الموقف الإيراني من النزاع بين أذربيجان وأرمينيا وأثره على منطقة القوقاز

د. ناجي خليفة الدهان

Gdhdh898.jpg

في تصعيدٍ جديد للأزمة الأذربيجانية – الأرمينية المشتعلة بدرجاتٍ متفاوتة منذ عام 1990م، أعلن الجانبان الأذري والأرميني عن تجدُّد أعمال القتال صباح يوم السبت 27 سبتمبر 2020م، وتبادَل الطرفان الاتهام بالبدء في أعمال القتال، على طول خطّ التماس بين البلدين، وهو الخطّ الذي تم ترسيمُه بعد انتهاء الحرب الكُبرى بين البلدين في عام 1994م، والتي خلّفت أكثرَ من 30 ألف قتيل وأدّت إلى سيطرة أرمينيا على حوالي 20% من أراضي اذربيجان، التي تضم إقليم "قره باغ" الذي يتكون من خمس محافظات، وخمس محافظات أخرى غربي البلاد، إضافة إلى أجزاء واسعة من محافظتي "آغدام"، و"فضولي".

ألحقت السلطات السوفيتية هذا الجيب الذي تسكنه أغلبية أرمينية بأذربيجان عام 1921، لكنه أعلن استقلاله عام 1991 بدعم من أرمينيا، وأعقب ذلك حرب أدت إلى مقتل الآلاف ونزوح مئات الآلاف. ورغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 1994 وقيام وساطة روسية أمريكية فرنسية تحت اسم "مجموعة مينسك"، لا تزال الاشتباكات المسلحة مستمرة والأجواء متواترة.  

يهدف المقال إلى تقديم تصوّرٍ عن حدود الصراع الأذربيجاني – الأرميني، ومدى تأثيره على منطقة الشرق الأوسط والصراعات الدائرة فيها، وما يمكن أن يشكّله من فُرصٍ وتحديات لدول المنطقة من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية:

  1. كيف ساهمت روسيا في تعميق أزمة "قره باغ"؟
  2. ما هي مقترحات الحل للأطراف حول مشكلة "قره باغ"؟
  3. ما هو موقف تركيا من قضية "قره باغ"؟

 

 

 

الموقف الروسي من الصراع

لعبت روسيا دور الرئيس المشارك في مجموعة مينسك، واتبعت في الوقت نفسه سياسة خلق حالة من عدم اليقين والسيطرة على طرفي النزاع. فقبل اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة بين أرمينيا وأذربيجان في عام 1994 وبعدها، عمدت روسيا إلى تسليح أرمينيا، رغم جميع الاحتجاجات الأذربيجانية، وخلال هذه الفترة، سرت أنباء عن قيام روسيا بإرسال شحنات مباشرة من الأسلحة لأرمينيا على شكل منحة، كما أوعزت للشركات الخاصة الروسية بتكثيف بيع الأسلحة لأرمينيا.

وفي تقرير أعده رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما الروسي ليف روخلين، عام 1997، كشف عن حجم الأسلحة التي تبرعت بها روسيا لصالح أرمينيا في الفترة ما بين 1993-1996، حيث وصلت قيمة الأسلحة الروسية المتبرع بها لأرمينيا مليار دولار، وفي عام 2008، نشرت وسائل إعلام روسية، أن موسكو تبرعت بمبلغ 800 مليون دولار من الأسلحة لأرمينيا.

وفي 19 أغسطس/ آب الماضي، أعلن الرئيس الأرميني السابق سيرج سركسيان، في تصريح صحفي له أن روسيا أرسلت أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة إلى أرمينيا ما بين عامي 2010-2018، جاء ذلك بعد الهجمات العسكرية، التي نفذتها القوات الأرمينية على منطقة "توفوز" الأذربيجانية (شمال غرب) الحدودية، في يوليو/ تموز الماضي.

وفي عام 2015، خصصت روسيا قرضا لصالح أرمينيا بقيمة 200 مليون دولار لشراء أسلحة، وفي إطار هذا القرض اشترت أرمينيا أسلحة من روسيا بسعر السوق المحلي.

