحتاج الفقهاء أن يعيدوا قراءة وكتابة فقه الجهاد بما يناسب أوضاع العصر وأحوال الناس ..

والحمد لله رب العالمين

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 854