من تشفع للأسد عند ترمب، الوزير أم الملكة؟

طريف يوسف آغا

ازرعها بدئنا معلم، ماعاد يعيدها

في مقابلة تلفزيونية أجراها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مؤخراً مع محطة فوكس نيوز قال أنه خطط عام 2017 لاغتيال الديكتاتور السوري بشار الأسد عقب استعمال الأخير الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين. ثم أضاف أن وزير دفاعه آنذاك، جيمس ماتيس، أقنعه بتغيير خطته والاكتفاء بغارات جوية. طبعاً من المعروف عن ترمب أنه كذاب من الطراز الأول، ولكن من المعروف عنه أيضاً أنه غير قادر على كبح لسانه، وسأناقش في هذا المقال تاريخ مواجهات نظام الأسدين الأب والابن مع أمريكا وكيف ولماذا استطاع دائماً الافلات من العقاب.

حتى نفهم كيف نجا هذا النظام حتى الآن واستمر في الوجود لابد أن نعلم، وكما أشرت في مقالات سابقة، أنه نظام المهمات القذرة والذي تحتاجه الدول الفاعلة لتنفيذ هكذا مهمات بالنيابة عنها من جهة، كما أنه النظام الذي وجد أصلاً لحماية الحدود الشمالية للدولة العبرية من جهة ثانية. ولكنه بين الحين والآخر يقوم بإثارة غضب تلك الدول بسبب سياساته الرعناء والمضرة بمصالحها، إلا أنها لاتقوم بمعاقبته إلا بأشكال صورية لاترقى لمستوى أعماله الإجرامية.

في عام 1983، تم تنفيذ هجوم إنتحاري على معسكر المارينز الأمريكي في بيروت وراح ضحيته أكثر من 220 جندي من مشاة البحرية. كل الأصابع توجهت في ذلك الوقت إلى حزب الله اللبناني الذي كان في طور التشكيل، وكذلك إلى المخابرات السورية التي كانت صاحبة اليد الطولى في لبنان حينها. هل انتقمت أمريكا من الأسد الأب حينها؟ لم تفعل بل انسحبت بهدوء لأن جيش الأسد كان أصلاً في لبنان لتصفية المقاومة الفلسطينية وتأمين حدود إسرائيل الشمالية وبقي يلعب نفس الدور بعد الانسحاب الأمريكي، وبالتالي يمكن أن نفهم من كان خلف عدم معاقبته، ويمكنني تخيل رأس الحكومة الإسرائيلية حينها يقول للرئيس الأمريكي: ازرعها بدئنا معلم، ماعاد يعيدها.

في نهاية عام 1988 تم تفجير طائرة (بان أميريكان) مدنية فوق إنكلترا وهي في طريقها إلى الولايات المتحدة، حيث تم توجيه أصابع الإتهام إلى ليبيا وجعلها تتحمل المسؤولية وتتعرض لعقوبات. نشر محللون سياسيون حينها سيناريو أكثر معقولية من سيناريو التورط الليبي وهو أن التفجير أتى كانتقام إبراني عقب إسقاط الاسطول الأمريكي لطائرة ركاب مدنية إيرانية في الخليج قبل عدة أشهر في صيف نفس العام لاشتباهه أنها طائرة حربية، فكلف الخميني حليفه الأسد الأب بالانتقام باسقاط طائرة أمريكية مدنية على مبدأ العين بالعين، فكلف الأخير بدوره منظمة أحمد جبريل الفلسطينية التي تدور في فلكه بالتنفيذ. لاشك أن المخابرات الأمريكية والبريطانية توصلتا إلى الفاعل الحقيقي ولكنهما وجدتا في ملاحقة ومعاقبة الأسد مايضر بالمصالح الإسرائيلية، فقررتا تحميل المسؤولية للقذافي والغير محمي من قبل دولة عظمى والمكروه أصلاً من قبل الجميع بما في ذلك إسرائيل.