وخلال اشتباكات عام 2016، على خط الجبهة (خط وقف إطلاق النار بين أرمينيا وأذربيجان في المناطق المحتلة)، تمكنت أذربيجان من تحرير بعض المرتفعات الاستراتيجية، وردت روسيا على تقدم أذربيجان بنشر صواريخ "إسكندر إم" في أرمينية ، وأن تدخل روسيا عسكــرياً إلى جانب الأرمن ‏يُفترض أن يكون نتيجة مخاوفها من انخراط الغرب في دعم أرمينيا وما يترتب عليه من تقويض لعلاقتها مع موسكو، وفي النزاع الحالي أعلن الرئيس بوتن يوم الأربعاء الموافق 7/10 /2020 روسيا ملتزمة في اتفاقية الأمن الجماعي مع أرمينية، لكن الصراع الآن لا يدور على أرض أرمينيا وإنما خارج أراضيها في الأراضي الأذرية، أي لا خطر على أرمينيا ولا حاجة للتدخل. واعتبر الرئيس الأذربيجاني علييف أن “أرمينيا بهجــومها على أراضينا تسعى لجر روسيا إلى الحـرب”.

الموقف التركي من الصراع

أعلنت تركيا ومنذ اليوم الأول للاشتباكات عن دعمها لأذربيجان، وذلك بما ينسجم مع القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ودعا المسؤولون الأتراك، وعلى رأسهم الرئيس رجب طيب أردوغان، أرمينيا في أكثر من مناسبة، للانسحاب من الأراضي الأذربيجانية المحتلة، وشدد المسؤولون الأتراك، مرارا وتكرارا، بعدم إمكانية تطبيع العلاقات الدبلوماسية مع أرمينيا، ما لم تسحب يريفان قواتها العسكرية من الأراضي الأذربيجانية المحتلة.

وتعد أنقرة الدولة الوحيدة التي أعلنت موقفها بوضوح من هذا النزاع، حيث كشفت عن دعمها الكامل لأذربيجان ووقوفها إلى جانب جارتها لاستعادة أراضيها المحتلة، وذلك لأسباب تاريخية ودينية وعرقية واقتصادية، مقارنة ببقية الأطراف التي تعلن حيادها في هذا النزاع إعلاميًا، بينما من تحت الطاولة، تدعم هذا الطرف أو ذاك.

تركيا تعتمد على أذربيجان كمصدر رئيسي للطاقة خاصة بعد تقليل اعتمادها على الغاز الروسي، فيما دشنت مشروع وصل خط غاز "تاناب" القادم من أذربيجان بخط غاز "تاب" قرب الحدود التركية الأوروبية عام 2019، ليصبح أحد أهم الشرايين المهمة لتغذية أسواق الطاقة في أوروبا بالغاز الطبيعي.

علاوة على حزمة المشروعات المشتركة التي تم إبرامها بين الجانبين، أهمها خط نقل الطاقة "باكو-جهان"، بالإضافة إلى خط السكة الحديدية (باكو- فليكس- قارص)، وهو ما يجعل أي استهداف لأذربيجان سيضر بالمصالح التركية، هذا بخلاف التعاون الدفاعي الثنائي بين البلدين الذي يتضمن التدريب العسكري لأفراد أذربيجانيين في المؤسسات العسكرية التركية، بجانب اتفاق "الشراكة الاستراتيجية" الذي ينص صراحة على أن البلدين سيساعدان بعضهما بعضًا إذا طالب أحدهما بحقه في الدفاع عن النفس بموجب المادة (51) من ميثاق الأمم المتحدة.

الموقف الإيراني من الصراع

إيران هي الأخرى تقترب من خط الأزمة، كونها تمتلك علاقات وشراكات قوية مع الأرمن، ورغم خلفيتها الإسلامية الشيعية المشتركة مع أذربيجان، لكن ليس لطهران عمومًا أي تضامن خاص مع هذا البلد، وفي الوقت الذي تدعي فيه الحياد بين الحين والآخر، فإن الممارسات على أرض الواقع تعكس غير ذلك، حيث الميل نحو أرمينيا وتفضيلها على أذربيجان.

لأن إيران تستخدم المذهب لتحقيق أهدافها الصفوية، ولا تدافع عن المذهب، بل تنشأ المليشيات باسم المذهب لتقاتل بهم لتحقيق أهدافها التوسعية ضننا منها لإعادة الإمبراطورية الفارسية، ويتجاهلون ما قاله سيد الخلق الرسول الكريم محمد صلى الله علية وسلم («إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله».

