المضحكات المبكيات

عبد الرحمن يوسف

يظن بعض المصريين - وبعضهم سياسيون محسوبون على المعارضة والثورة - أن في مصر دولة يمكن الاستغاثة بها، يظنون أن صراخ المواطن بأعلى صوته "عندي مَظْلَمَةٌ" لأجهزة مهمتها مقاومة الظلم والفساد وإقامة العدل بين الناس.. يظنون أن هذا الأمر قد يُجدي في مصر، وهو - في نظري - من الأمور المضحكات المبكيات!

يستنجد بعض أصحاب النوايا الطيبة بـ"الدولة"، وبالسيد "الرئيس"، لإنقاذ آثار مصر من التدمير بعد أن تم الإعلان عن إقامة طريقين سريعين سيشكلان خطرا على سلامة أهرامات الجيزة نفسها، كما سيؤثر على منطقة واسعة يعتقد أنها كنز ممتلئ بالآثار..

ولا يعرف هؤلاء الطيّبون أن تجارة الآثار جريمة منظمة تقوم بها أجهزة الدولة، فكبار رجالات الدولة هم كبار مهربي الآثار!

استقر هذا العرف في عهد المخلوع مبارك، وما زال هذا "العرف" مستقرا، مع الأخذ في الاعتبار أن لاعبا قديما جديدا قد نزل إلى المضمار بنفسه، دون أقنعة أو وكلاء.. اللاعب الذي استولى على كل شيء في البلاد، من آبار الغاز والبترول.. إلى بيع الفول والطعمية.. مرورا بكل أشكال النشاطات الاقتصادية (المشروعة وغير المشروعة) التي قد تخطر في بال الإنس أو الجان.

* * *

ومن المضحكات المبكيات أيضا أن نرى النوعية نفسها من أصحاب النوايا الطيبة يستنجدون بالسيد "الرئيس" لكي ينقذهم من بلدوزرات الدولة التي تهدم منازلهم بالقوة، وهو أمر مضحك بقدر ما هو تراجيدي حد البكاء والفناء.. إن البلدوزر المصنوع من الحديد لأرْأفُ بهم من قلب هذا الذي يستنجدون به! ولو استنطقناه لصرخ باكيا رافضا ما يُجبره الإنسان الظالم على فعله بأخيه الإنسان المظلوم، ولو خيّرناه لاختار أن يُصهر في أفران الحديد والصلب على أن يَهدم هذه البيوت التي تؤوي آلاف الفقراء والمساكين بحجة مخالفتها "للقانون"!

لن أتحدث عن حكم المحكمة الدستورية الذي يمنع هدم البيوت.. ويمنع هدم المساجد والكنائس، ولن أتحدث عن حكم المحكمة الإدارية العليا الذي يمنع فرض تلك العقوبات بعد أن استقرت الأوضاع.. بل سأحتكم إلى محكمة الأمر الواقع، وهذه محكمة يعرفها جميع المصريين الذين عاشوا في مصر فترة الرئيس المخلوع، أو ما تلاها من فترات.

لا يستطيع الإنسان في مصر أن يلتزم بالقانون، مهما كان حريصا على ذلك، ومهما كان رافضا للفساد والرشوة.. الحياة دون فساد في مصر من المستحيلات!

لا تستطيع أن تبدأ عملا خاصا دون رشوة، لن تستطيع أن تستخرج سجلا تجاريا دون أن تقول "صباح الخير" لفلان وعلان.. لن تستطيع أن تستخرج رخصة مزاولة أي نشاط دون أن تردّ على جيش من المستفيدين الذين يمرّون عليك أسبوعيا أو شهريا ليقولوا لك "كل سنة وانت طيب"!

إذا كنت صاحب ورشة أو مصنع.. لا بد أن تدفع لكي يوقع لك فلان وعلان ما يثبت أن مصنعك فيه مواصفات الأمان، والمهم أن تدفع، وليس المهم أن تلتزم بمواصفات الأمان.

حتى لو ذهبت خارج منظومة الاقتصاد الرسمي، لن تستطيع أن تقف في الشارع وتبيع أي شيء دون أن يتلقى منك أمين الشرطة، ومندوب البلدية، والبلطجي المحلي.. ما يمنع عنك الأذى.. وليت ذلك يضمن لك منع الأذى.

لن تستطيع أن تمشي في الشارع دون أن يخرج لك من بطن الأرض من يطالبك بثمن المشي في الشارع، وتنفس الهواء!

الجميع في مصر منتهكون.. مهما التزموا بالقوانين.. والحقيقة أن الالتزام بالقانون في مصر مستحيل.. ويأتي لك الآن من يتحدث عن غرامات بسبب مخالفات "قانونية".. يتحدث رجال الدولة عن مخالفة القانون بعد أن أصبح الالتزام بالقانون أضحوكة في نظر الناس، إنه كالعنقاء والخلّ الوفي. القوانين السارية والتي يعلمها جميع الناس في مصر هي الواسطة، والمحسوبية، والغش، والخداع.. و"الجنيه.. غلب الكارنيه"!

* * *

من المضحكات المبكيات أيضا أن يتم توقيع اتفاقيات "سلام" بين دولة الإمارات ومملكة البحرين من جهة، وبين إسرائيل من جهة!

هناك من يهوّن من هذه الخطوة، ويعتبر أن الأمر لا أهمية له، فما هي الإمارات أصلا؟ وما هي البحرين؟ وما وزن هذه الدول في الصراع العربي الإسرائيلي؟ كم رصاصة أطلقت هذه الدول منذ بدء الصراع إلى اليوم؟

ولكن عرض الأمر بهذه الطريقة يعمي القارئ عن رؤية الصورة الكاملة، فدول الخليج عموما دعمت فلسطين لعشرات السنين، ماليا، ودبلوماسيا، وإنسانيا، وفي بعض الأحيان عسكريا، وهي ما زالت تؤوي حتى اليوم مئات الآلاف من الأسر الفلسطينية (وليس في ذلك منة من أحد).

إنها "دول"، مهما فعلنا، دول "عربية"، والطرف الآخر (الصهيوني) سيستخدم هذه الاتفاقيات من أجل شرعنة وجوده، ومن أجل تطبيع علاقاته في العالم، وإنهاء الحصار المفروض من عشرات الدول (غير العربية).

كما أن الدول العربية التي لم توقّع اتفاقات مع إسرائيل حتى الآن أصبحت في موقف أضعف أمام الضغوط التي تطالبها بالسلام مع العدو، وسيأتي عليها زمان قريب وتجد نفسها مضطرة إلى توقيع اتفاق ما مع الكيان الصهيوني.

سيصبح "الصمود" حينها.. أن تتيح للشعب حرية التعبير عن رفض إسرائيل، وحرية مقاطعة البضائع والأفراد، وحرية دعم العمل الإنساني الموجه للداخل الفلسطيني.. ربما يأتي علينا زمان يكون هذا هو أقصى المتاح لأي دولة عربية.

هناك دول عربية في غاية السعادة، وتنتظر دورها في التوقيع مع إسرائيل بشبق مخز.. ولكن والحق يقال.. هناك دول أخرى لا ترغب في التوقيع، وما زالت تقف هذه الدول بشكل مشرف (ضمن حدود المتاح).. ولكن في النهاية أعتقد أن الغالبية سيفرض عليها توقيع اتفاق ما مع إسرائيل (وجهة نظري الشخصية).

ونسأل الله السلامة.. وأن يغير حالنا الذي يفيض بالمضحكات المبكيات!

وسوم: العدد 895