كيف نتعامل مع مقتل قاسم سليماني؟

د. محمد بن محمد الأسطل

اضطرب الموقف إزاء مقتل قاسم سليماني رجل المهمات الصعبة في إيران؛ فهو صاحب فضلٍ في طرفٍ من الدعم المادي والعسكري للمجاهدين خاصة في غزة، وفي نفس الوقت هو السيف المُسلَّط على إخواننا أهل السنة خاصة في الشام والعراق، ثم إن الذي قتله عدوٌّ لدود لنا جميعًا، فكيف نفعل؟.

دونك الجواب في ثماني نقاط لا تنفك عن بعضها:

أولًا:

بشكل تلقائي يجد المسلم في قلبه فرحًا لهلاك رجل ما زال سيفه مسلطًا على إخواننا في الشام والعراق، ولهذا احتفى إخواننا المشردون واحتفلوا بمقتله، وهذا الشعور يداهمك قبل أن تفكر في أي فقه سياسي أو تشابك عسكري.

ولا يعرف مذاق الفرح بهلاك الظالم إلا من اكتوى بظلمه وناره وتبعثَر حالُه، وإذا كان الهلاك على يد ظالمٍ فوقه فقد تمت النعمة بإشغال الظالمين ببعضهم {وكذلك نولي بعض الظالمين بعضًا بما كانوا يكسبون} [الأنعام: 129].

ثانيًا:

الدول قسمان: توسعية وغير توسعية، وأقصد بالتوسعية التي لها مشروع تمدد وسيطرة على البلاد، والدول التوسعية خطيرة ولو كانت ضعيفة، ولهذا تُحارب عادةً في مهدها.

وإيران ذات مشروع توسعي، بل لكأن هدفها إعادة الامبراطورية الفارسية، فقد استطاعت أن تسيطر على اليمن والعراق وسوريا ولبنان.

ولهذا لما تمكنت الثورة من التقدم في سوريا ودنى سقوط بشار الأسد تداعوا لإنقاذه ودخل حزب الله المعركة ضد إخواننا من أهل السنة وجهًا لوجه، مع أن حسن نصر الله كان قد بلغ يومها رمزيةً عاليةً في العالم الإسلامي، لكنهم تبرعوا بسمعتهم؛ إذ الهدف الكبير تهون فيه عندهم بعض الخسائر الإعلامية.

وحاولوا التأثير على حركتي حمـ1س والجهـ1د الإسلامي عبر حفنةٍ من الإمداد المادي والعسكري، لكنهم أظهروا الوجه السني، وأن غزة سنية فقط، على المعتقد السلفي، ولهذا لا تجد موضعًا للرافضة في ديارنا بفضل الله تعالى.

ثالثًا:

قضية فلسطين متفق عليها؛ فأهلها أهل سُنَّة وعدوها صهيوني، والمفاصلة حاصلة، والجهاد فيها نظيف، وبالتالي فهي قضية خافضة رافعة ترفع من والاها وتخفض من عاداها.

وعلى هذا فإن الاعتناء بها يرفع صاحبه أيًّا كان، ومن هنا دخلت إيران على المشهد، وهذا مدخل متين بالنسبة لهم على أهل السنة؛ تخفيفًا للعزلة القائمة، وترويجًا للمشروع التوسعي.

رابعًا:

من الخطوط السياسية في إيران العمل على مساحة الفراغ؛ فهي مثلًا رأت أن جل قادة الدول العربية والإسلامية تنكروا للقضية الفلسطينية، واتهموا المجاهدين بالإرهاب، بل وتورط بعضهم في حصار غزة وعدائها وخنقها، فمدوا يد الإعانة المالية والعسكرية وهم يجزمون أنهم سيقبلون لضغط الحاجة ولهيب الواقع، والمسلك الشرعي والفطري يجيزان ذلك بشرط عدم تجاوز الفقه الشرعي المصلحي وعدم الإخلال بالعقيدة.