في منتصف عام 2003 غزت أمريكا العراق بحجة البحت عن أسلحة الدمار الشامل، وقد خشيت إيران في البداية من هذا الغزو واعتقدت أنها القادمة على اللائحة. لهذا السبب كلفت حليفها السوري بشار الأسد بتجنيد مقالتلين جهاديين وإدخالهم إلى العراق عبر الحدود السورية لمحاربة القوات الأمريكية، الأمر الذي أغضب جورج بوش الابن واتخذ قراراً بغزو سورية لاسقاط النظام كما فعل في العراق وبدأ فعلاً بالتحشيد العسكري على الحدود. حالما علمت إسرائيل بذلك، طار بنيامين نتانياهو سريعاً إلى واشنطن وأقنع بوش بتغيير قراره وتعهد بالعمل مع الدول الاقليمية لدفع سورية للكف عن ذلك. وهذا ماحصل حيث تم إقناع إيران أن الأمريكيين ليسوا بصدد غزوهم، وأن هناك مصالح مشتركة بينهم فيما لو عملوا معاً، فأصدر المرجع الشيعي العراقي فتوى بالتوقف عن الأعمال العدائية اتجاه الأمريكيين وانتهت الأزمة بنجاة الأسد.

في بداية عام 2005، قام نظام الأسد باغتيال رئيس وزراء لبنان السابق رفيق الحريري في بيروت بتفجير موكبه وذلك لمطالبة الأخير بالانسحاب العسكري السوري من بلاده. كان الحريري خطاً أحمراً للعديد من الدول الفاعلة في المنطقة كالسعودية وفرنسا، وقد وجد جورج بوش الابن في ذلك الفرصة المناسبة للانتقام من الأسد لقاء أعماله في العراق، فأمره باخراج قواته من لبنان فوراً وإلا، متوقعاً أن يرفض ذلك كما حصل مراراً في الماضي، فيقوم بضربه. ولكن ماحصل أن الأسد لم يتجرأ حينها على المغامرة برفض الأمر الأمريكي، وخاصة بعد أن رأى ماحصل لصدام حسين، فقام بسحب كافة قواته بصورة مهينة في ليلة واحدة ونجا مرة ثانية، مع أن إسرائيل أرادت بقائه هناك وطمأنته بأن بوش ربما قام بتنفيذ ضربة صورية وليس قاتلة.

بعد نشوب الثورة السورية في ربيع عام 2011، لجأ بشار الأسد لاستخدام السلاح الكيماوي ضد المعارضة المسلحة، وهو سلاح محظور دولياً لأنه لايفرق بين المدنيين والمقاتلين. وقد وضع الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما ماعرف بالخطوط الحمراء الشهيرة للأسد متوعداً إياه بالرد العنيف فيما إذا عاد واستعمل هذا السلاح. رد الأسد أتى في صيف عام 2013 حين استعمل الغازات السامة على نطاق واسع في الغوطة الشرقية لايقاف مااعتبره حينها هجوم شامل تعد له قوات المعارضة من هناك باتجاه دمشق. النظام نفى استعمال الغازات السامة وادعى أنه أفشل الهجوم بواسطة الأسلحة التقليدية وأن الثوار هم من فجروا الغازات السامة في مناطقهم لتوريطه. المجتمع الدولي لم يأخذ برواية النظام ووجد أوباما نفسه محرجاً ومضطراً لتنفيذ تهديده، وبدأ فعلاً باختيار الأهداف التي ينوي قصفها. حين وجدت إسرائيل أن حليفها في خطر من جديد، طار ناتنياهو مرة ثانية إلى واشنطن وأقنع أوباما أن إجبار الأسد على تسليم سلاحه الكيماوي بهدوء سينقذ الادارة الأمريكية من الإحراج وسيحرم الأسد من أحد أسلحته الهامة في معركته ضد شعبه، وهذا ماحصل ونجا الأسد مرة اُخرى.

الآن وبعد هذا العرض السريع لتاريخ مواجهات النظام السوري مع أمريكا، فيمكننا أن نجزم بكل ثقة أن (الوزير) جيمس ماتيس لم يكن خلف (التشفع) لبشار الأسد عند دونالد ترامب كما ذكر، بل (الملكة) إسرائيل التي لايرد لها طلب والتي حولت (ذقنها) إلى مزرعة للتشفع لجرائم هذا النظام على مدار خمسة عقود، ليس ضد شعبه فقط، ولكن ضد محيطه والمجتمع الدولي أيضاً. فهي كانت ومازالت ترى في عائلة الأسد خير حليف لها وهي التي أعطتها الجولان سابقأ وخلصتها من المقاومة الفلسطينية لاحقاً وتحرق لها سورية عن بكرة أبيها وتفرغها من أهلها حالياً، دون خسارة جندي إسرائيلي واحد. فإذا كانت إسرائيل لاتزال تعمل على شعار (حدودك ياإسرائيل من الفرات إلى النيل)، فان مهمتها لاشك ستكون أسهل في التوسع في أرض شبه خالية من السكان.