ولو نقلب يعض صفحات التاريخ لنجد أن إيران لم تقف يومًا مع دولة إسلامية في صراعها بل تقف دائما إلى جانب أعداء الأمة الإسلامية، فلا غرابة من دعمها لأرمينية ضد أذربيجان الإسلامية والتي أغلب سكانها من الشيعة، لان هدفها ليس دعم الإسلام بل هدمه، وإن موقفها هذا ينطلق من الأسباب التالية:

  1. إنّ وقوف إيران مع أرمينيا هو في حقيقة الأمر وقوف ضد تركيا، ولمنع تواصل تركيا مع دول القوقاز والذي تعتبره خطرا على تمددها في هذه البلدان، كما أنّه يحفظ مصالح إيران مع روسيا في المنطقة.
  2. من مصلحة إيران إشعال الموقف بين الجارتين، اعتقادًا أن هذا التطور ربما يساهم في الضغط على أذربيجان لضبط نشاطها في سوق الطاقة، وهو ما يحمل تهديدًا صريحًا بالنسبة لأوروبا وبالتالي التأثير على موقفها من العقوبات الأمريكية.
  3. إضعاف أذربيجان هدف إيراني من الطراز الأول، حتى لا تشجع الأقلية الأذرية في إيران على المطالبة بمزيد من الحقوق.
  4. تعتقد إيران أنها في حاجة إلى أرمينيا لتوفير ممر بديل للنقل إلى روسيا وأوروبا، وفي المقابل فإن الأرمن بدورهم يواجهون انسدادًا متواصلًا في طرق التجارة من جانب أذربيجان وتركيا.
  5. المسؤولون الإيرانيون يشددون مؤخراً على أنّهم يفضّلون الحل السلمي، لكنّهم كانوا قد لمّحوا في أكثر من مناسبة أنّهم يفضلون بقاء احتلال إجزاء واسعة من أذربيجان على اندلاع حرب جديدة تؤدي إلى صعود القومية التركية في المنطقة وإلى نشوء حزام تركي محيط بهم أو إلى تدخل قوّات تركية لمساعدة باكو.
  6. جزء من الموقف الإيراني يتعلق بالحسابات الأمنيّة أيضاً. فأذربيجان علمانية- قومية- قوية ومزدهرة تشكّل حافزاً ليس فقط للشيعة الإيرانيين بشكل عام وإنما للشيعة الإيرانيين من القومية التركية. المواطنون الإيرانيون الأذريون يُشكّلون حوالي ثلث عدد السكّان في إيران، فقد يتشجعون على تبني النهج العلماني الذي يقوض سلطة الولي الفقيه.

7 دعم أرمينيا ضد أذربيجان يحول دول تواصل الأذريين الإيرانيين بأقرانهم بأذربيجان ودون إحياء أحلامهم الاستقلالية. سبق لمقاطعة (أذربيجان الشرقية) والتي هي جزء من أذربيجان والتي تقع في شمال إيران أن أعلنت استقلالها عن إيران وقيام جمهورية أذربيجان الشعبية في العام ١٩٤٥، مُتّخذة من تبريز عاصمة لها.

تقاطعت مصالح موسكو مع مصالح طهران آنذاك في مواجهة الدور التركي الذي يُنظر إليه على أنّه منافس لهما في مناطق تعتبرها روسيا جزءاً من إمبراطورتيها السوفيتية السابقة، وتعتبرها إيران تاريخياً جزءاً من بلاد فارس الكبرى ومن الثقافة الفارسية. ولذلك فقد فضّلت موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة أن تتيح لإيران هامشاً واسعاً في هذه المنطقة أيضاً لمواجهة الصعود الاسلامي في القوقاز وآسيا الوسطى.

وكذلك يظهر العنصر الطائفي في السلوك الإيراني من تخوفه أن يمثّل نجاح نموذج أذربيجان (العلماني-القومي) خطراً على النموذج الإيراني الذي يقدّم نفسه من الزاوية الطائفية بحيث يصبح نموذج أذربيجان جذّاباً للشيعة الإيرانيين وللاذريين الإيرانيين أيضاً بشكل يؤدي إلى تقويض نموذج الحكم الإيراني الديني، وعليه ليس من المستبعد لجوء طهران إلى تقديم دعم عسكري لأرمينيا في مواجهة أذربيجان تحقيقًا للأهداف سالفة الذكر.