وعليه؛ فأكثر اللوم يتوجه هنا للأنظمة العربية والإسلامية التي حملت أهل فلسطين على قبول الإعانة ممن يلغ في دماء عددٍ من الشعوب المسلمة.

خامسًا:

لا بأس بالاستفادة من الباطل عند الحاجة، خاصة إذا كانت المعركة ضد عدو مشترك، لكن بشرط ألا تعود المصالح على المبادئ بالضعف والاختلال.

ومن شواهد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بسلاح صفوان بن أمية يوم حنين، وكان مشركًا يومئذٍ، ومن قبلُ احتمى بقبيلته بني هاشم في مكة، وكانت على الكفر، ودخل الحصار في شِعب أبي طالب في ظلال حمايتها، ولما عاد من الطائف احتمى بالدخول في جوار المُطعم بن عدي وكان من زعماء الكفر يومئذ، وأحاط به بنوه بسلاحهم حتى أمنوه، لكن أول شيء فعله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أنه طاف بالبيت وهم يحرسونه حتى دخل بيته آمنًا.

ولم ينس صلى الله عليه وسلم هذا المعروف، فلما هزم المشركين في بدر وأُسِر سبعون قال: لو كان المُطعم بن عدي حيًّا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له، ونهى في المعركة نفسها عن قتل أبي البختري الذي شارك في نقض صحيفة الحصار والمقاطعة، ونهى عن قتل من خرج مستكرهًا.

سادسًا:

يجوز شكر الكافر والفاجر إذا أسدى إليك معروفًا؛ فقد أخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: لو قال لي فرعون: بارك الله فيك قلت: وفيك، وفرعون قد مات" صححه الألباني.

ويجوز الدعاء له؛ فقد روى ابن أبي شيبة بسنده عن إبراهيم قال: جَاءَ يَهُودِيٌّ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِي، فَقَالَ: كَثَّرَ اللَّهُ مَالَك وَوَلَدَك وَأَصَحَّ جِسْمَك وَأَطَالَ عُمْرَك.

وروى أيضًا بسنده عن قَتَادَةَ أَنَّ يَهُودِيًّا حَلَبَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةً فَقَالَ: اللَّهُمَّ جَمِّلْهُ، فَاسْوَدَّ شَعْرُهُ.

أما التعزية فيفرق العلماء بين المُبَرَّز في دينه القائد فيه وبين عامة الناس، فيجيزون في الثاني دون الأول إلا لمصلحة يقتضيها الظرف، فإن كانت معتبرة جاز ذلك، وإلا عاد الحكم إلى الحرمة، والله أعلم.

سابعًا:

مما استفدته من مهرة علم السياسة أن العلماء يقفون بباب المبادئ والسياسيين يقفون بباب المصالح، وأعني المعتبرة منها.

ومن الفقه هنا أنه في اللحظة التي يتقدم فيها رجال السياسية لجلب المصالح لبلادهم ودرء المفاسد عنها بالضوابط الشرعية ينبغي أن يُفتح الباب على مصراعيه لرجال المبادئ ليبينوا للناس الحق وبيان إجرام الخصم وضلالاته؛ لئلا يختل الفكر العقدي تحت سطوة الاحتياج المصلحي، ولئلا تهتز عقيدة الولاء والبراء، خاصة أن المال له وهجٌ في النفوس، فربما أثر على أفكار الإنسان وقناعاته، ولهذا تجد من الناس من يتنازل عن أجزاء من دينه متى شعر مقابل ذلك بنهضة في دنياه.

ثامنًا:

يجب على قادة البلد استفراغ الوسع في التفكير في جعل القوة ذاتية خالصة، والاجتهاد في الاستغناء عن أي دعم قد يترتب عليه مفاسد، ولكن إذا ضاق الأمر اتسع الفقه الشرعي السياسي لذلك.

وعلى كل حال يجب أن تستثمر الأحداث على أحسن الوجوه، والعمل على أن نكون لاعبين في المشهد لا أن تمارس علينا خطط الآخرين.

وفق الله الجميع لمراضيه.

وسوم: العدد 858