ثلاثي الشرّ و«مُفرّقة الدول العربية» وتركيا

قبل ما يزيد عن 14 قرنا من الزمان، عدا أحد الوجهاء على أحدهم في ماله، فذهب الأخير إلى البيت الحرام مُطلِقا نداءات الاستغاثة، فاجتمع نفر من قريش في دار عبد الله بن جدعان أحد سادتها، وأقسموا أن يكونوا يدًا واحدة مع المظلوم حتى يُرد إليه حقه، فكان «حلف الفضول».

وفي القرن العشرين، كانت الأمة قد سُلِبت جميع حقوقها، وعدا على كرامتها ذئاب الأرض، فاجتمع نفر من الزعماء في مكان ظَنّته الجماهير كعبة المظلوم، تعاهدوا بدورهم على رد الحقوق، لكن الأيام كشفت أنه لم يكن سوى مركز لاسترخاء الضمير، وإلقاء التبعات عن الكواهل وحفظ ماء الوجوه.

«مُفرِّقة الدول العربية»، يليق بذلك الهيكل المُفرغ المسمى، جامعة الدول العربية، ذلك الكيان الذي دأب على أن يصمت دهرًا وينطق سفهًا، ثم يهتز جللًا، فيتمخّض جبل الإسفنج عن فأر. إنها منظمة يُسمع لأعضائها صريف الأقلام في التوقيع على المعاهدات الدولية، فإذا نودوا للتوقيع على أوراق عربية، فلا أقلام، رغم أنهم لا ينفكون عن ترديد أنشودة الوحدة العربية. هم الذين اتفقوا على ألا يتفقوا، أعتى أسلحتهم منصات الشجب، وأبرز جهودهم الغطيط. «لقد خطا العالم العربي خطوات واسعة في طريق الرقي، وهو يطمح الآن إلى تحقيق نوع من الوحدة، يجعل منه عالما متماسكا، ويرجو أن تساعده بريطانيا في بلوغ هذا الهدف، ويسرني أن أعلن باسم حكومة صاحبة الجلالة عن ترحيب بريطانيا بهذه الخطوة، وعن استعدادها لمساعدة القائمين بها، طالما تتوفر لديها الأدلة على تأييد الرأي العام العربي لها».

الحنان والعطف اللذان أبداهما وزير الخارجية البريطاني أنتوني أيدن بمجلس العموم البريطاني في مايو 1941، واللذان ترتب عليهما التأسيس لقيام جامعة الدول العربية، لم يكونا حبا في العرب، وإنما جاءا كمحاولة لتخفيف حدة العداء العربي بعد وعد بلفور وآثاره الوخيمة، ومراعاة لضرورة اعتبار الطموحات العربية، تفاديا لميل العرب تجاه هتلر الذي كان يشجعهم على هذه المبادئ، فأرادت بريطانيا وحلفاؤها أن تكون هذه المنظمة وعاءً تُفرغ فيه الشعوب العربية شحنات الغضب، حتى لا تنفجر في وجه مصالحها، وكذلك من أجل منع قيام وحدة حقيقية بمعزل عن الإرادة البريطانية، فقامت الجامعة عام 1945 في جو حماسي يوحي بأن هذا المبنى سوف يشهد حلولا لجميع أزمات العرب. لقد صيغت الأهداف العامة للجامعة لدى تأسيسها بحبر وردي، إذ كيف لمنظمة صنعها الاحتلال «على عينه»، أن تقوم بصيانة استقلال الدول الأعضاء؟ وكيف لجامعة أشبه بعرائس تحركها خيوط استعمارية، أن تنظر في شؤون العرب وتحقق مصالحهم بالتعاون في مجالات شتى؟ ثلاثة أرباع قرن، والمشهد يتكرر في كل جلسة للجامعة، حضور باهت، أزمات لا يتم الفصل فيها، مقترحات وهمية لا محل لها من الإعراب، شجب، استنكار، ثم بيان ختامي يجمع أذيال الخيبة في سطور، ويعود الحاضرون أدراجهم بخفي حنين.

ماذا قدمت جامعة الدول العربية للشعوب؟

في قضية فلسطين، وباستثناء قيامها بإقناع الدول العربية بالتدخل العسكري في فلسطين 1948، لم تقدم الجامعة العربية شيئا للقضية الفلسطينية سوى التعبير عن أهميتها للعرب في كل مناسبة، فلم تفعل شيئا حيال قرار تقسيم فلسطين 1947، وظلت رهينة موقف الأمم المتحدة في هذا الملف، التي لا تعبر بدورها إلا عن إرادة الدول الكبرى. وفشلت حتى اليوم في الخروج برأي موحد فاعل تجاه حل الأزمة الفلسطينية، كما لم تفعل شيئا حيال التطبيع مع الصهاينة، ووقفت مكتوفة الأيدي حيال حصار الرئيس السابق ياسر عرفات، ولا تزال ترتكز على المبادرة العربية، التي لا تعترف بها إسرائيل أصلا، وفشلت في حل النزاع الفلسطيني الداخلي، وأطَلّت بتراخيها المعهود إبّان العدوان الغاشم على غزة وحصارها.