مستقبل الصراع

لم تعترف أي دولة أو منظمة دولية بشرعية الاحتلال الأرميني لإقليم "قره باغ" والأراضي الأذربيجانية الأخرى، رغم مرور ما يقارب 30 عامًا على الاحتلال، وخلال تلك الفترة اعتمد مجلس الأمن 4 قرارات تطالب أرمينيا بالانسحاب من المناطق المحتلة دون قيد أو شرط، لكن يريفان لم تمتثل لهذه القرارات.

ويطرح الجانب الأذربيجاني انسحاب الجنود الأرمن من المناطق المحتلة، كشرط لبدء عملية الحل، كما تعد حكومة باكو بحكم ذاتي رفيع المستوى لإقليم "قره باغ"، فيما تطالب أرمينيا أن يتحول الإقليم إلى جمهورية مستقلة عن أذربيجان.

القراءة الواقعية للصراع في ظل التصعيد الأخير يضع العديد من السيناريوهات لما يمكن أن يكون عليه الوضع مستقبلًا، أبرزها سيناريو (لا حرب لا سلام) وهو السيناريو التقليدي الذي ظل عليه النزاع بين البلدين منذ التسعينيات وحتى اليوم، حيث التأرجح بين الحين والآخر على أوتار المد والجذر في منسوب العلاقة.

مشكلة قرة باغ تكمن في أنها ورقة مهمة للروس من أجل الحفاظ على مصالحهم في القوقاز، وعليه فإن موسكو ليس من مصلحتها إنهاء تلك الأزمة بشكل كامل، فسياسة "اللا حرب واللا سلام" هي الصيغة الأكثر تحقيقًا لأهداف روسيا في تلك المنطقة الاستراتيجية من خريطة الطاقة العالمية.

والحكومة الروسية تعلم جيدًا أن تفوق أي من طرفي الصراع على حساب الآخر بشكل كبير يهدد نفوذها ومصالحها، ومن ثم ترغب في إبقاء المتصارعين في حالة وهن حتى إن بدا للآخر دعمها للأرمن عسكريًا، لكنه الدعم الذي يضمن عدم تفوق أذربيجان وليس العكس.

هذا السيناريو يروق للعديد من الأطراف الأخرى كذلك، كإيران مثلًا التي تقع على مقربة من خطوط الاحتكاك، ورغم العلاقات القوية التي تربطها بالأرمن على حساب جارتها، فإنها تتجنب التصعيد بين الطرفين حفاظًا على أمنها وتجنبًا لتصدير ما يحدث للداخل في ظل ما تعانيه من زيادة معدلات الغضب الداخلي خلال السنوات الأخيرة بسبب سياساتها في الداخل والخارج.

فالروس والإيرانيون يرون في اندلاع حرب شاملة استنزافا لقدراتهم وإمكاناتهم العسكرية في دعم حليفهم الأرمني، هذا بجانب مخاوف تداعيات التصعيد بما يهدد مصالح موسكو وطهران في منطقة القوقاز، ومع دخول تركيا بقوة على خط الأزمة حين أعلنت دعمها باكو بالسلاح والعتاد بات من الواضح أن سياسة "لا حرب ولا سلام" لم تعد مجدية، فمصالح القوى التي اعتادت توظيف تلك الحالة لصالحها أصبحت مهددة في ظل التوازن الذي أحدثه التدخل التركي.

وقد سعت أرمينيا خلال الآونة الأخيرة والقوى الخارجية التي تدعمها عسكريًا إلى إفشال كل محاولات التوصل إلى حلول نهائية لتلك الأزمة، استفادة من بقائها على هذا التموضع المفيد لتلك القوى، لكن الموقف التركي بعد اشتباكات 27 سبتمبر الماضي، غيّرت موازين القوى بين البلدين وذلك مقارنة بفترة التسعينيات.

وتعد روسيا المنافس الأكبر لتركيا في المنطقة، إذا أخذنا في الاعتبار عضوية تركيا في الناتو، فإن إنشاء قاعدة عسكرية تركية في أذربيجان لضمان التوازن العسكري والسياسي، وخلق ثقل موازن للقاعدة العسكرية الروسية في أرمينيا، وفي حال إقامة قاعدة عسكرية تركية لا يمكن ألا تؤدي إلى تعقيد العلاقات الروسية الأذربيجانية، وتصبح أيضاً مصدراً لقلق إيران.

وسوم: العدد 898