وأخيرًا: قامت بعمل عظيم إزاء الإجراءات الإسرائيلية لضم غور الأردن وشمال البحر الميت، والأراضي المقامة عليها مستوطنات صهيونية، إذ صدر بيان خطير عن الأمانة العامة الشهر الماضي، يقول في حسم مزلزل، وهو يتحدث عن هذه الإجراءات: إنها «جريمة حرب جديدة تضاف إلى السجل الإسرائيلي الحافل بالجرائم بحق الشعب الفلسطيني».. وشكرا. وماذا قدمت الجامعة العربية للشعب الليبي في الحصار الغاشم على خلفية حادث لوكربي؟ وماذا قدمت للشعب العراقي عندما تم حصاره وتجويعه، وماذا قدمت له حين غزته الجيوش الأمريكية بالتنسيق مع إيران لهدم هذا البنيان العربي الإسلامي القوي؟ وماذا قدمت للشعب السوري الذي تعرض للذبح على يد زبانية بشار الأسد وحلفائه؟ وماذا فعلت حيال القوات الروسية التي تدك البيوت السورية على أهلها؟ وماذا قدمت لللاجئين الفلسطينيين والسوريين، أو للنازحين العراقيين وغيرهم من العرب؟

لا شيء، والسبب أنها منظمة كرتونية دعائية تسيطر عليها طغمة من الحكام، الذين يتدثرون بالعباءة الأمريكية، فمن ثم، لن تحيد الجامعة عن سياسة العملاء.

ومن هو الأمين العام للجامعة حاليا؟ إنه الرجل ذاته الذي أمسك بيد وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني في القاهرة، واستمع بابتسامة واسعة إلى تهديدها لقطاع غزة «السيل قد بلغى الزبى تجاه أهل القطاع»، فكان بمثابة إعلان حرب على غزة بحضوره، فاستشهد أكثر من ألفي طفل فلسطيني على إثره. هو نفسه الذي علّق على اختراق فلسطينيين حدود غزة إلى مصر 2008 بأن بلاده ستقطع قدم من يحاول اقتحام حدودها. وهو نفسه الذي عَلّق على فيلم تسجيلي إسرائيلي يظهر إعدام أسرى مصريين خلال نكسة 1967، بقوله إن الجنود استشهدوا خلال الحرب، فنفى ما أثبته أصدقاؤه.

ولذا لا يتحرك الرجل إلا في الاتجاه الذي يريده «ثالوث الشر» الذين يهيمنون على الجامعة، وبما أن تركيا هي قضيتهم الأولى في الوقت الحالي، فتجد آثار ذلك على تحركات جامعة الدول العربية بوضوح صارخ. صمت أبو الغيط على التدخل الروسي والإيراني المباشر في سوريا، لكنه خرج عن صمته، حين تدخلت تركيا عسكريا في شمال سوريا، لحفظ أمنها القومي من تهديدات الخطر الكردي، وإقامة منطقة عازلة، وعلا صراخه في وصف تدخلها بالاحتلال. صمت أبو الغيط عن دعم الإمارات لقوات حفتر لوجستيا وعسكريا وإرسالها المرتزقة، وصمت عن مد فرنسا لقوات حفتر، رغم قرار حظر توريد السلاح، وصمت قطعا عن تدخل قوات سيده السيسي في ليبيا، لكنه خرج عن صمته، فقط حين تدخلت تركيا لدعم حكومة الوفاق المعترف بها دوليا، وبناء على اتفاقية ثنائية، واستنكر وشجب ودعا لاتخاذ مواقف حاسمة ضدها، واتهمها بإرسال إرهابيين إلى ليبيا.

ومؤخرا، تلقت الأمانة العامة بجامعة الدول العربية طلبا مصريا بعقد اجتماعي طارئ على مستوى وزراء الخارجية لبحث التطورات في ليبيا، فما هي التطورات؟

التطورات أن خليفة حفتر المدعوم بقوة من السيسي وحلفائه مُني بهزائم متتالية بعد التدخل التركي، الذي قلب موازين القوى في ليبيا، وبالتالي يخسر السيسي رهانه على حفتر فلجأ إلى مبادرة وقف إطلاق النار، ويريد الآن عقد مجلس للجامعة يبحث في المبادرة لكسب الوقت لصالح خليفة حفتر. وها هو السيسي يفاخر بقواته على الحدود الغربية، ويترنم بجهوزيتها لتنفيذ مهمات خارج الحدود، لكنه تناسى أن استعراض العضلات هذا مثار للسخرية، لأن هذا الاستعراض لم يمسح التراب عنه، بعدما مرغت إثيوبيا أنفه في التراب، وأوصلت مفاوضات سد النهضة إلى طريق مسدود، وأن شعبه البائس مهدد بالموت عطشا وجوعا، فبينما هو يزأر على الحدود الليبية في وجه تركيا، تراه حملا وديعا أمام الإثيوبيين، بعد أن اكتفى منهم سابقا بحلف اليمين ألا يضروا بالمصريين في أمنهم المائي.

جعجعة بلا طحن، هذا ما يفعله السيسي الذي لن يجرؤ على هذه المغامرة الخاسرة بمواجهة تركيا، لأسباب كثيرة، فالغطاء المالي الخليجي لم يعد كسابق عهده بعد أكذوبة «مسافة السكة» وتقاعسه عن دعم التحالف السعودي الإماراتي في اليمن، وليس له غطاء شرعي في التدخل العسكري في ليبيا، ولديه أزمة اقتصادية طاحنة وفشل ذريع في إدارة الدولة داخليا، وعلى مستوى أمنها المائي، فضلا عن كون تركيا عضوا بالناتو. فماذا ستقدم الجامعة العربية للسيسي في ورطته؟ لا شيء، ستبقى الأمور كما هي، فلا يملك الأموات شيئا للأحياء، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 882